- كتب: د. عبدالعزيز علوان
كلما عاودت قراءة الأرض يا سلمى للقاص والروائي اليمني محمد عبدالولي، تتعالى فيّ الأصوات الداخلية همسا حينا وكلاما مسموعا مرة أخرى، مما دفعني للبحث عن منشأ هذه الأصوات الداخلية.
وهكذا بدأت البحث لأجد عالم النفس تشارلز فيرنيهوف يقول «الصوت الداخلي» … «كلام لا يلتزم بالعديد من اصطلاحات الكلام اللفظي، فغالبًا ما يكون مختصرًا لأنه لا يتعين علينا استخدام جمل كاملة للتحدث مع أنفسنا، فنحن نعرف ما نعنيه، كما أن العقل ينتجه بشكل أسرع لأنه لا يلتزم بالسرعة المطلوبة لاستخدام الألسنة والشفاه..
ورأيت أن الفضل في تأريخ ظهور هذا الصوت داخل الفرد يعود لعالم النفس الروسي ليف فيجوتسكي، بعد أن درس الأطفال في عشرينات القرن الماضي، وأشار إلى أنهم عندما تعلموا التحدث إلى البشر الآخرين، تعلموا أيضًا كيفية التحدث مع أنفسهم بصوت عالٍ أثناء اللعب، والذي تسرب في النهاية إلى داخل رؤوسهم..
ومن خلال تعلقي بظلال حفيدتي، أتيحت لي فرصا كثيرة لمراقبتها حين تكون منفردة بنفسها أو قبل منامها، وهي تتحدث إلى نفسها حول ألعابها والكلمات المتبادلة بينها وبين اقرانها كما انها تتكلم مع العابها كما نتكلم مع الآخرين.
فهي المتكلم والمتحدث معه، وأكاد ألمح تغير صوتها قليلا حينما تحاور نفسها بلسان اللعبة أو إحدى صديقاتها.
كانت تلك المقدمة والتي رأيت أن استهل بها قراءتي الانطباعية المتواتره لقصة (الأرض يا سلمى).
في تقديري إن النص المكتوب قصة رواية قصيدة أو غير ذلك، يشبه إلى حد ما (قطه شرودنجر) القطة الأشهر في ميكانيكا الكم، إذ أن حياتها ومماتها يحدده الراصد عند فتح الصندوق، بيد أن النص المكتوب هو صندوق مفتوح أمام كل قارئ، والقارئ هو من يحدد حياة وحيوية النص.. تلك استهلالة ثانية.
بدأت قصة الأرض ياسلمى بالإشارة إلى جدلية ثنائية السماء/ الأرض، انهمار الغيث / العطش المتلهف للارتواء ، وأيضا جدلية الذهاب للعمل المتسارع قبل انهمار المطر، مقابل السكون المنامي لمن في بيت سلمي..
بعد عودة سلمى من الحقل نراها مستلقية على السرير أمام النافذه التي ترى منها تداخل اضواء البروق وتسمع وترى هدير السيول لتجد نفسها تصغي لصوتها الداخلي أو فقل لصوت الرواي.
هذا الصوت التي تصغي إليه سلمى هو متعدد الأغراض والنغمات ويكاد يكون كما أراده القاص متعددا بين المواجهة والذكرى؛المكاشفة والاغراء، الصوت المقارن بين حياتين لسلمى حياتها وشغلها في بيت أبيها وشغلها وحياتها في بيت زوجها، فالعمل واحد وصاحب العمل مختلف.
وهناك الصوت الذي يربط حياة سلمى بالعادات والتقاليد فهي امرأة متزوجه تعمل خادمة لزوجها لا تسطيع أن تبوح بما في نفسها تمر الأيام وسلمى في انتظار ( درهم ) الزوج الذي هاجر بعد أن ترك في احشائها جنينا لم تخبره فيه كعادة القرويات.
أزداد الغياب وسلمى تنتظر، أنباء تتردد هنا وهناك عن عم سلمى الذي غاب منذ عشرات السنين وأذيع أن له زوجة وأولاد..
الصوت الأكثر مسأوية وتشجنا واستفزازا حين واجهها بأن ( درهم ) قد يخونها، وينصحها لعدم الانجرار للخيانة المقابلة فهي امرأة لديها زوج وطفل، يكاشفها بأن زينتها في غياب زوجها محرمة ومفلتة لأنظار القرية، وأن حبها لحسان عديم الجدوى.
فلو طلبت الطلاق كهذا يقول لها الصوت وهذا مستحيل في ظل عدم وجود معين لسلمى يطالب به بعد وفاة والدها.. لو حصل هذا يؤكد الصوت لسلمى لن يلتفت إليك أحد.
فقط هي الأرض كما يقول الصوت من تعرف سلمى وتعرفها من سكبت في أوردتها عرق جبينها وقطرات من دمها وولدها يجب كما يقول لها الصوت أن يتربى على حب الأرض..
حين تقلع السماء عن انهمارها المطري، وتنساب في أوردة الانهار المياه، يخفت الصوت، ويُفتح الباب، وهنا يدخل الطفل ليتماهى في حضن أمه الذي يتردد هتافها الدخلي ب( سأعلمه كيف يحب الأرض).
علاقة القاص أو الراوي بشخوصه القصصية والروائية فهي وإن كانت من مخلوقات القاص / الراوي ومن ثمة فإن القاص أو الراوي هو من يعشقها حتى النخاع وهو من يميتها، كما حدث لخالد بن طولون في روايات أحلام مستغانمي الذي قالت انها حين اماتته بروايتها.. جاءت اليها إحدى القارئات وهي سيدة صيدواية كما تقول أحلام في روايتها شهيا كفراق وقالت لها أن شخصياتك الروائية ملك للقارئ وطلبت منها أن لا تنهي حياة خالد بن طولون بهذه الطريقة .. ومن ثم عملت الروائية على بعث خالد بن طولون في روايتين اثنتين بعد رواية ذاكرة الجسد هما رواية فوضى الحواس وعابر سرير.
كل تلك العلائق بين القاص أو الرواي وشخوصه، تصبح ملكا للقارئ، بيد أن سلمى الأرض هي شخصية حقيقة وليست افتراضيه كما هي معظم شخصيات محمد عبدالولي فكل شخصياته الروائية والقصصية ذات منشأ اجتماعي؛ فسلمى، وعبده سعيد، والصنعاني وعمنا صالح، وعمال طريق الصين، والسيد ماجد، والسيد عبداللطيف، واستاذ التاريخ، أبو ربيه، بل كل شخصيات محمد عبدالولي لها جذور واقعية اجتماعية واقتصادية غربة وبقاء وطنيا في الوطن الذي يقتاته غياب ابنائه، ويبعثره اغتراب مثقفيه.
- تعز أكتوبر 23