- كتب: محمد المخلافي
في قرية الجرف بني علي الصغيرة، الواقعة في عزلة هَرَبة بالقرب من مدينة حجة، كانت الحياة تسير بخطى هادئة. تضم القرية ثلاثة منازل فقط، محاطة بجمال الطبيعة من كل الجهات. ومع ذلك، كان هناك شيء مفقود: الأطفال الذين يملأون المكان بالحيوية والمرح.
منذ طفولته المبكرة، كان فارس يقضي وقته في تلك القرية، يهتم بالأرض ورعي المواشي. وسط مساحات الأرض الخصبة وقطعان الماشية، كانت رائحة التربة تدغدغ حواسه، وتمنحه شعورًا عميقًا بالانتماء إلى هذا المكان الذي يعشقه. على الرغم من العزلة، لم يشعر بالملل أو الفراغ، بل كانت تلك اللحظات الهادئة فرصة رائعة لتغذية خياله والغوص في أعماق ذاته.
مسار البحث عن الهوية الأدبية
كان فارس يقضي ساعات طويلة مع أخيه الأكبر الراحل، خالد (27 عامًا) – كاتب قصة قصيرة. كان خالد بمثابة المرشد له، يشاركه أفكاره وأحلامه. ورغم قلة الكتب في تلك القرية النائية، اعتمد الأخوان على بعض الكتب التي تركها والدهما رحمه الله، بالإضافة إلى الاستماع إلى برامج إذاعة صنعاء وبي بي سي لندن وراديو مونت كارلو. كانت هذه البرامج نافذة لهما على العالم الخارجي، تنقل إليهما قصصًا وأفكارًا جعلت خيالهما يحلق بعيدًا.
مع انتقالهما إلى مدينة حجة لإكمال دراستهما، بدأت معاناة جديدة من نوع آخر. أقاما عند عمهما من جهة أبيهما، لكن في حال صادفت الدراسة فصل الصيف، كان يتوجب عليهما العودة إلى القرية يوميًا سيرًا على الأقدام لمدة ثلاث ساعات لمساعدة والدهما في أعمال الزراعة. وخلال تلك المسافة، كان الكتاب رفيقهما طوال الطريق، حيث يفتح أمامهما عوالم جديدة من المعرفة ويخفف عن كاهلهما مشقة التعب. في كل صفحة، كانا يستكشفان أفكارًا جديدة، مما ساهم في تعزيز إصرارهما على مواصلة التعليم رغم التحديات.
في حجة، انضم فارس إلى العمل الحزبي ضمن التنظيم الوحدوي الناصري، وكانت هذه الخطوة نقطة انطلاق جديدة في رحلته الأدبية. تمكن من اقتناء المجلات والدوريات والصحف، وأتيحت له الفرصة للالتقاء بكتّاب وشعراء، مما عمّق تجربته الثقافية. بعد إنهاء دراسته في المرحلة الإعدادية، انتقل إلى صنعاء، وهناك بدأ رحلته الحقيقية مع القراءة والمعرفة. كان هذا التحول بمثابة الأساس الذي ساعد على تكوين الشاعر الذي يسكن داخله. التحق بالمعهد العالي للعلوم الطبية عام 1996، وكانت تلك فرصة للتعرف على مجتمع الكتابة والأدب، بالإضافة إلى التجمعات والمؤسسات والنقابات الطلابية النشطة في مجالات الثقافة والصحافة.
خلال تلك الفترة، شعر بفضول متزايد يدفعه للكتابة وتلخيص ما يقرأه. بدأ في تدوين بعض الأفكار والشخبطات الشعرية والمقالات، واكتشف أن الكتابة أصبحت جزءًا من حياته. تعرف أيضًا على مجموعة من الأشخاص الذين كان لهم دور كبير في توجيهه نحو قراءة مركّزة، حيث فتحوا له أبوابًا لعناوين وكتب جديدة. في المعهد، نشط في العمل الطلابي، وقاد تظاهرات تضامنية مع الشعب العراقي الشقيق، واحتجاجات ضد سلطة الرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح. وخلال تلك الأنشطة، تعرض للاعتقال عدة مرات، لكن تلك التجارب زادته إصرارًا على الاستمرار في مسيرته الأدبية والنضالية.
أولى نصوص فارس الشعرية
كانت انطلاقته في فضاءات الأدب حين كتب أولى نصوصه الشعرية بعنوان “دائمًا عودة” في سن الثامنة عشرة. ومنذ ذلك الحين، أصبح جزءًا من المشهد الثقافي في اليمن، حيث شارك في فعاليات اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، ومؤسسة العفيف، ومركز الدراسات والبحوث اليمني، وغيرها من التجمعات الأدبية.
