- جمال حسن
ثم مازلنا على هذه الحال نتحدث والجحيم يضطرب حولنا بأهواله، حتى ظهر موكب
طويل تشكله عربات مفلطحة, تطقطق في مقدماتها جماجم سوداء صغيرة. واصوات
ابواق ضاجة تصك الآذان بحدتها، هي الأكثر كآبة. وشكلت الآلام المنبعثة من
بعيد جوقة بشرية مروعة وشديدة القبح، فدبت الزوامل الفاجعة بأصوات تزبد
وتحشرج متوعدة بعذاب لم يروه من قبل.
كانت ارتال العربات الضخمة تمر
بإطارات من الريح، وإن كانت حركتها بطيئة فوق الطرق المعبدة باللهب. ولاحت
اضواء شاحبة على سقف الجحيم، ملبدة بدخان قرمزي، ليتشكل افقاً جميلاً في
بعض الزوايا، بحيث لا تتراءى مخلوقات النار الهمجية وطيورها العملاقة،
والتي سيبدو امامها الرخ الأسطوري، مثل وطواط في نظرنا. وعلى مدى البصر،
انتصبت افاعي رهيبة كأبراج هائلة، بمقدورها ان تلتف حول الارض مرات،
وتسحقها الى غبار.
والغريب ان المركبات تحمل لوحات معدنية كُتب عليها
اسماء مدن مثل؛ ابوظبي، دبي.. كانت في مظهرها اقرب الى فخامة امريكية فضة.
وياله من اغراء جحيمي يقتاد باغياً بإيهامه انه سينال التكريم الذي كان
عليه في الدنيا الخادعة. كان محمد بن زايد محاطاً بحاشيته ومرتزقته، وفي
مركبة مزودة بكل اشكال التكييف لا يدرك اين طريقه، وكم ستكون طامته ملقياً
في الهوان وعذاب السعير. تساءلت إن كان لقي حتفه وانا في طريقي الى الجحيم، إذ كان لا يزال ينشر بأمواله الخراب.
وظهرت اطقم عسكرية كُتب على لوحاتها اسماء مثل: الحزام الأمني، النُخبة. وأي عذاب ينتظر بائعي الأوطان.
ولاحظت في الطريق المنحدر اشجار اكاسيا شوكية، كتلك التي في طرقنا. واوقفني مُسلح. “من اين انت؟” سألني دون ان ينظر ناحيتي.
من العُدين، اجبت.
اعطني بطاقتك الشخصية يا صاحب إب.
فتشت جيوبي، دون ان اعثر على ما يثبت هويتي، وتساءلت إن كان الجحيم يطلب
من ساكنيه هوياتهم، او اني اسافر في اليمن بينما اهوال الحرب تضاعفت
بتصورات مريعة.
نظر المسلح نحوي، وفجأة تشكل ثقباً في محيط عينيه،
ليبرز عظام وجهه بينما بدت عينه بحجم قبضة طفل. وبدا انفه الصغير مقوساً
كمقبض عصا، فيما تحفر وجنتيه تجاعيد يمنية، ويسيل من فمه سائل اخضر لزج اثر مضغه القات (وهو ما يجعل قات الجحيم مختلفاً عن الأرض).
لكني شعرت
بالفزع مما ينتظرني وسألت نفسي، إن كنت سأبقى محتجزاً في الجحيم تاركاً
عائلتي خلفي. وغمرني شوق لحياة الفناء قرب احبتي واصدقائي، وعالمي بين
البيت والغرزة، وماذا سيفعل برشلونة في بطولة الابطال، تُرى هل ستتكرر
فاجعة ليفربول هذا العام. لأن التفكير بمآل اليمن يثير الشيب حتى في هذا
العالم.
وهل سيصدقوني ان اخبرتهم عن زيارتي الجحيم وهذا الملكوت، كما
لو كنت حقاً في رسالة الغفران للمُعري، او الكوميديا الإلهية لدانتي، وإن
ارى ما لم يتصوره خيال البشر حتى ما صوره مايكل انجلو على كنيسة القديس
بطرس. فربما بدوت لهم بلغت في هذياناتي المُتخيلة حداً من الجنون لا علاج
له.
تفرست في المكان وكأنه قطعة سبق ورأيتها لولا انها ايضاً ما لم تره عيني او تتصور منظره. ولاحت اقمار تثير القشعريرة بألوانها الخرائية، اذ
توزع الكآبة على سكان هذا العالم.
رفع المسلح صوته: هات تلفونك، وصُعقت لأنه كيف يمكن للمبعوثين بعد الموت ان يحملوا تلفوناتهم او أي من
ممتلكاتهم. وما ان تحسست ببلاهة جيبي شعرت بملمسه، حككت أعلى رأسي حائراً،
وفكرتُ بأمور مُحرمة نسيت حذفها، موزعة بين السياسة والغزل! وفكرتُ ماذا إن كانت زوجتي بجواري. لأني كنت سأفضل البقاء في الجحيم على ان اصطلي بنار
غضبها مما اقترفته.
*********
صعدت السقف لأمسح الألواح الشمسية، وقادني الفضول الى قٌمرة حملتني الى بوابة الجحيم. اي قدر اقحمني في ما انا فيه الآن.
لكن يد المسلح الممسكة تلفوني انسلخت، وتآكلت كورقة محروقة، لتطقطق اطراف
العظم وصعد صوته بألم مدوٍ. ثم دخل مسلح آخر يسأل إن كان بيننا دواعش.
