- الكاتب: أفشين أولافي
قبل أن تدين العولمة انظر إلى عشائك وما تشربه.
لا يتوقف نقد العولمة بطرق مختلفة، كثير منها يدخل في باب الشعارات الفارغة، وأخرى تجتزئ بعض وجوهها، وأخرى لا تقدم البدائل، وغيرها من تصورات تفشل في طرح تصور آخر للإنسانية، بينما تبقى العولمة رغم سلبياتها بمزاياها التي تقدمها للعالم المعاصر اليوم.
هل شربت فنجان قهوة هذا الصباح؟ لقد ساهمت إن فعلتَ في العولمة غير الرسمية لعالمنا، حيث تتجاوز قهوتك المتواضعة مجرد جرعة من الكافيين في الصباح. إنها العولمة في فنجان.
ضع في اعتبارك سلسلة التوريد العالمية المعقدة التي جلبت لك القهوة إلى منزلك. إنها تشمل المزارعين والمشترين والممولين والشاحنين والمحامص ومحلات البقالة والعلامات التجارية التي تمتد من البرازيل إلى فيتنام إلى بكين. يمكنك كذلك أن تضع في اعتبارك الأسواق المالية التي تعمل على تنشيط عجلة تسويق القهوة، التي تعدّ ثاني أكثر سلعة متداولة في العالم بعد النفط الخام. ويتداول الأشخاص، من نيويورك إلى سنغافورة، في عقود القهوة الآجلة مما يؤثر على سعر فنجانك ويزيد تجارته العالمية.
وكتب مارك بندرغراست، وهو من ألّف كتاب “أراض غير مألوفة: تاريخ القهوة وكيف غيّرت عالمنا”، أن ميزة تجارة البن الحديثة تكمن في تعقيدها. ووصف “شبكة معقدة من العلاقات، من صغار المزارعين إلى الشركات متعددة الجنسيات التي تحمصها وتبيعها”. وذكّرنا بتأثر سعر القهوة “بشبكة معقدة من عوامل العرض والطلب”، بما في ذلك الطقس، والأوبئة، وعدم الاستقرار السياسي، وتغيّر تفضيلات المستهلكين.
وتندرج القهوة التي تغذي صباحك ضمن صناعة قيمتها 466 مليار دولار. وولدت في تيارات البحر الأحمر بين إثيوبيا واليمن في القرن الخامس عشر، ثم تداولها المستعمرون والتجار الأوروبيون، وأصبحت سلعة من خلال الاقتصاد الاستهلاكي العالمي. باختصار، تعتبر قهوتك رمزا للقوى السياسية والاقتصادية التي تزود كوكبنا بالطاقة اليوم، وسيتواصل هذا الأمر لسنوات قادمة.
تواجه العولمة سمعة سيئة، ويتواصل التشهير بكونها مصدرا لتغير المناخ، ومحركا لعدم المساواة في الدخل، ومصدرا لزعزعة أسواق العمل. ولكن العولمة اتخذت مثل غيرها من المصطلحات المتداولة معاني كثيرة. وتبقى ببساطة طريقة لتسمية تدفقات الأشخاص والسلع والخدمات ورأس المال والأفكار عبر الحدود. ويبدو المصطلح حديثا، إلا أن هذه الممارسة ترجع إلى ولادة الحضارات، عندما بدأ التجار لأول مرة في مقايضة القمح بالمعادن في الهلال الخصيب.
وانظر في كيفية مساهمة التجارة، وخاصة البن، في ظهور العلم الحديث في القرنين السادس عشر والسابع عشر. كما يشير الصحافي توم ستانداج في كتابه “تاريخ العالم في 6 أكواب” إلى أن “مقاهي لندن أصبحت محاور النقاش العلمي… زار العلماء، بمن فيهم روبرت بويل وإسحاق نيوتن، المقاهي للتحدث عن أحدث اكتشافاتهم ومناقشة النظريات… ولعبت القهوة بهذا دورا في تطوير الثورة العلمية”.
وبينما تتعرض العولمة لانتقادات واسعة ويتوقع العديد من المستثمرين العالميين البارزين زوالها، يجدر بنا النظر في مدى انتشار هذه الظاهرة في حياتنا اليومية.
سيكون إطفاء العولمة كإطفاء الأنوار. ولنذكر هنا بالمناسبة أن الأضواء تشتعل بفضل سوق الطاقة العالمية التي توفّر النفط والغاز والفحم ومصادر الطاقة المتجددة.
وأصبح الوصول إلى الكهرباء لشحن هواتفنا وإضاءة منازلنا وتشغيل أجهزتنا وممارسة أعمالنا أمرا شائعا إلى درجة أن 85 في المئة من سكان العالم لا يفكرون في مصادر الطاقة. ولا نلاحظ هذه النقاط سوى عندما تنطفئ الأنوار. وما عليك سوى أن تسأل أي لبناني أو نيبالي أو جنوب أفريقي في زمننا الحاضر عن الحياة دون مصدر موثوق للكهرباء.
