- كتب: د. قاسم المحبشي
كانت السفن الشراعية تمخر عباب مياه البحرين الأحمر والعربي منذ الألف السنين في طريقها إلى الهند أو أفريقيا عبر مضيق باب المندب الشهير الذي يشبه أسمه إذ تروي الأسطورة أن الكلمة تطلق على البحر المحيط بجزيرة ميون اليمنية بمعنى “بحر الموت”، ربما بسبب كثرة الشعاب المرجانية والجزر الصغيرة التي تعترض طريق الملاحة وتعرّض السفن التي تمخر عبابه لكثير من المخاطر وربما بسبب الرياح العاصفة والأمواج العاتية وربما بسبب القرصنة والصراع المميت بين ربابة البحار على التحكم بالمضيق.. من هنا جاءت تسمية “باب المندب” أو “بوابة الدموع”، نظرا لما يعانيه البحارة المغامرون بالإبحار في مياهه من اخوف والفزع والموت، وقيل جاءت التسمية من دموع النساء اللاتي يودعن أحبابهن بين ضفتي المندب.
في الأزمنة القديمة لم يكن العابرون يعلمون بما يوجد خلف جبال المندب الشاهقة وبالمثل لا علم لأهل السواحل من الصيادين وسكان الدواخل بمن يمرون في بحرهم ويقال أن الاسكندر المقدوني مر في باب المندب في طريقه إلى الهند، وفي مطلع العصر الحديت بدأت المنافسة بين الدول الأوروبية في سباق محموم لأكتشاف العالم والسيطرة عليه إذ القى الأسباني كولمبس مراسيه في العالم الجديد عام 1492م، وألقى البرتغالي فاسكودى جاما مراسيه على ساحل الهند الغربي 1498م واستطاع ماجلان في السفينة فكتوريا ان يدور لأول مـرة حول الأرض(1519-1522)، وفي عام 908 هـ (1503م) وصل البرتقاليين الى سواحل عدن ونهبوا سبعة مراكب وقتلوا أهلها ومنذ ذلك الحين والصراع بين القوى الكبرى محتدما في خليج عدن حتى تمكن الانجليزي الكابتن هنس من الاستيلاء عليها في ١٩ يناير ١٨٣٩م. حينها كانت بريطانيا في أوج مجدها ففي عام 1821 وصفت مجلة كاليدونيان ميركوري الإمبراطورية البريطانية قائلة: «لا تغيب الشمس عن ممالكها أبدًا؛ إذ أن الشمس تشرق على ميناء جاكسون في ذات الوقت الذي تغيب فيه عن أبراج كيبك، وتغطس في مياه بحيرة سوبيريور في ذات الوقت الذي تبزغ فيه من فم نهر الغان”وفى يناير عام 1836، كتب تشارلز داروين عندما شاهد ميناء سيدنى، الذى كان يخضع حينها لسيطرة بريطانيا «إن شعورى الأول أن أهنئ نفسى أننى ولدت إنجليزياً»، متباهياً بنفوذ إمبراطورية بلاده الذى امتد شرقاً وغرباً” هذا يعني أنه يصعب مقاربة أي حدث تاريخي في العصور الحديثة بمعزل عن الحركة الكالونيالية الاستعمارية الخشنة، وحين يجعل البشر من تاريخهم موضع تساؤل فإنهم غالبا ما يتساءلون عن مصيرهم، أو عن حاضرهم كمصير، ومهما كانت الإجابات متنوعة في صحتها أو خطئها، فإن وعياً تاريخياً بدا يتشكل يحمل في طياته مستوى وعي البشر العام بكل جوانب حياتهم. وهكذا هو الحال مع ثورة 14 أكتوبر التي تحل علينا بعد ساعات ذكراها الستين، وإذ تتعدد المقاربات تجاه هذه الثورة، فإن ما يهمنا في هذا المقال هو استعراض السياقات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية التي قامت على إثرها الثورة وكيف تبدلت بعدها.
