* د. قاسم المحبشي
المرأة هي مصدر ومحور كل تنمية اجتماعية وثقافية ممكنة ولا تنمية مستدامة بدون تمكين المرأة وإشراكها الفاعل في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية فالتنمية شراكة مجتمعية والمرأة هي وطن الأوطان كلها، أول منازل الكينونة المشمول بالأمن والأمان والرعاية والرضاعة والحب والحنان والحبيبة والحضن الدافئ والسكن الحميم ثاني منازل الحب والإشباع والاستقرار والإنجاب هذا فضلًا عن مكانتها المحورية في تشكيل الخلية الاجتماعية الأولى للمجتمعات أي العائلة وما تنهض به من ادوار اجتماعية متعددة منها: دور الزوجة ودور الأم ودور الجدة ودور الأخت ودور البنت ودور الحفيدة ودور ربة البيت ودور المربية ودور المعلمة ودور الراعية و دور المهندسة ودور المزارعة ودور المديرة ودور الاستاذة ودور الباحثة ودور العالمة ودور العميدة ودور الطبيبة وغير ذلك من الادوار الاجتماعية التي تضطلع بها المرأة في المجتمعات الحديثة واهميتها التنموية المستدامة. وقد كان التعليم هو المجال الذي منح المرأة مكانتها المستحقة في العصور الحديثة. وقد كانت حواء أم البشرية كلها هي الفاعل الأول في تنمية الحياة واستمرارها. وكانا هابيل وقابيل رمز العنف والصراع الدموي بينما اختهما كانت رمزا
للسلام والبقاء والاستمرار فحيثما كانت المرأة يحل السلام وتتخصب الحياة ويستمر الإنجاب والولادة فاذا سمح الله بموت كل ذكور بني الإنسان فسوف تبقى حياة النوع الاجتماعي في أرحام الناس الحاملة بالأجنة بينما ستنتهي الحياة كلها إذ ماتن النساء. وقد ارتبط ميلاد الحضارة والتحضر بدور المرأة الأنثى في ترويض الذكر المتوحش ففيما كان انكيدوا يهيم على وجهه في الجبال والبراري نصحت عشتار إلهة الخصب والأرض والثمار جلجامش حاكم أروك بأن يبعث فتاة حسنا لترويض انكيدو المتوحش وما أن شاهدها وتحسس جسدها حتى لبث بجانبها لمدة ثلاثة أيام وحينما نهضت ويممت وجهها باتجاه مدينة اورك المحصنة بالأسوار تبعها انكيدو حتى وصلت به المدينة . والمرأة في الغربة وطن إذ لا يعرف الرجال قيمة النساء إلا حينما يغتربون عن ديارهم؛ كرهًا أواختيارًا، فحينما يهاجر الرجال بمفردهم يضطرون لتدبير شؤون حياتهم بذاتهم. في الغربة يعرف الرجال أهمية النساء وقيمتهن وضرورتهن الحيوية. ويشتد الحنين إليهن في كل وقت وحين. وهذا ما دونته الذاكرة الثقافية في كل المجتمعات فهذا أبو تمام ينشد في ترحاله:
نقِّل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحبُّ إلا للحبيب الأوّلِ
كم منزلٍ في الأرض يألفُه الفتى
وحنينُــه أبــداً لأوّلِ منــــزلِ
ففي هذا البيت شحنة بلاغية بالغة الدلالة والمعنى إذ أن المنزل هنا هو استعارة مكنية عن الأرض، الموطن الأم، الحبيبة،؛ وذلك يمكن فهم معنى قول حافظ إبراهيم:
الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعبًا طيب الأعراق
إذ لايمكن تغيير شيء يذكر في في المجتمع والاقتصاد والإدارة والسياسة والثقافة والأخلاق مالم يتحقق تغيير تربوي تعليمي سيكولوجي عميق في بنية الشخصية البشرية ومالم تتكون الرغبة والقدرة على التفكير والعمل بطريقة جديدة ورؤية واضحة وهذا هو ما قامت ولازالت تقوم به المرأة المتعلمة فهي المربي وهي الراعي وهي المنمي ، فإن كانت متعلمة وواعية ومثقفة، سينعكس ذلك على الأبناء فقلما نجد أبناءً جهلة لأم هي في الأصل واعية، وإن حدث ذلك فهي حالات فردية وقليلة، وإن نظرنا إلى المجتمع – وكما ذكرنا سابقًا – بأنه المكون الأساسي للمجتمع- وجمعنا الأمهات الواعيات المستنيرات العقل، فإننا سنجد أبناءهن قد أخذوامنهن الخصال نفسها، وإذا جمعنا هؤلاء الأبناء فإنهم سيشكلون المجتمع فالمعادلة تقول: أبناء الأم “أ” مع أبناء الأم “ب” مع أبناء الأم “ج”، إذن، فالمحصلة النهائية هي: أبناء واعون وجيل واع ٍتربى على يد أمهات مستنيرات العقل والفكر، فلدينا إذن مجتمع واع منفتح يرقى إلى مصاف الشعوب المتطورة والمتقدمة. فكيف شقت المرأة طريقها إلى الحضور بعد أن غيبتها الهيمنة الذكورية الالف السنين؟ إذ مضى زمن طويل منذ أن بدأت حياة الكائن الإنساني على كوكب الأرض، لم تكن فيه المرأة “حواء” شيئًا مذكورًا أو جدير بالقيمة والاعتبار بذاته ولذاته ومن أجل ذاته، بل كان الرجل الذكر هو سيد الموقف، وصانع التاريخ وخليفة الله سبحانه وتعالى في الأرض، ومبدع الثقافة وباني الحضارة وحامل الأمانة المقدسة، وحافظ الأسرار والمعارف والعلوم والفنون ومروض الوحوش، وصاحب الحكمة والعقل والخلق والدين والملاحم والبطولات؛ إذ كانت كل الصفات الإيجابية التي تدل على الفعالية والقوة والنشاط والإنتاجية والإنجاز والانتصار والعنف والحرب تلصق بالرجل الذي ظل يتربع على مسرح التاريخ الإنساني حتى وقت قريب، وظل مفهوم الإنسان يطلق على الرجل فقط، وكانت كل الكائنات والأشياء والطيبات بما في ذلك الكائن الإنساني الآخر الشبيه به تمامًا – أي المرأة الأنثى – تدور حول فلكه الذكوري وتسخر لخدمته وتخضع لمشيئته البطريركية، وعلى مدى ملايين من السنين من تجربة العلاقة الاجتماعية والممارسة التاريخية لحياة الرجل والمرأة ترسخت الهيمنة الذكورية والقيم البطريركية عند مختلف الشعوب والمجتمعات حتى اكتسبت صورة الضرورة الطبيعية البيولوجية والمسلمة البديهية التي لم تعد تثير الشك والتساؤل عن حقيقة مشروعيتها.
لكن حقيقة الحياة والتاريخ والمجتمع الإنساني تؤكد أن المرأة هي جوهر الإنسان ومحور السلام والتنمية المستدامة إذ أننا كلنا ولدنا من أرحامهن ورضعنا حليبهن وتربينا في احضانهن وتعلمنا برعايتهن وعرفنا لذة الحياة بهن ومعظم احلامنا فيهن ونعيش من أجلهن ونفرح بنظرة واحدة منهن ونسعد بابتسامة واحدة من اعينهن ونكتب أجمل قصائدنا من وحيهن وفيهن ومن أجلهن ونكتب أروع الرويات فيهن وفي مداراتهن ونستمد ثقتنا بذواتنا منهن ونشعر بالسكينة والأمن والأمان معهن ونتمنى ارضاءهن ورضاءهن والجنة تحت أقدامهن والبعض منا يعبد الله من أجل الفوز باكبر عدد منهن! وبالمناسبة أكدت الدراسات الميدانية أن ٩٠٪ من التفكير الذكوري العربي هو في المرأة ومدراتها الدنيوية والأخروية.
في صبيحة يوم من أيام شهر يونيو عام 1678م اعتلت أول امرأة في التاريخ تحصل على درجة الدكتوراه المنصة بكاتدرائية بادوا لكي يتم امتحانها في التحليل المنطقي لأرسطو، كان اسمها الينا لوكريزيا كورونارو بسكوبيا وكان عمرها 32 عام وكانت غير متزوجة وابنة لواحدة من أكثر العائلات ثراءً في فينيسا.كانت “الينا” قد تقدمت في البداية بطلب لدراسة الدكتوراه في اللاهوت، لكن مدير الكلية اللاهوتية بالجامعة الكاردينال جريجوريو بارباريجو، أسقف بادوا رفض بشدة قائلًا: “لا يمكن لقد خلقت المرأة للأمومة وليس للتعلم”، كتب بعد ذلك عن الواقعة.. لقد تحدثت مع أحد الكرادلة الفرنسيين عن ذلك فانفجر ضاحكًا”، ولكنه بغير حماس وافق على السماح لها بأن يكون امتحانها للدكتوراه في الفلسفة” في ذلك الوقت كن نساء أوروبا كافحن كفاحًا مستميتًا في سبيل إثبات جدارتهن الإنسانية وقدراتهن العقلية، وكان التعليم والمعرفة هو المجال العام الوحيد الذي من شأنه ذلك، إلا أن التعليم بالنسبة للمرأة كان بمثابة مغامرة خطرة ومكلفة إذ تحتاج المرأة التي يمكنها خوض هذه المغامرة إلى أربعة شروط:
1. عمر طويل، إذ أن متوسط عمر المرأة كان في القرن السابع عشر لا يتجاوز 32 عام.
2. حياة عزوبة، إذ يصعب التعلم والدراسة مع الزواج والحمل.
3. أسرة غنية تمكنها من تعلم القراءة والكتابة ومحو الأمية، إذ انه قبل عام 1650م كان 10% فقط من نساء لندن بمقدورهن التوقيع بأسمائهن، وبحلول 1700م كان نصف نساء لندن يمكنهن كتابة أسمائهن.
