- كتب: د. قاسم المحبشي
فيما يشبه التهنئة بجائزة الدوحة للكتاب العربي
أن تأتيك دعوة كريمة من مؤسسة ثقافية عربية لا تعرف أحد في ادارتها الرشيدة، معرفة شخصية؛ دعوة بغرض المشاركة بتأسيس مشروع ثقافي استراتيجي رائد في الوطن العربي فهذا بحد ذاته يدل على تحول نوعي يجري في واقع العربي الراهن. تلك الدعوة الكريمة وصلتني بالايميل من (جائزة الدوحة للكتاب العربي) واليوم حفل الافتتاح تحت شعار ( للعلم حياة .. مسارات وشهادات) ولما كنت اعشق القراءة والكتابة منذ طفولتي فقد صادفت دعوة كتارا الطيبة هوى في نفسي وتداعت في خاطري الفكرة التالية: لا قيمة ولا أهمية للأفكار المجردة إذا لم تتحول إلى مؤسسات مدنية ثقافية متجسدة مؤسسيا في عالم الممارسة الاجتماعيّة للناس الساعيين إلى تحقيق أهدافهم . الممارسة التي تعبر بوضوح عن معناها حسب بول فيين, “إذ هي ليست مثالا غامضا أو أرضية تحتية للتاريخ أو محركا خفيا, بل ما يفعله الناس” في حاضرهم المباشر, حيث يكدون ويكدحون ويتدافعون ويتسابقون ويتنافسون ويتصارعون في سبيل الحصول على مقدرات وعناصر العيش المادية والمعنوية، حيث تكتسب الخطابات والرموز والتصورات والأسماء والمسميات والتعريفات والصفات والهويات الفردية والجمعية أهميتها وقيمتها وفاعليتها ودلالتها،وقوتها وسلطتها, إذ إن سلطة الكلمات والرموز لا توجد في ذاتها وبذاتها, بل تكتسب سلطتها واهميتها الحيوية من خارجها ممن يحولونها إلى مؤسسةً ففكرة العدالة مثلا بدأت فكرة مجردة في كتاب الجمهورية عند أفلاطون فتحولت إلى مؤسسة المؤسسات العامة( أي الدولة الدستورية) في العصور الحديثة والحرية بدات فكرة مجردة في عصر النهضة فتحولت إلى مؤسسة المنظمات المدنية في العصر الراهن والمعرفة العلمية بدأت فكرة مجردة في العصور القديمة وتحولت إلى مؤسسة في العصور الحديثة وقد ارتبط نمو ونجاح مشروع الحداثة والتحديث منذ البداية بالقدرة على تحويل الأفكار المجردة إلى مؤسسات مجسدة، إذ أن النقطة المركزية في دراسة نمو العلم والثقافة العلمية تتصل بوجود دورا معترف به اجتماعياً للعلماء والمثقفين ومقدرا تقديراً إيجابياً في ثقافة المجتمع المتعين،، وهذا معناه أن المشتغلين في الثقافة بوصفة القوة الإبداعية في التاريخ تشتمل على العناصر الأساسية الثلاثة ( العلم والفن والأدب) ليسوا أشخاصاً معزولين عن مجتمعهم، بل هم فاعلون ثقافيون يعتمد وجودهم واستمرار نشاطهم على شبكة واسعة من الدعم والإسناد المؤسسي على شكل فرص للممارسة النشاط الإبداعي والمنافسة الشريفة بين الفاعلين الاجتماعيين في الدراسة والتعليم والبحث العلمي والإبداعي في مختلف المجالات الثقافية والإبداعية الجديرة بالقيمة والاهمية وتوفير فضاء لمناقشة نتائج أبحاثهم ونشرها، والتقبل والاعتراف الاجتماعي الضمني بهم بصفتهم علماءا وكتابا ومبدعون يحظون بالقيمة والتقدير الايجابي في مجتمعهم. وأخيرا الجزاءات التي ينالونها مقابل القيام بأدوارهم المتعددة تلك ومنها: دور المعلم أو الأستاذ ودور الباحث العلمي ودور الكاتب ودور الأديب ودور المثقف ودور العضو في القسم العلمي ودور المدير أو العميد الإداري, ودور المناقش أو المحكم العلمي في ريازة الأبحاث والأطاريح العلمية أو حارس البوابة. وربما كان غياب هذه الأدوار المفترض الاعتراف بها وتقديرها اجتماعيا في الثقافة العربية الإسلامية سبباً من أسباب تخلف المجتمعات العربية والإسلامية وعدم قدرتها على مواكبة التحولات الحضارية الجديدة للبشرية بحسب توني هب، في كتابه المهم، فجر العلم الحديث؛ مقارنة بين الأسلام والغرب والصين)، إذ أشار إلى أن غياب دور العلماء والكتاب والمثقفين المستنيرين اوتهميش قيمتهم ومكانتهم الاجتماعية في المجتمعات العربية الإسلامية التقليدية بالقياس إلى الحضور الطاغي لفئات اجتماعية أخرى أمثال: المشتغلين بالسياسة والسلطة، والفقهاء ووعاظ السلاطين والعسكريين وغيرهم من النخب التقليدية الذين يتمتعون بقيمة ومكانة اجتماعية عالية، إنما يعبر عن تدني الوعي العام بقيمة العلم والثقافة بوصفها قوة التآريخ الإبداعية ومن ثم بقيمة الإنسان وحقوقه الأساسية بوصفه معياراً وهدفاً وغاية للتتنمية المستدامة، كما أشار امارتيا صن “أن حرية الإنسان هي الغاية والهدف الأسمى لكل تنمية ممكنة، تلك الحرية التي تعني المقدرة على الفعل والاختيار و التفكير والإبداع”وليس هناك ما هو أهم من تأسيس جائزة للكتاب الكُتاب في العالم العربي الراهن إذ إن الكتاب هو المعلّم الأوّل للبشريّة وفوائده تكاد لا تحصى، فهو ثقافة وتوجيه، معرفة وتعليم، والمجتمع مسؤول عن تدريب الأبناء على صحبة الكتاب، لأنّه غذاء للعقل، والمكتبة هي المكان الذي توفر للإنسان فرصة المكوث الطويل في المكان الجدير بالزيارة بهدف القراءة والبحث والتنقيب في كنوز العلم والمعرفة والآدب والثقافة وقد كان ولا زال الكتاب خير جليس وصديق وأنيس لطالبين المعرفة العلمية من مصادرها الأصلية حتى في الظروف الموحشة.
