- ضياف اابراق
مر باص قديم وأنا على جانب من الطريق، منتظرا تحت ظل شجرة تبعثره أشعة الشمس غير المستقرة على حال. رفعت له يدي فتوقف بسرور مبالغ فيه.
صعدتُ مسرعًا وجلست على مقعد شاغر.
مقعد لا يصلح لشخص عجيزته بلا شحم، مثلي. لقد جلستُ فيه ولا بأس، فالأمر ضروري.
في هذه اللحظة بالتحديد كان الباص مزحومًا عن آخره، حتى لم يبقَ فيه مجال لوجهٍ آخَر.
شبابيك الباص مفتوحة كلها، وريح شديدة في الخارج، ولكن ليس من هواء يدخل أنفي أو يلامس شعرة واحدة في وجهي، ولستُ مزكومًا أبدًا.
المهم، تحرك الباص مسرعا مواصلًا المسير وبعد أمتار قليلة اختفى من الطريق، واختفينا نحن أيضًا، وشعرت بهذا الحادث وحدي.
البقية لم يشعروا قط.
نعم ولا شك لقد اختفى الباص، مُختفيًا بنا.
شعرت بهذا بكل حواسي، أجل، أنا فقط من شعر بما حدث للباص ولنا.
دائما، هنالك قلة قليلة من البشر هي التي تشعر بالذي يحدث في هذا العالم العجيب الغريب.
كنت أحس بالحركة وأسمع الأصوات بما في ذلك صوت المحرك المزعج، ولكن لا أرى الوجوه ولا الطريق ولا الجهات. أكاد ألمس وجهي، وجهي فقط، أكاد وسرعان ما يتلاشى من يدي.
لا شيء هنا، لا من قدامي ولا من خلفي.
أؤكد لكم أن عيني ليستا مريضتين، ولا أعاني من أي خلل في الرؤية. إنني سليم ومعافى من الناحية الطبية، في كل أنحاء جسدي.
أصرخ بالسائق كي يتوقف لأنزلَ ولكنه لا يسمعني ولا يراني جالسا على مقعدي المُقلِق.
لا السائق ولا أنا، كلانا لا يرى الآخر.
بالتعبير الأدق، الجميع لا يرى الجميع.
غير أنني أشعر بكل شيء.
أعاود الصراخ بصوت أعلى فأعلى، لكن صوتي لا يصل إلى أذن أحد.
أين نحن؟
أين الباص؟
هل من سامع يسمع ندائي بينكم؟
لم يرد أحد.
أشم الآن الدخان الكريه الرائحة الذي ينفثه المحرك عبر الشكمان، ولكنّي لا أرى شيئًا.
أريد النزول الآن، الآن، والأمر ليس بيدي.
واستمر بنا هذا الاختفاء الغامض إلى الأبد.
يبدو أنني سأظل أصرخ هكذا في هذا اللا مكان القارسة برودته، دون جدوى.
صراخ إلى ما لا نهاية، وباص لا يتوقف ولا يظهر لي.
جميع صرخاتي، داخل هذا الباص، هي كمثل طلقات في الهواء.
وها أنا الآن أبدو مثل كلمة سر أو لقمة صغيرة ابتلعها قبر بحجم صحراء.
قبل هذا الاختفاء غير النهائي، قال لي عجوز طيّب في القرية، أيام صراخ مراهقتي: اهدأ يا ولدي، مهما صرختَ فلن يسمعك أحد. الصراخ بكل أنواعه، لا معنى له.
ثم تابع وهو يبتسم لي بمنتهى اللطف: وقد تكون حياتك كلها أشبه بطلقة في الهواء، لها صوت ولكن ليس لها معنى.
وقد اختفى ذلك العجوز هو الآخر، قبل أن يراني على هذه الحال.
قال لي: اعمل ولا تصرخ.
اعمل ولا تتكلم.
المعنى يصنعه الفعل، لا الكلام.