يتمتع اليمنيون بموهبة فطرية في كتابة الشعر، سواء كان فصيحًا أو عاميًا، مما يسهل عليهم التعبير عن مشاعرهم في المناسبات المختلفة. ومع ذلك، كانت ميول فارس تجذبه نحو كتابة قصيدة النثر، ربما لأنه كان يبحث عن مساحة خاصة به بعيدًا عن الإيقاع الحماسي الذي يميز الشعر في منطقته. في هذه الكتابة، وجد وسيلة للتعبير عن مشاعره بعمق أكبر، بعيدًا عن قيود الأشكال التقليدية.
لا شك أن المعري والمتنبي وبودلير وت. س. إليوت يُعدّون من أبرز الشعراء الذين أثروا في مسيرة الشعر العالمي. هكذا سمعت الأستاذ فارس العلي ذات مرة في مقيل الأستاذ الصحفي هلال الجمرة، حيث قال إنه واحد من هؤلاء الشعراء الذين وجدوا أنفسهم مشدودين إلى القضايا الوطنية والعالمية، إذ تجتاحهم الأحداث والمواقف في حياتهم اليومية والعامة. وفي هذا السياق، لا تكون فكرة خلق النص دائمًا آنية، بل قد تمتد تأثيرات الأحداث إلى آفاق بعيدة، مما يتلاعب بمخاض النص ويزيد من تعقيده.
كما أضاف العلي أن الشعر، في تعريفاته المتعددة، هو حالة رؤيوية تعيد صياغة العالم من خلال حبكة لغوية رشيقة، تعبر عن “ما لا يمكن قوله وما لم يحدث بعد”، كما يشير الفيلسوف الفرنسي بول ريكور. وهنا تكمن قوة الشعر، إذ يعيد ترتيب الفوضى اليومية، ويحوّل الهواجس إلى لحظة من الهدوء والتركيز، مما يدفع الشاعر لبدء حبكة الكتابة بطريقة سلسة ومعقدة في آن واحد.
ومع ذلك، يواجه المشهد العربي، واليمني بشكل خاص، أحداثًا مؤسفة. فنحن نعيش في لحظة من التاريخ المعاصر مليئة بالألم، حيث تتزايد حالات القتل والجوع، وتتفشى الأزمات التي تشوّه الوعي والمستقبل. وفي ظل هذا الواقع، يجد الشاعر صعوبة في تجاهل كل ما يجري حوله. فالسيطرة على هاجس القصيدة بمشاهد الحرب وصور المعاناة قد تطغى أحيانًا على أي حالة جمالية ترتبط بالحياة أو الأمل. ففي الوقت الراهن، يسير العالم نحو مصير قاتم وصدامي، يتنافى مع قيم الحب والتسامح والسلام.
ومن خلال عمله مع المنظمات المحلية والدولية في مجالات التنمية والاستجابة الإنسانية وبناء السلام، شهد حالات يعجز الوصف عن التعبير عنها. فالكارثية واللاإنسانية التي تنتشر في المشهد تجعل من الصعب الابتعاد عن مآسي الواقع. لذا، يجد نفسه مضطرًا إلى كتابة قصائد تحاول التعبير عن هذا الوجع المستمر، محاولًا أن يترجم الألم إلى كلمات، رغم أن ذلك قد يبدو كأنه تخفيف من وطأته.
صائم أنشودة الجوع في زمن الحرب
قبل فترة، شهد منتدى فيصل سعيد فارع حضور مجموعة من الشعراء البارزين، يتقدمهم المثقف الموسوعي علوان الجيلاني، الذي يتميز بقدرته على الربط بين مختلف مجالات المعرفة. إلى جانبه كان الشاعر عبد المجيد التركي، الذي يضفي على الجلسات لمسة من الجمال بكلماته المعبرة. كما شارك في اللقاء الشاعران والأديبان جميل مفرح ومحمد العديني، بالإضافة إلى الشاعر والمثقف الجميل فارس العلي. وكان الكاتب الصحفي البارع مصطفى راحج حاضرًا أيضًا، يثري النقاشات برؤاه العميقة كعادته إلى جانب آخرين.
في تلك الجلسة المتميزة، دارت الأحاديث حول الشعر وآخر ما كتبه الشعراء. بدأ علوان الجيلاني بسرد بعض من أعماله، تلاه جميل مفرح وعبد المجيد التركي الذي قرأ بعضًا من قصائده من كتابه الجديد الذي يحمل عنوان “كبرت كثيرًا يا أبي”. ثم جاء دور الشاعر والمثقف فارس العلي، الذي قدم قصيدته الجميلة “صائم”، والتي تعكس حال المواطن اليمني في زمن الحرب والشتات.