كما أن الهواتف نفسها تجسّد مثالا آخر على العولمة غير الرسمية. ويدين الهاتف الذكي العادي، الذي يستخدمه المليارات من الأشخاص، بوجوده إلى سلسلة إمداد تمتد عبر العالم لتوفّر له مكوناته، قبل تجميعه في مكان واحد ثم شحنه إلى مختلف الدول. وهو يتكون من مئات المكونات من 43 بلدا. ولن يكون الجهاز نفسه موجودا دون العولمة.
وربما تشحن هاتفك في سيارتك، وهي أعجوبة أخرى من التجارة العالمية، حيث إن السيارة المتوسطة مصنوعة من حوالي 30 ألف قطعة من بلدان متعددة. ومن المحتمل أن سيارتك تحرق الوقود الأحفوري، القادم من سوق معولم يربح حوالي 500 مليار دولار من المبيعات سنويا.
وكتب دانيال يرغن في كتاب “الجائزة: ملحمة البحث عن النفط والمال والسلطة” أن الحياة الحديثة ستكون مستحيلة دون النفط. وذكر أن لكل شيء في حياتنا اليومية جذورا في البترول الذي اعتبره شريان حياة مجتمعنا الحديث. وقال “لن نتمكن في غيابه من تحريك سياراتنا، أو الطيران، أو صنع إسفلت لتعبيد الطرق، أو صنع القوارير البلاستيكية لنقل مياهنا، أو إنتاج الأقمشة الاصطناعية التي تشكل الكثير من ملابسنا. لا يمكن أن يوجد العالم الذي نعرفه دون النفط”.
ربما لا تستهلك النفط للتنقل، وتقود دراجتك للعمل أو تعتمد سيارة كهربائية. لكن يكاد يكون من المستحيل إخراج نفسك من سلسلة التوريد العالمية. انظر إلى عشائك قبل كل شيء.
تنتج أكبر المؤسسات الزراعية في جميع أنحاء العالم ما يكفي من الغذاء لإطعام 8 مليارات شخص على كوكبنا. وإذا كنت تحب اللحوم، فمن المحتمل أنك أكلت لحم البقر أو الدجاج الذي تنتجه إحدى شركات المواد الغذائية الضخمة في العالم، والذي يتداوله أكبر مصدري السلع في العالم، قبل أن تشتريه من متجر بقالة كبير.
ويُذبح ما يقرب من 900 ألف رأس من الماشية يوميا في جميع أنحاء العالم. لكن بيانات وزارة الزراعة الأميركية حددت أن عدد الدجاج المذبوح يوميا يبقى أكثر. وأشار أحد تقاريرها إلى ذبح ما يقرب من 200 مليون دجاجة يوميا للاستهلاك البشري. وتُنتج بدائل اللحوم الغنية بالبروتينات مع ميزة إضافية تتمثل في سلاسل الإمداد الأقصر من تلك التي تعتمدها صناعة اللحوم التقليدية. لكن عناصر العولمة الأخرى، مثل مدخلات الطاقة، تلعب فيها دورا.
وتقدر الأمم المتحدة بالنسبة للفواكه والخضراوات أن الصادرات العالمية من المنتجات الطازجة والمجففة تصل إلى حوالي 20 في المئة من سوق تصدير الغذاء العالمي البالغ 1.4 تريليون دولار. وفي حين شوهد تحرك منطقي نحو المصادر المحلية لتقليل تأثير الشحن على البيئة، يبقى من المحتمل أنك تناولت فاكهة أو جوزا أو خضراوات من واحدة من ستة بلدان: الولايات المتحدة أو تشيلي أو المكسيك أو هولندا أو إسبانيا أو الصين.
إذا كنا نبحث عن نجم في قصة العولمة هذه، فقد يكون بطلنا هو مؤسس شحن الحاويات مالكولم ماكلين.
وكتب مارك ليفنسون، الذي ألّف كتاب “الصندوق: كيف جعلت حاوية الشحن العالم أصغر واقتصاده أكبر”، أن الابتكار غيّر الطريقة التي يعيش بها الناس، والطريقة التي تمارس بها الشركات أعمالها، والأنماط التي تتفاعل بها البلدان. وقال إن العولمة كما نعرفها ستكون مستحيلة دون الحاويات.
وحوّلت جائحة كوفيد – 19 تركيز الصفحات الأولى من الصحف إلى قضايا سلسلة التوريد. وأصبحنا نقرأ فجأة عن جزء أساسي يقتصر على فئة معينة من الأعمال التجارية العالمية. وتستفيد شركات الأدوية التي تنقذ الأرواح في الحقيقة من نظامنا العالمي أيضا. ويجب أن يُنظر إلى اللقاحات التي تلقيناها على أنها عولمة في إبرة. وجُمّعت مكوناتها من عشرات البلدان والباحثين المتصلين عبر العالم خلال بحثهم عن لقاح فعّال.
وأصبحت العولمة في الأثناء بالنسبة للبعض مرادفا رنّانا للإفراط، ومرتبطة بمخطط لتدمير الكوكب. ولكن البشرية تواجه تحديات تشمل تغير المناخ والصراعات والأوبئة، ولا يمكنها التغلب عليها دون التعاون عبر الحدود.
