- ضياف البراق
الشارع طويل، طويل جدًّا، لكنني قطعته من أوله إلى آخره مشيًا على الأقدام، ولم أشعر بأي تعب، وكذلك لم أذرف فيه ولا دمعة واحدة على الوطن الضائع أو على الأصدقاء الجميلين الذين قتلتهم الحربُ.. فماتوا قبل لقائي بهم بلحظات قصيرة. الشارع طيب للغاية؛ لمْ يخسّرني سوى علبة تبغ كاملة، قاتلة، من نوع (شملان!)، وقرابة ساعة من عمري الموشك على الانتهاء، لكنه لم يساعدني إطلاقًا أثناء محاولاتي العديدة فيه لنسيان جملة كبيرة من أحلامي البسيطة التالفة.. جملة أحلام منكوبة صارت مستحيلة على التحقُّق والنسيان؛ لذا صارت ترهقني في كل مكان وتُنهِكُ عيشتي دومًا. الشارع، بالطبع، لم يسألني من أنا، وهل أنا رجل أم امرأة أم بيت صغير بلا ضحايا.. بيت هارب من مناطق القصف الحربي، وهل أنا طفل أم كهل عجوز، وما إذا كنتُ جائعًا أو عَطِشًا أو ضائعًا، أم لا… الشارع لم يسألني ولا عن شيء من هذه الأمور التافهة كثيرًا بالنسبة إليه!
الشارعُ مُوشِكٌ على ترْك وظيفته الأصلية كشارع ويصبح إلهًا؛ فالله موجود فيه بكثافة لغوية شكلية هائلة، إذ ترى اِسمَهُ يتلألأ على جميع الجدران ولافتات الدكاكين والمحلات وفوق شرفات المنازل حتى.. الله هنا يتألق على الدوام، يتألق ولكن في غير مداره. (يجب أن يتلألأ في أرواحكم ويتجسّد في أخلاقكم، وليس على الألسنة والجدران والشعارات..).
بقالة ما شاء
الله، مسجد الرحمن الرحيم، مطعم توكلنا على الله، صالة عاشق الله ورسوله،
مخبز المؤمن بالله، ملحمة على بركة الله… هذا فقط جزء صغير من لافتات
كثيرة، طويلة وعريضة.. لا فتات تجارية بلا حصر تحمل اسم الله!
أفكر في أن أسمي هذا الشارع.. شارع لصوص الله.. أو مثلث برمودا… هذا مجرد تفكير
عابر وحسب. لقد كنتُ أقرأ اللافتة تلو اللافتة، وكان الخوفُ يصيبني مرة بعد مرة.. وقلقي يزيد خطوة بعد خطوة.. أقرأ اللافتات الخادعة وأحاول بارتباك
شديد.. كنتُ أقرأها وأحاول في الوقت ذاته أن أُخبّئ جيوبي الفارغة داخل
جيوبي الفارغة.. خشيةَ أن يسرقوني!
خرجتُ من الشارع بسلام عجيب..
هذه معجزة.. حتى أنا لم أصدقها!.. فور خروجي منه قررتُ نهائيًا ألا أعود
إليه إلى الأبد.. لن أمر فيه ولو حتى بذاكرتي.
ترعبني عادةً الشوارع
التي تمتهن الله.. تبتذله طول الوقت.. تغش وتسرق باسمه.. الشوارع التي تجعل اللهَ مجرد أداة شعاراتية تنويمية لتحقيق أغراض انتهازية أو ربحية غير
منزهة.
وهنا يقول جاري السكران: الله مطلق الحب والجمال، سيمفونية كاملة، فريدة، نلجأ إليها حين نشعر بالخوف أو نفقد الأمل، وليس أداة أو علبة ألوان للإعلانات والتسويق.. ولا آلة للقمع والنهب والإلغاء. الحب الديني الشكلي.. خطير دومًا!
ما أجمل الله.. وما أقبح المتاجرة به!