على مدى ١٢٩ عام هيمن الإنجليز على جنوب اليمن وفي ١٤ أكتوبر ١٩٦٣م انطلقت من ردفان حركة الكفاح المسلح ضد الاستعمار الإنجليزي في سياق دولي وإقليمي ومحلي شهد ما يعرف بحركة حق الشعوب في تقرير مصيرها وحركات التحرر الوطنية في مصر 23 يوليو 1952 والجزائر ١ نوفمبر ١٩٥٤ والسودان ١٩٥٦ والعراق في تموز ١٩٥٨ وسوريا ١٩٤٣ وليبيا ١٩٦٩ وكان لثورة ٢٦ سبتمبر ١٩٦٢م في صنعاء ضد النظام الإمامي الكهنوتي دورا في اشعال مشاعر النضال الوطني التحرري ضد الاستعمار البريطاني في الجنوب العربي.. نعم قامت الثورة حينذاك بوصفها حلما جماعيا بالحرية والسيادة الوطنية والعدالة والاستقرار والإزدهار، فماذا يمكننا أن نتذكر منها اليوم من مشارف الذكرى ٥٨ من عمرها وأعمارنا.. كنت طفلا صغيرا حينما رحل الأنجليز من عدن في ٣٠ نوفمبر عام ١٩٦٧م وكانت المشاعر والأحلام الثورية متقدة وهي تنشد الأغنية:
برع يا استعمار برع
من أرض الاحرار برع
برع ولا الليلة يكويك التيار
تيار الحرية تيار القومية
برع برع برع يا استعمار
من أرض الأحرار برع
تيار الجبار خلا شعبي ثأر
خلانا الجنوب يشعل كالجمره
تيار الجبار هو نفس التيار
حطم الاستعمار في مصر الحره
تياري بركان من اجل الانسان
اشعل في ردفان نيران الثورة
كانت أهداف الثورة ثورية أكثر من كونها سياسية لبناء مؤسسة وطنية جامعة للناس المشتين في حوالي ٢٥ كيان سياسي تقليدي: سلطنات وإمارات ومشيخات كبيرة وصغيرة. إذ أشتملت أهدافها على الأتي:
1. تصفية القواعد وجلاء القوات البريطانية من أرض الجنوب دون قيد أو شرط.
2. إسقاط الحكم السلاطيني والتي يصنف بأنها رجعي.
3. إعادة توحيد الكيانات العربية الجنوبية سيراً نحو الوحدة العربية والإسلامية على أسس شعبية وسلمية.
4. استكمال التحرر الوطني بالتخلص من السيطرة الاستعمارية الاقتصادية والسياسية.
5. إقامة نظام وطني على أسس ثورية سليمة يغير الواقع المتخلف إلى واقع اجتماعي عادل ومتطور.
6. بناء اقتصاد وطني قائم على العدالة الاجتماعية يحقق للشعب السيطرة على مصادر ثرواته.
7. توفير فرص التعليم والعمل لكل المواطنين دون استثناء.
8. إعادة الحقوق الطبيعية للمرأة ومساواتها بالرجل في قيمتها ومسؤولياتها الاجتماعية.
9. بناء جيش وطني شعبي قوي بمتطلباته الحديثة تمكنه من الحماية الكاملة لمكاسب الثورة وأهدافها.
10. انتهاج سياسية الحياد الإيجابي وعدم الانحياز بعيدا عن السياسات والصراعات الدولية.
وهكذا كما جاء في قلب الأهداف كلها الهدف الخامس (إقامة نظام وطني على أسس ثورية سليمة يغير الواقع المتخلف إلى واقع اجتماعي عادل ومتطور) كانت السياسية هي الغائب الوحيد في أهداف الثورة.