أشار ويليام جاي بيرنشتاين في كتاب “تبادل مبهر: كيف شكلت التجارة العالم” إلى أن “العولمة ليست ظاهرة حديثة، ولكنها مستمرة منذ الآلاف من السنين. كان العالم القديم أكثر ترابطا مما يُعتقد عموما. وسافر الأشخاص وتنقلت البضائع لمسافات شاسعة عبر العالم. وتبادل البشر الأفكار والتقنيات والثقافات”.
وكان ما يعرف اليوم بالشرق الأوسط في قلب اتصال ذلك العالم القديم. وابتكر ضابط العلم في البحرية الأميركية والجيواستراتيجي ألفريد ثاير ماهان مصطلح “الشرق الأوسط”. وقال المؤرخ كلايتون آر كوبيس إن التسمية جاءت من الإستراتيجية والدبلوماسية في أواخر القرن التاسع عشر، التي كانت بحاجة إلى تحديد اسم للمنطقة الواقعة بين الشرق الأدنى والشرق الأقصى. وذكر أن المصطلح يعكس نظرة أوروبا للعالم، حيث كانت أبرز القوى السياسية والاقتصادية والعسكرية، وربما بدرجة أقل الثقافية، من تلك القارة أو موجهة نحوها.
لكن النظام المتمركز حول أوروبا لم يعد موجودا. ووجد “الشرق الأوسط” لحظته في عالم متعدد الأقطاب، وأصبح نقطة حاسمة في التدفق العالمي للبضائع والأشخاص والخدمات ورأس المال والأفكار.
وتشكل المنطقة الأوسع الممتدة من شمال أفريقيا إلى غرب آسيا جغرافيا تجارية حيوية وموردا لا يستنفد. وأعادت أربع من شركات الطيران الرائدة في العالم لذلك تشكيل التنقل التجاري من خلال تحدي شركات الطيران الأوروبية والأميركية القديمة بطرق المسافات الطويلة التي تربط آسيا وأفريقيا بالعالم دون محطة أوروبية. وكانت هذه الشركات طيران الإمارات، والاتحاد للطيران، والخطوط الجوية القطرية، والخطوط الجوية التركية. وستزيد إستراتيجية الطيران الجديدة في المملكة العربية السعودية وشركة طيران الرياض الجديدة لذلك من حدة المنافسة بين اللاعبين الإقليميين الرئيسيين.
وأصبحت موانئ المنطقة، وخاصة تلك الموجودة في الإمارات والتي تلحق بها نظيرتها السعودية التي تحقق مكاسب سريعة، مراكز رئيسية للتجارة والشحن العابر. وافتتح ميناء جبل علي في دبي سنة 1979، وأصبح مركزا عالميا رئيسيا لشحن الحاويات والأكبر على خطوط الشحن الرئيسية بين روتردام وسنغافورة. وتروي زيارة جبل علي قصة عالمنا المُعولم. وتواجدت في الحاويات المارة عبره الملابس التي ترتديها، أو الأجهزة التي تستخدمها، أو ربما حتى الجهاز الذي تقرأ هذه المقالة عبره الآن.
ونجد ميناء خليفة في أبوظبي عبر مسافة قريبة من جبل علي. وهو من أسرع الموانئ نموا في المنطقة. كما وصف البنك الدولي ميناء الملك عبدالله بجدة بأنه الأكثر كفاءة في العالم.
وكانت بلدان شمال أفريقيا المطلة على البحر المتوسط مركز ثقل العالم القديم، وتشهد مكانتها نموا مرة أخرى حيث تستفيد دول المنطقة من جغرافيتها. ويحتل ميناء طنجة المتوسط في المغرب المرتبة السادسة من حيث كفاءة موانئ الحاويات حسب ترتيب البنك الدولي، وهو أعلى على اللائحة من جميع الموانئ الأفريقية والأوروبية. وتبرز الجزائر باعتبارها شريان الحياة الأكثر أهمية للغاز الطبيعي إلى أوروبا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. وأصبح المغرب وتونس مراكز مهمة لتصنيع السيارات والطائرات لأوروبا. وستكون إمكانيات ليبيا هائلة إذا تمكنت من تسوية نزاعاتها السياسية الداخلية.
لذلك، من الأفضل تسمية منطقة الشرق الأوسط بـ”العالم الأوسط”. وقد استفادت هذه المنطقة بالفعل من جغرافيتها لتصبح مركزا رئيسيا للتجارة والطيران واللوجستيات، بينما تنفق فائضها الرأسمالي للاستثمار في البنية التحتية التجارية في المنطقة. وتعدّ هذه الأسفار اليومية للسفن والطائرات الجهاز العصبي في عالمنا المعولم. وهي حيوية لبقائنا وإن كنا لا نلاحظها دائما.
ويحتاج العالم الحديث إلى النسيج الضام للتجارة المعولمة. ونجد الشرق الأوسط في قلب هذا الاقتصاد العالمي مرة أخرى. ويحتاج العالم الحديث إلى هذا العالم الأوسط لمواصلة الاستثمار والابتكار والمنافسة. ولا يمكننا المواصلة بأقل من ذلك.