صائم
الإهداء: للجوعى الذين يصومون كل الدهر عدا رمضان
الصائم الذي يجوع كل يوم على الأرصفة
ظل ينتظر المؤذن لسنوات طويلة
الصائم الذي يجرح مرورنا في الجولات ونظل نندم
حتى نهاية العمر
الصائم الذي يطعم نظراتنا بشفقته
الصائم الذي ينظر إلينا من باب شبعنا
ويجعلنا ننظر إليه من جوعه
الصائم بلاد فقراء وجائعين لا أمل لهم بأن ينتهي صيامهم
الصائم حلم الغريب للحصول على قطعة خبز
الصائم الذي يبحث عن صوت المؤذن بالقرب من براميل القمامة
الصائم الذي لا يجد ملبس ولا حذاء يقطع
به مسافاته في الشجن
الصائم صديق البرد القارس
الصائم الذي لا يدري..
أين يذهب؟!
وماذا يعمل؟!
يمل كل شيء وتمله الأشياء
و…
الصائم الذي يحمل آمال وأحلام احدودبت
ولم يصل
… الصائم فقير بداخلنا عندما نجوع
الصائم..
…….. ………..
الصائم لحظتنا جميعًا قبل حصولنا على الأشياء
الصائم كلنا لا نتمنى أن نكونه
مختلف..
عكسنا تمامًا
يصوم الدهر من كل شيء
إنه يطيع الله دون أن يدري.
دون أن يدري.
القصيدة تتحدث عن معاناة الصائم الفقير، وهي رحلة مؤلمة من الجوع والألم والانتظار. الشاعر يرسم صورة قاتمة للصائم الذي يعيش على هامش المجتمع، ينتظر المؤذن لسنوات طويلة، يبحث عن قوت يومه بين براميل القمامة.
الصائم هنا رمز للفقر والمعاناة، إنسان مهمش، يحمل آمالًا مكسورة وأحلامًا مشوهة. يتنقل بلا مأوى، بلا حذاء، يصارع البرد والجوع، يراقب الآخرين وهم يأكلون دون أن يملك شيئًا.
الشاعر يجعل من الصائم مرآة للضمير الإنساني، يذكرنا بفقرائنا وضعفائنا. يقول بوضوح إننا جميعًا صائمون بطريقة ما، لكننا لا نريد أن نكون مثل هذا الصائم المعدم.
في النهاية، الصائم يظل يطيع الله دون وعي، يصوم الدهر كله، يحمل روحانية عميقة رغم قسوة الواقع.
قصيدة أخرى تلامس معاناة الناس بعنوان “شرنقة تفقس بلونها الخاص”:
شرنقة تفقس بلونها الخاص
مزامنة أغنية يعزفها البحر وترقصها اليابسة
نجعل إحدى الجميلات تبكي
ثم نجد منديلاً صغيرًا نمسح الفقراء المتساقطين كعصافير من عيون الحرمان
ندفنهم في الورود
كل أمنية شرنقة تفقس بلونها الخاص
تشكل الأحلام تهامة مُتخيلة من ضلع الجنة
الفقراء المُصمته معاناتهم دموع مكتنزة
لحن عَصي العزف
كالعصافير المقفصة: عندما أطلقناها عاد الفضاء في الأغنية للتحليق مجددًا
لا ندري ضحكة مَن ذلك النهر
إن لم تُروى به الورود فسيسقيه البحر دموع ضالة
البحر أحزان مفقودة لا يُعرف بعد أصحابها
يعاني البحر مرارة أغنية ليلية
تداخلت معها مقامات الرقص لحظة أنين ناي شكلته الزوبعة نفسها
مذ ذلك الحين..
اضطجع اليابس ثقب المحيطات المحرومة:
شهيق الجزر
زفير المد
ثم تولد كائنات البحر العجيبة
تسبح مبتهجة بين كل تلك المرارة.
يرتفع ضغط البحر
لأن خلاف عشاق متكاثر
…………………………….
يقدم الشاعر لوحة شعرية معقدة تمتزج فيها الواقعية والرمزية، حيث يصور الشاعر معاناة الإنسان والطبيعة في تداخل عميق وملحوظ. يتجلى هذا من خلال صورة الفقراء المهمشين، المشبهين بـ “عصافير مقفصة” التي تنتظر التحرر.
يرسم الشاعر البحر كفضاء رمزي مليء بالأحزان والولادات، حيث تتشكل الأحلام كـ “شرنقة” تنبثق بألوانها الخاصة. هذه الشرنقة تمثل رمز الأمل والتجدد رغم قسوة الواقع، فرغم المعاناة والحزن، تظل الحياة قادرة على إعادة إنتاج نفسها.
لغة الشاعر الرمزية والإيحائية تنجح في نقل تعقيدات التجربة الإنسانية، حيث يمزج بين اللحظات المأساوية واللحظات المشرقة بطريقة شاعرية عميقة، مؤكدًا على جمالية الألم وقدرة الإنسان على التجاوز.