من الأخطاء الفادحة التي وقع فيها ثور الجبهة القومية عدم قدرتهم على التمييز بين الفعل الثوري والعمل السياسي، بين الثورة والسياسة إذ أنهم لم يفهموا طبيعة العلاقة لكي يدركوا مابين الثورة والسياسة من اتصال وانفصال وبدلا من البحث في الفروق والاختلافات وقعوا في وهم التشابه والتماثل بين المجالين الذين أفضى الخلط بينهما إلى تلك النتائج الكارثية التي آلت اليها ثورة ١٤ أكتوبر اليوم.
ثمة فرق كبير بين الثورة والسياسة، إذ أن حضور الأولى يعني غياب الثانية، الثورة حلم جماعي وفعل اجتماعي جماهيري عفوي أو هادف ضد وضع سياسي لا يطاق بينما السياسة وممارستها، على العكس تماما من الثورة وقيمها، إنها فن الممكن، السياسة نشاط نخبوي عقلاني تحكمه قواعد لعبة مختلفة عن قواعد لعبة الثورة، الفعل السياسي يعني العيش المشترك للناس في كيان مدني منظم سياسيا بالدستور والقانون سيد الجميع وفق مبدأ قوة الحق لا حق القوة وهذا هو ما تخفيه الثورة والسياسة دائما بحسب روجيس دوبريه في كتاب نقد العقل السياسي، تلك الاختلافات بين المجالين لا تعني غياب أي علاقة ترابطية بين الثورة والسياسة، بل لابد من الاشارة إلى أن العلاقة بين السياسة والثورة هي من طبيعة جدلية، بمعنى وحدة وصراع الأضداد، الذي يعني هنا أن الثورة تشترط وجود السياسة بوصفها دافعا وغاية، إذ أن الثورة لا تقوم إلا ضد وضع سياسي وبتحفيز منه وهي ثانيا سعي دائم من أجل إعادة بناء أو تأسيس المجال السياسي في مكانه الصحيح والثورات ليست من الضرورات الحتمية، بل حالة اضطرارية، فاذا استطاعت السياسة ضبط الشأن العام بما يؤمن الحياة الكريمة للإنسان؛ العدالة والحرية وتكافؤ الفرص والعيش الكريم والأمن والأمان والتنمية والسعادة، فمن المحتمل أن يكف الناس عن الثورات والخروج والعصيان، ويحل بدلا عنها اتساع الامال والبحث عن الدعة والنماء والأعمار، ولا تدوم الدول إلا بعدل صحيح وأمن راسخ وأمل فسيح.. كما كتب أبو الحسن الماوردي.
إننا إذ نقف اليوم عند الذكرى الستين لانطلاق ثورة ١٤ أكتوبر المجيدة فإننا نقف أمام حقبة فاصلة في تاريخنا المعاصر، وليس لدينا سبيل آخر للتعرف تاريخنا وأزماته وفهم العلل والأمراض التي فتكت بحياتنا وبحث السبل والممكنات الناجعة لتجاوزها غير البحث والدراسة، فلا عذر لنا طالما وقد قّدر لنا أن نكون شاهدين على هذه الحقبة الصاخبة بالحروب والعنف والظلم والظلام وبالمآسي والأزمات والإخفاقات، إذ أنه من المهين أن يكون سر أزمة حياتنا والتقييم الدقيق لمصائبنا وأزماتنا وقفاً على أناس لم يولدوا بعد ولا شيء يمكن انتظاره إذ لم نبادر نحن بعمله ولا عذر لنا طالما ونحن موجودون هنا والآن وهذا هو ما دفعني لكتابة في الحدث والذكرى.