ارعبني وعيناه اصبحتا كرتا نار، واختنق صوته مشيراً لي بالمضي قُدماً. على
الأقل تنفست الصعداء ومضيت في الطريق الى سُقر، احد مسميات النار.
وبعد مسافة اوقفتني نقطة اخرى؛ حيث استقبلني مسلح شاب بنفس السؤال، من اين انت؟ المختلف لهجته فقط, وكذلك ولاءه.
كان رأسه الصغير مربوطاً بمشّدة، لطالما شاهدتُ يمنيون يرتدونها، كانت
تخفي معظم جبهته الضيقة، ويلقي ذيلها على صدره. ولاحظت حركته العصبية،
وايضا السائل اللزج من فمه، حتى انه صرخ في وجهي حين عرف اني من الشمال او
بدقة جغرافية اكثر من الوسط، سأل عن سبب ذهابي الى عدن. وصاح مراهق: اخرجوا يا دحابشة من ارضنا. وباشارات تدعوني بالعودة الى بلادي. هكذا كنا نُمنع
في بلدنا بينما يُرحب بالغزاة فيه، وبطرق مختلفة هنا وهناك.
اخبرته
بأنني في الطريق الى سُقر، وليس الى عدن. وسرعان ما اوضح لي، بأني مازلت في اليمن، اذ ان الطريق الى سُقر، لا بد ان يمر عبره.
*******
ومثل
السابق، حدثت عذابات لهم وإن بطرق مختلفة، اذ ضربه صاعق في فمه، ثم اشار لي مسلح آخر: امشي يا دحباشي. وسمعت احدهم يقول هذا لغلغي. واختلطت الأشياء
حولي. اين انا بالفعل، ولولا ظهور ابو نواس فجأة، لما كنت عرفت اني في
الجحيم.
ثم عاد لي وعيي، مستوعباً المشاهد التي تُميز الجحيم عن الأرض
وإن عشنا بعضها في اليمن. غير اني كنت محايداً، لا تشملني عذابات الجحيم.
وقلما شعرت بخوف هناك، مدركاً ما انا عليه، او كأن الرعب يكون اشد وقعاً في حياة الفناء.
وكان الوشاة والنمامون مرصوصين على جنبات الطريق؛ هم
التائهون في فلوات الجحيم. وكان اولئك بأجساد دبقة، تغطيهم اسلاك طحلبية،
وتنفث فيهم السموم، لتجعل اجسادهم اشبه بموميات فرعونية، عدا ان وجوههم
الفاغرة تعبر عن الخوف والعجز. وامتدت امامنا صحاري شاسعة موشاة ببحيرات
سوداء مغلية.
قلت: يبدو ان بعض سكان الجحيم لديهم من حرية التصرف ما يحلو لهم.
اجابني ابو نواس بأننا نمضي في العالم المُحترب من الجحيم. لافتاً الى ما
يلقوه من اصناف العذاب فطرق موتهم تشمئز منها النفوس. وهم مسعرّي الحروب
ووقودها في الأرض.
لكن على ماذا يحتربون هنا؟
كأن احترابهم في
الحياة الفانيةَ اختلف عن هذا! رد دون ان ينظر لي، وصمتُ بعض الوقت ولاحت
احراش شوكية في فلوات الجحيم. اذ اننا لم نخترق الصحاري حتى لا نتوه كما
يلقى بعض المُعذبين اصنافاً من الآلام هناك.
قلتُ فجأة: كانت تغريهم مطامع الدنيا.
وامتقعت نظرة ابو نواس، كأنه الندم، لكن لا شيء من ذلك لأن تنهيدته انتهت بابتسامة ساخرة، ولفظ: ما اطماع الدنيا الا جهلاً وغرورا.
واحاطت بنا اصوات الجحيم من كل جنب، فبدت الأشجار مُحملة بيرقات مقززة،
وثمار ماع ملمسها، ثم تلك المياه المخلوطة بفضلات تعفُ منها النفس. ورأيت
اشجار القات، تبدو وحدها زاهية بأوراق يمكن تناولها هُنا. واردت فعلاً
تجريبها لولا اني لم اجرؤ. اظن ان اليمني المولع بالقات سيفضل الجحيم عن
الفردوس، إنهم كُثر مثل الأبله الذي يدفعه الولع بالقات بتمني جحيم اليمن
بدلاً من التنعم في جنة سويسرا.
وعادت المواكب التي رأيناها سابقاً
تلتف ببطء، في مقدمتها خيول وحشية تجر عربات الذهب، وخزائن مليئة بالعملات
الصعبة. كان بن زائد مُحملاً الى الجحيم بمصاحبة كل امواله التي وزع منها
الحروب، وكذلك شيوخ اخرين سنراهم بعقالاتهم. وقلتُ لنفسي ما ضرني لو اخذت
منها قليلاً يغنيني بقية حياتي الفانية. وكم اسفت ان ذلك غير ممكن ابداً.
وانشدهت لأني لم افقد رغبتي بمتع الحياة، رغم ما اشاهده حولي من اهوال.
لكن كل شيء هنا من مُتع الدنيا وزهوها، لا يمكن الانتفاع به. وتذكرت ما
قاله القرآن: “ما اغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه”. وكم يمتلأ الجحيم
بالأهوال العظيمة، وعذابات سنروي عنها لاحقاً.