وبمناسبة الحديث عن الكتب والمكتبات.
تجدر الأشارة إلى أن مكتبة قطر الوطنية في الريان، الدوحة تعد من اجمل وأفخم المكتبات العربية التي زرتها في حياته.. حينما تدخلها لا تود أن تخرج منها ؛ تم تصميمها تصميما بديعا فضلا عن ترتيبها الفني الداخلي الذي يجمع بين الفخامة والتناسق والجمال والكفاءة والسرعة والأريحية إذ تضم أكثر من مليون كتاب مطبوع في مختلف التخصصات الثقافية والمعرفية وأكثر من 500 ألف مادة إلكترونية تتنوع بين الكتب والدوريات والصحف وغيرها من المواد، فضلًا عن المجموعات الخاصة. وبالإضافة إلى ما سبق ذكره، يتميز فريق العمل في المكتبة بأنهم من أصحاب الخبرة في التدريس ومهارات البحث العلمي والتوعية المعلوماتية والبرامج وإدارة المعرفة. ومن خلال ضم خبرتهم للمثل والقيم التي تنتهجها مكتبة قطر الوطنية في تقديم الخدمات المعرفية، يستطيع جميع أفراد المجتمع في قطر الاستفادة من الكثير من الفعاليات والبرامج والأنشطة التعليمية.
والكتب والمكتبات هي أهم مقومات التنمية الثقافية المستدامة حيثما وجدت
والثقافة هي حيلتنا الوحيدة في أزمنة المِحنة والضيق! والقراءة هي زاد العقل وملاذه الأخير ، فالعقل مثل الأرض مهما كانت درجة خصوبتها لا تنتج الثمار دون حراثَة، وهكذا هو العقل مهما كان نابها وذكياً لا ينتج الافكار والمعارف المبدعة والجديدة والمفيدة دون قراءة مقصودة بشغف ورغبة أكيدة وتعد الكتب وجوائزها بمثابة الروح من الجسد بالنسبة للنمو الثقافي المستدام، ففيها كنوز العلم والمعرفة العلمية وخلاصة الحكمة والفكر والثقافة الإنسانية المتنامية منذ فجر التاريخ البشري،وقد ارتبط التعليم الجامعي بالمكتبات العلمية التخصصية منذ تأسيس المؤسسة الأكاديمية الحديثة قبل ثمانية قرون، إذ كانت المكتبة التخصصية هي اللبنة الاساسية الصروح الأكاديمية، وكان الشرط الأول لتأسيس الجامعات الأكاديمية هو توافر مجموعة من المصادر والمراجع العلمية في التخصص المطلوب. وهكذا تطورت المجتمعات الحديثة بتطور مؤسساتها الثقافية ومنها مؤسسات تشجع الكتب والكتابة الإبداعية كما جاء في مشروع ( جائزة الدوحة للكتاب العربي) إذ جاء في أهدافها ما يلي: ” تهدف الجائزة لإثراء المكتبة العربية عبر تشجيع الأفراد والمؤسسات لتقديم أفضل إنتاج معرفي وتكريم الدراسات الجادة والتعريف بها والإشادة بجهود أصحابها، فضلا عن دعم دور النشر الرائدة للارتقاء بجودة الكتاب العربي شكلا ومضمونا” ولسنا بحاجة التأكيد بان الاهتمام بالكتب والكتاب يعد مفتاح اساسي للتنمية الثقافية المستدامة وحينما تزدهر الكتابة ويكرم الكتاب تزدهر الإبداعات الثقافية الأدبية والفنية الخالدة التي تضيء ليل التاريخ وتمنحه المعنى والقيمة والاعتبار والتاريخ الذي لا يُقرأ، ولا يدون كلأحلام التي لا تفُسر! خاص التهاني والتبريكات للقائمين على جائزة الدوحة للكتاب العربي وعميق شكري وتقديري لدعوتهم الكريمة. ومسك الختام مع المتنبي القائل:
أعزُّ مكانٍ في الدُّنى سَرْجُ سابحٍ،
وخيرُ جليسٍ في الأنامِ كتابُ.