ورأيي أن اليمن جنوبه وشماله يعيش منذ أكثر من نصف قرن، أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية بنيوية معقدة؛ إذ رغم مرور قرابة ستة عقود على الثورتين؛ ثورة 26سبتمبر 1962م ضد الحكم الإمامي في صنعاء عاصمة شمال البلاد؛ تلك الثورة التي انتصرت حينها بدعم سخي من الجيش المصري العظيم، وثورة 14 أكتوبر 1967م ضد الاستعمار البريطاني في عدن عاصمة الجنوب وما تلى ذالك من حروب بين الجنوب والشمال على مدى عشرين عام ثم إعلان الوحدة الاندماجية بين الجمهوريتين؛ الجمهورية العربية اليمنية في صنعاء وجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية في عدن ومسيرتهما.. إعلان بما يسمى مشروع الوحدة الاندماجية في 22 مايو 1990م في إطار كيان سياسي جديد هو (الجمهورية اليمنية) وما تلاها من أزمة وحرب أهلية في صيف 1994م اشتركت فيها القوى الشمالية التقليدية مع حزب الإصلاح اليمني (حزب اخوان اليمن) لاصدار فتوى تكفيرية ضد الجنوب وشهبة فتوى أباحت القتل والنهب والسلب لكل شيء جنوبي، ومن ثم انتفاضة الحراك السلمي الجنوبي ضد ما اسماه الفيلسوف أبوبكر السقاف بالاستعمار الداخلي وظهور ما يسمى بحركة الشباب المؤمن بأقصى الشمال وما تلاها من الحروب الستة في شمال اليمن.. ثم قيام ثورة شباب التغيير في فبراير 2011م في صنعاء، والمبادرة الخليجية ومؤتمر الحوار الوطني برعاية مندوب هيئة الأمم المتحدة جمال بن عمر مرورا بصعود الحركة الحوثية إلى السلطة كقوة عسكرية وإعلانها البيان الدستوري في 6 فبراير 2015 ووضع الرئيس الشرعي تحت الإقامة الجبرية ثم هروبه إلى عدن ومنها إلى الرياض مرورًا بمسقط، ونشوب الحرب الطائفية الأخيرة ودخول الحوثيين عدن في ٢٥ مارس 2015م واجتياحها بالقوة العسكرية بعد حرب ضروس دمرت كل مقومات الحياة المدنية وبداية عاصفة الحزم من تحالف الدول العربية بقيادة المملكة السعودية في 26مارس 2015م، و”مؤتمر الحوار اليمني الوطني الشامل في الرياض في إبريل ٢٠١٥م ” وصعود قوة المقاومة الجنوبية المسلحة وإعلان عدن عاصمة مؤقتة للشرعية، وتشكيل المجلس الانتقالي الجنوبي والجمعية الوطنية بدعم من دول التحالف العربي ورعاية مباشرة من الامارات العربية المتحدة وأزمة حكومة الشرعية في إدارة المناطق المحررة، وما صاحبها من نزاع عنيف في عدن مؤخرا بين المجلس الجنوبي الانتقالي وبين الحكومة الشرعية ومفاوضات السلام برعاية عربية في الكويت، ومؤتمر جنيف 16 يونيو 2015م وما تلاه من مشاورات ولقاءات متعددة بين الأطراف المتنازعة كان أخرها اتفاقية المصالحة بين المجلس الانتقالي الجنوبي والحكومة الشرعية اليمنية في الرياض بتاريخ ٥/١١/٢٠١٩. بحضور دولة التحالف العربي وتمثيل أممي وبإشراف مباشر من المملكة العربية السعودية التي استلمت إدارة المناطق الجنوبية المحررة بعد مغادرة الامارات. ولإزالت الاتفاقية الأخير قيد التنفيذ، وربما تأخر البدء بتنفيذها بحسب مواعيدها المحددة بالإعلان. كل تلك الأحداث تجعل من سردية الثورة حديث خرافة، فما الذي بقي من ثورة اكتوبر وثورة سبتمبر اليوم؟ سؤال يثير الحسرة والإحباط للأسف الشديد، فما الذي بقي ألأولى؟ ستون عاما تنقضي من عمرها وعمرنا، ربما رحل معظم أفراد الجيل الذين عاشوا احداثها وشاركوا في إنجاهزها إذ من المؤكد أن أنهم قد حلموا بعكس ماجرى! فما أجمل الحلم وما أصعب الواقع.. كان الواقع الاجتماعي والثقافي شديد التخلف والقسوة في معظم بلاد اليمن شماله وجنوبه.. وحدها عدن التي كانت أشبه بوردة في الصحراء ولكنها مستعمرة بريطانية للأسف الشديد إذ شهد ميناءها ازدهارًا ملاحيا وتجاريا بحيث غدا ثاني ميناء في العالم وفي سياقه أزهرت مظاهر الحياة المدنية الحديثة على مختلف الأصعدة ففيها تأسست أول وكالات التجارة فضلا عن خدمات البنية التحية الكهرباء والماء والمدارس والمستشفيات والمطارات والتخطيط العمراني الحديث والموصلات والاتصالات والبريد والبرق والهاتف والإذاعة والتلفزيون والصحافة وغير ذلك وهذا ما جعلها سيدة الأحلام عند أناس ذلك الزمان:
عدن عدن يا ليت عدن مسير يوم
شاسير به ليلة مشرقد النوم.