كتابان جاهزان رغم التحديات
في مسيرة الشاعر فارس العلي، يتجلى الوعي العميق بأهمية دعم المواهب الإبداعية في المجتمعات. فقد قام بتنفيذ مشاريع مبتكرة في المدارس الأساسية والثانوية، حيث أسهم في تعزيز مجالات الشعر والقصة والفنون الأدائية والتشكيلية. كان هدفه الأسمى هو إعادة توجيه أعمال الشباب لتتحدث عن السلام، بدلاً من التوترات والحروب التي كانت تملأ أفكارهم. لم يكن لهذا العمل صدىً إيجابي في المجتمع فحسب، بل ترك أثرًا بالغًا في نفسه، إذ أدرك أن الفن يمكن أن يكون وسيلة فعالة للتغيير الاجتماعي.
رغم نجاحاته في دعم المواهب، لم ينشر فارس العلي أي كتاب حتى الآن، وهو ما يعود جزئيًا إلى فقدانه لثلاث مجموعات شعرية كانت جاهزة للطبع نتيجة عطل في جهاز الكمبيوتر الخاص به. إضافة إلى ذلك، جاءت فترة الثورة اليمنية في عام 2011، التي تحولت لاحقًا إلى دوامة من الحرب والتمزق. في تلك اللحظات المؤلمة، شعر الشاعر بأن الكتابة والنشر أصبحتا “حالة من العته”. لقد كان الواقع أقوى من أي كلمات، مما جعل الكتابة تبدو وكأنها تائهة في خضم الفوضى.
ومع سيطرة وسائل التواصل الاجتماعي على حياتنا، صار لكل شخص مقولات وحكم وأفكار تتردد في الفضاء الافتراضي. في الوقت الحالي، يبدو أن الذكاء الاصطناعي يسعى إلى إخماد الكتابة وإخضاع المشاعر والأحاسيس لآليات تسويقية. في ظل هذه الظروف، يصبح من الطبيعي أن يتذمر الكتاب والشعراء والمبدعون من وضع النشر.
إلى جانب جهوده في الكتابة، كان لفارس حضور فعال في المجتمع. انصب اهتمامه على دعم التنمية في المجتمعات الريفية، حيث كرّس جزءًا كبيرًا من وقته لهذا الهدف. ومع ذلك، لم يتوانَ عن المشاركة في فعاليات ثقافية محلية ووطنية، مثل فعاليات صنعاء عاصمة الثقافة العربية عام 2004 ومؤتمر الشعراء الشباب. كما ساهم في تأسيس منتديات وروابط أدبية وفنية، مؤكدًا على أهمية التواصل والتفاعل بين المبدعين.
رؤية فارس لمستقبل الكتابة
يسعى فارس دائمًا إلى استكشاف آفاق جديدة في تجربته الشعرية، مؤمنًا بأن التنوع والتجريب هما مفتاح الإبداع. يطمح إلى تجربة أشكال شعرية مبتكرة تفتح أمامه أبوابًا جديدة، وتتيح له التعبير عن مشاعره وأفكاره بطريقة متميزة. يأمل أن تكون قصائده مصدر إلهام وإيجابية للآخرين، تعكس جمال الحياة وتفاؤلها حتى في أصعب الظروف.
لهذا الغرض، يرغب فارس في نشر أعماله في الدوريات والمجلات الأدبية العربية والعالمية، والمشاركة في الأمسيات الشعرية والمهرجانات الأدبية. هذه الفعاليات تمنحه فرصة التواصل مع شعراء آخرين وتبادل التجارب معهم، مما يعتبره جزءًا أساسيًا من نمائه كفنان. هذا التبادل يساعده على التعلم والتطور، ويعزز من رؤيته الشعرية.
أيضًا، يتمنى فارس أن يسهم في تطوير المشهد الشعري العربي، تاركًا بصمة واضحة في الثقافة العربية. ومع ذلك، فإن الظروف الصعبة التي يمر بها اليمن تشكل تحديًا حقيقيًا. يتطلع إلى أن تنتهي هذه اللحظة الكابوسية بسلام، ليتمكن الجميع من العيش في بيئة إبداعية مميزة. يسعى لرؤية الكتابة والتأليف تزدهر في فضاء صحي وسليم، حيث يمكن للفنانين أن يعبروا عن رؤاهم بأمان وحرية.
على الرغم من هذه التحديات، يبقى فارس متفائلًا، مؤمنًا بأن الإبداع قادر على تجاوز العقبات وخلق مساحات للسلام والجمال. وسيواصل سعيه لتحقيق طموحاته الشعرية والثقافية، آملًا في تركيز الضوء على المشهد الإبداعي اليمني في المستقبل.
كاتب وصحفي من اليمن
- عن صحيفة راي اليوم “اللندنية”.