4. الجلد والصبر وشدة التحمل وقوة الشخصية، لأن المرأة المتعلمة كانت تعد ظاهرة شاذة في مجتمع كان يحتقر المرأة المتعلمة وينبذها ويحاربها.
وحينما توفرت هذه الشروط أو بعضها لبعض نساء إيطاليا تألقت مجموعة من النساء المتعلمات خلال مرحلة النهضة، كما وجدت النساء الدارسات ترحيبًا أكثر عما كان في الدول الشمالية. ففي انجلترا كانت الكاتبة الموهوبة ليدي ماري وورفلي مونتا جو عام 1753م تكتب عن الخطط المقترحة لتعليم حفيدتها الصغيرة، معاتبة ابنتها بمرارة لكي تخفي ما تتعلمه الطفلة وبجزع يعادل إخفاءها لسوء الخلق أو الفعل المشين!؟ في الواقع لم تكن الطريق للتعلم مفروشة بالورد أمام نساء أوروبا الناهضة بل واجهن جملة واسعة من المعوقات، إذ أن معظم الناس كانوا يؤيدون الحد من تعليم المرأة، فقد استبعدت الفتيات في مؤسسات التعليم العالي والجامعات ومن مدارس اللغات والمدارس الإعدادية.
ورغم كل المعوقات تمكنت بعض النسوة اللامعات في ترك علامات كدارسات وكاتبات، وأخذ يتزايد شيئاً فشيئًا عدد النساء المتعلمات في مختلف أنحاء أوروبا، لا سيما لدى الأسر الغنية أو المتحررة، ويذكر في بريطانيا بنات السيد توماس مور، وبنات الايرل اورندل، وبنات السير أنتوني كوك من اللاتي تلقين تعليمًا ممتازًا، فهذه ليدي جوانا لوملي ابنة اورندل أنتجت أول ترجمة انجليزية للدراما الإغريقية.وقد لخصت أول امرأة انجليزية باشرت التفكير الفلسفي أواخر القرن الثامن عشر، هي الفيلسوفة ماري ولستوت كرافت عام 1792م المشهد النسوي بقولها: “إن معظم النسوة اللاتي سلكن مسلك المخلوقات الرشيدة أو أظهرن أي قوة فكرية كان قد سمح لهن بالصدفة بأن ينطلقن بلا قيود، والانطلاق بلا قيود في مكتبة الأسرة كان الطريق المعتاد للنسوة الطامحات فكريًا لتعليم أنفسهن”أمثال الانجليزية إليزابيث تاتفيد، التي علمت نفسها الفرنسية والاسبانية والايطالية واللاتينية والعبرية وقد رفضت أمها أن تسمح لها بإيقاد بالشموع لتقرأ في الليل، ورغم ذلك كتبت العديد من الترجمات والشعر، وكانت كرستين دي بيران ابنة عالم النجوم والطبيب الإيطالي في بلاط تشارلز الخامس بفرنسا، الأولى في أوروبا التي أعالت نفسها وأطفالها الثلاثة بمهنتها الأدبية، وفي كتابها “مدينة السيدات” تخيلت قيام نسوة موهوبات ببناء مدينة لهن يمكنهن فيها العيش بسلام وبأسلوب خلاق، الوجود المستحيل كما رأته في فرنسا القرن الخامس عشر. وبالمثل فعلت الهولندية انافان شي رمان من اوتريخت كفتيات الطبقة الوسطى للقرن السابع عشر، حينما صممت في 21 من عمرها أن تعلم ذاتها تعليمًا فكريًا جادًا وأصبحت واحدة من أفضل نساء عصرها في اللغة اللاتينية، وقد ترجمة أعمالها إلى لغات كثيرة.
وبفضل تمكين المرأة من التعليم وأصبح العالم اليوم يتحدث عن الفيلسوفات والعالمات والأديبات من النساء الحائزات على جائزة نوبل في مختلف مجالات المعرفة والنشاط. منذ تأسيسها وإعلان أول جوائزها عام 1901 وحتى 7 أكتوبر 2020، فازت 4 سيدات في الفيزياء و7 في الكيمياء، و12 في الطب أو علم وظائف الأعضاء، و15 في الأدب، و17 بجائزة نوبل للسلام، وفازت اثنتان بـ”جائزة سفيريجس ريكسبانك في العلوم الاقتصادية في ذاكرة ألفريد نوبل”، المعروفة بنوبل للاقتصاد.
وهكذا يمكن القول أن المرأة بالمعنى الجنوسي المعاصر تعد أبرز اكتشافات الحضارة المعاصرة إذ بداء الأمر وكأن العالم قد اكتشف فجأةً هذا الكائن اللطيف الجميل الخصيب المبدع المنتج الأنيس الحميم الساحر الفتان الكائن الإنساني جداً الكائن ” الذي لا تحتمل خفته”.