ربما كانت حداثة ومدنيتها وبالا عليها إذ لم يشهد التاريخ حالة مماثلة لمدينة دفعت ثمن تقدمها وازدهارها من دمها ولحمها، وحينما رحل الاستعمار البريطاني منها في ٣٠ نوفمبر ١٩٦٧م تسلم أمرها ثوار الجبهة القومية وجبهة التحرير بهدف تحرير السيادة الوطنية وبناء دولة المواطنين الأحرار فكان الواقع التاريخ أصعب بكثير مما توقعه الثوار وهذا من طبيعة الثورات التي استلهمت نموذج الثورة الفرنسية والثورة الاشتراكية وصف زعيم الثورة الفرنسية روسبير :«هذا التيار المهيب للحمم البركانية التي تقذفها الثورة، والذي لا يوفر شيئاً، وما من أحد يمكنه إيقافه» وهكذا حملت الثورة بوصفها أحداثا نادرة الوقوع ـ نسبياً، ولكنها هامة من الناحية التاريخية، يتم خلالها قلب النظام السياسي والاجتماعي كلية. وذلك باستخدام وسائل عنيفة عادة، ثم يتم إعادة بناءه أسس جديدة بقيادة جديدة – حملت ثقافتها الأيديولوجية العابرة للتاريخ ومن ذلك الطبقات والصراع الطبقي والعنف الثوري المنظم و «الحتمية التاريخية ومزبلة التاريخ وغير ذلك من ثمار شجرة الارمول التي تم غرسها بلا جذور في اراضي لم يتم تمهيدها للزرع والثمر.. كان الحماس الثوري بما يشيعه من سحر رومانسي هو الغالب في لحظة التي كان يجب أن يختفي؛ لحظة تحويل الثورة إلى مؤسسة جامعة للكيان الوطني مؤسسة المؤسسات الحامية والضامنة للناس والسيادة. ثمة فرق كبير بين الثورة والسياسة، إذ أن حضور الأولى يعني غياب الثانية وحتى لا نظلمها فمن الحق الاعتراف بأنها غيرت المجتمع تغييرا إجتماعيا وثقافيا جذريا لاسيما في الأرياف التي كانت تعيش في كيانات سياسية تقليدية منعزلة.. مع الثورة وبعدها تغير كل شيء في الجنوب بعكس ما جرى في الشمال التي احتفظت بمؤسساتها التقليدية ولم تتحول إلى دولة نظام وقانون للمواطنين بوصفهم جمهورا أو شعبا.. وربما كان الانجليزي بول دريش في دراسته (اليمن: الإئمة والقبائل.. كتابة وتمثيل التاريخ في اليمن الأعلى) قد استطاع القبض على جذر مشكلة السلطة وعصبيتها التقليدية في اليمن الشمالية إذ كتب قائلاً: “أن منطق التطور التاريخي والعلم الاجتماعي أثبتا بأن القبيلة هي حلقة أدنى في سلم التطور الاجتماعي وهذا لا ينطبق على اليمن (الشمالي).. فإذا كانت القبائل تنتهي بطريقة ما إلى دولة، فإن الدولة غالباً ما تتحول هنا إلى قبائل وقد تتعايشان معاً على مدى مراحل طويلة إن الأفراد الذين يتكون منهم الشعب يشكلون بطريقة ما جمهوراً لم يكن ولن يكون بمقدور القبائل تشكيله” ومن المؤسف أن القوى التقليدية اليمنية والحديثة تشاركت في تدمير مؤسسات الدولة الوطنية الحديثة الوحيدة في جنوب الجزيرة العربية في عدن بوعي أو بدونه ولكنها بذلك مهدت السبيل لعودة المؤسسة التقليدية الطائفية في صنعاء.. وهكذا هو التاريخ دائما يكسر رؤوس البشر ولا يتكسر رأسه أبدا.
واليوم، ونحن نستعيد ذكرى ثورة 14 أكتوبر، وبعد أكثر من نصف قرن، من الطبيعي أن تكون هناك آراء ووجهات نظر متباينة حول كل ما حدث طيلة هذه العقود العاصفة على أنه، ومهما يكن عليه الأمر، فهذا هو التاريخ الذي تم وانقضى ولا يجدي الثأر أو السخرية منه بقدر ما يهمنا نقده والكشف عن جوانبه المختلفة، وحقائقه المتعددة، ونتائجه الملتبسة، والبحث في فرصه وممكناته، ولسنا في أوله ولا في آخره، بل نحن الآن في خضمه وعلينا التعلم من تاريخنا أن الدولة المدنية الديمقراطية العادلة والمستقرة التي تسودها قواعد التنافس السلمي يجب أن تكون هدف وغاية كل ثورة سياسية ممكنة، نعم اشتملت بنية ثورة 14أكتوبر 1963 على عناصر الثورة الأساسية: الجدّة، والتغيير، والحداثة، ولكنها للأسف الشديد عجزت عن إنجاز هدفها الأخير وغايتها القصوى المتمثل في الدولة المدنية إلعادلة المفترضة وهذا هو ما جعلنا نتذكرها بحسرة وحنين ولو إنها أنجزت وظيفتها المؤسسية لتذكرناها ولعشنا نتائجها بطريقة أخرى والحنين وجع الذاكرة! والثورة التي عجزت أن تتحول إلى دولة لا قيمة لها ولا فائدة!.
وبعد كل حساب، يمكن القول إن نظام التعليم الحديث في عدن الذي أتى به الإنجليز، كان عاملًا مهما في ازدهارها المدني والتجاري والثقافي والإعلامي والفكري، التي لم تشهد مثله أي منطقة أخرى في شبه الجزيرة العربية، إذ أفضى إلى استيقاظ الوعي السياسي وتشكيل الروابط والكيانات السياسية، ومعه بدأت الحركة النسوية التحررية في عدن، وغير ذلك من عناصر وعلاقات وممارسات وبنيات وقيم ورموز الحياة الحديثة. وفي عدن تلك الأيام، ازدهرت الصحافة والإعلام المقروء والمرئي باللغتين العربية والإنجليزية؛ “فتاة الجزيرة”، و”الرقيب”، و”الأيام”، والإذاعة والتلفزيون، والمطابع والمكتبات، وغير ذلك. وأنجب التعليم في عدن عددًا من النخب المتعلمة عالية التأهيل منهم؛ المحامي محمد علي لقمان، والإعلامي محمد علي باشراحيل، والتربوي محمد عبده غانم، والأكاديمي عبدالله فارع فاضل، والمفكر السياسي عبدالله باذيب، وغيرهم من الأطباء والطبيبات والمهندسين والمعلمات والإعلاميين والفنانين والأدباء والكتاب الذين لا يتسع المجال لذكرهم.
أما بعد 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967، ونيل الاستقلال الوطني، فقد ترافق التعليم مع الثورة الراديكالية الكلية التي قلبت المجتمع رأسًا على عقب وأعادت تصميمه وتشكليه وطنيًّا عربيًّا وأمميًّا يساريًّا، جعل من التعليم رافعته للتغيير الاجتماعي الشامل، إذ انفتحت المؤسسة التعليمية الوطنية على كل فئات وشرائح المجتمع الجنوبي، ذكورًا وإناثًا بلا استثناء، كما كان الحال في عدن المستعمرة.
وتم إقرار التعليم إلزاميًّا ومجانيًّا لكل التلاميذ والتلميذات في المدن والأرياف، فضلًا عن مشروع التحرر من الأمية وتعليم الكبار، إذ في بضع سنوات انتشرت الثورة التعليمية انتشار النار بالهشيم في مناطق جنوب اليمن، وتم بناء المدارس الحديثة على نطاق واسع جدًّا، وفي عام 1985، أعلنت المنظمة الأممية للتربية والثقافة والعلوم اليونسكو، جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية أول دولة في شبه الجزيرة العربية تتحرر من الأمية، إذ تقلصت الأمية في الجنوب إلى 2% فقط من عدد السكان. [ينظر: ويكيبيديا – جوجل].
وحينما نتذكر اليوم نتائج الثورة التعليمية في جنوب اليمن منذ نيل الاستقلال الوطني في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967، حتى الآن، وما أنجبته من آلاف الخريجين والخريجات من الأطباء والمهندسين والأكاديميين والمعلمين والإعلاميين والأدباء والكتاب والدبلوماسيين والنخبة المتعلمة في مختلف التخصصات والمجالات، ندرك الأهمية الحيوية للتعليم والتحرر من الأمية.
فالتعليم هو مفتاح التقدم والتطور والنماء والارتقاء، ولولا السياسية التي خذلت الجميع لكانت نتائج التعليم غير ما هي عليه اليوم، وربما كانت عبارة الإنجليزي جرهماس هي لعنة عدن المستعصية، إذ قال حينها إن “عدن تمكنت من إنجاب أفضل المهندسين ورجال الأعمال، ولكنها عجزت عن إنجاب سياسيين أكْفَاء”، فماذا بمقدور التعليم أن يفعله في ظل خراب الدولة؛ مؤسسة المؤسسات كلها. ورغم ذلك يبقى التعليم هو الخيار الذي يستحيل تجاوزه بدون إشباعه في اللحظة الراهنة سريعة الإيقاع والتغيُّر، إذ إن التغيرات المتسارعة في مختلف مناحي حياة المجتمع اليوم، تجعل مفاهيم التربية والتعليم التقليدية موضع تساؤل: إذ كيف نعلّم التلاميذ بينما هناك نظريات ومناهج وموضوعات يكون قد عفا عليها الزمن قبل أن يترك التلاميذ مقاعدهم في المدرسة.
نحن نعيش لحظة تاريخية فارقة تجعل التغييرات في الأشخاص عاجزة عن ملاحقة سرعة التغيرات الاجتماعية والثقافية والعلمية المتسارعة في العالم المعولم، الذي يشهد انفجار الثورة العلمية والتقنية الرقمية على نحو لم يسبق له مثيل؛ منذ آدم حتى الآن.. أقصد أن المعارف العلمية والقيم التربوية في عصر العولمة وانكماش الزمان والمكان، عصر العلم والميديا الجديدة، تعيش حالة من التغيير والتبدل بوتيرة متسارعة في بضع ساعات فقط. وهذا يعني أن تحديات الحياة المعاصرة لا يمكن مواجهتها إلا بالاستجابة الإيجابية الفعالة، وتلك الاستجابة لا يمكنها أن تكون إلا بتغيير جذري في أدوات ومحتويات ووسائل وطرق التربية والتعليم العتيقة. فمجتمع الغد إما أن يكون في الروضة والمدرسة أو لا يكون.. وهكذا يظل سؤال التربية الملحّ كما كان في كل العصور: ماذا نريد أن نكون؟!.