- كتب: أحمد السلامي
يعزف مع فرقته ويتفاعل مع لحظة الأداء بمرح. كأنه يقترح وظيفة جديدة للموسيقى، غايتها إشاعة البهجة واستعادة إنسان العصر لروحه الهائمة. إنه الملحن اليوناني الشهير ياني Yanni الذي تحظى حفلاته ومعزوفاته بشغف الجمهور أينما ذهب. فماهي أسرار شهرة هذا الفنان؟ وما الذي فعله بالموسيقى في زمن العولمة والضجيج، أو زمن (الصخب والعنف) بحسب عنوان الرواية الشهيرة للأمريكي وليم فوكنر.
،،،
يمكن القول إن في كل ما يروق الجمهور، هناك دائماً عرض مدهش، وبخاصة في الفنون الأدائية، كالمسرح والرقص والموسيقى، وحتى في مباريات كرة القدم! وما فعله ياني بالموسيقى من حيث الشكل، هو أنه قام بتحويلها إلى عرض مدهش. يمكنك أن تسمعه وتشاهده في الآن ذاته. وبذلك نجح في مسرحة الموسيقى وإعادتها إلى الواجهة من جديد، بعد أن تحوصلت في كلاسيكيات عظيمة، تزاحمها أغاني البوب والراب ومختلف أشكال الغناء التي صارت الموسيقى فيها على هامش حركة المغني وفرقته الراقصة. فيما نجح ياني في الصعود بالموسيقى إلى ذرى عالية، لدرجة أن ألبومه ” في الاكروبوليس” باع أكثر من سبعة ملايين نسخة. فيما صنفت إحدى جولاته الفنية في المرتبة السادسة على مستوى العالم من حيث مبيعات التذاكر.
لقد دخلت مؤثرات عديدة على الطرق التقليدية المباشرة لعرض الفنون، بدأت بالسينما والأسطوانات ثم التليفزيون وأشرطة الفيديو، وأخيراً الانترنت. هذه التحولات كان لها انعكاس على مستويات التلقي والانفعال بالمنتج. ورغم أن ياني يشتغل على فن سماعي، إلا أنه لجأ إلى تقديم أعماله في عروض جماهيرية حية. كما جعل من ألبوماته المسجلة امتداداً لتلك العروض، بحيث لا تستغني عن الصورة وتقنيات الإخراج.
وفيما تعمل عروض ياني الحية على مسرحة الأداء الموسيقي أمام الجمهور فقط، فإن تسجيلاتها المصورة توظف تقنيات الإخراج التليفزيوني الحديث بحرفية عالية ومدروسة جيداً. تماماً كتلك التي نجدها في العروض المتلفزة لحفلات المطربين أو لمباريات كرة القدم. فتجد الكاميرات في حفلاته تغطي المشهد العام للمسرح والمؤثرات البصرية التي تتخلل العرض، مع تركيزها على إظهار لقطات قريبة تتنقل ما بين المايسترو والعازفين، وبين مشاهد مختارة بعناية لوجوه من الجمهور يبدو عليها الحماس والانفعال. لهذا يتداخل أسلوبه في تلحين مضمون أعماله مع أسلوب عرضها، الذي يحتفي بتفاعل كل الحواس مع الموسيقى.
تتميز العديد من معزوفاته بقدر واضح من التخلي عن البناء الهندسي للحن. أقصد ذلك البناء الذي كان يجعل الأذن وحدها هي المعنية بالتلقي. صحيح أن بالإمكان الإصغاء إلى موسيقى حفلاته بمعزل عن التسجيلات المصورة. لكن الإصغاء بالعين والأذن معاً يجعلك تكتشف مدى عضوية البعد البصري واتحاده مع الصوت. فما تقوله الصورة يعزز الملمح الدرامي في ألحانه ويجعله أكثر وضوحاً، ويبرز مدى كونه عضوياً في مستوى تلقيها. وبخاصة تلك التي تتضمن مساحات للعزف المنفرد، أو تلك التي يجري فيها نوع من الحوار بين آلتين موسيقيتين مختلفتين، كأن تكون الأولى وترية والثانية نحاسية. وأغلب مقطوعاته تستحضر في هذا السياق موتيفات موسيقية شعبية من ثقافات بلدان وأعراق مختلفة، يجعلها تتوالى على خلفية إيقاعية ثابتة. وفي هذا الملمح الدرامي الذي تخلقه الحوارات والتنويعات ما يستدعي الإصغاء إلى موسيقاه بالأذن والعين معاً. كأن الإصغاء وحده يكون معادلا للعقل، بينما الإصغاء المقرون بالمشاهدة يخاطب العاطفة والعقل.
إن ما ينجزه ياني يمضي في اتجاه المقاربة الأكثر جرأة وحميمية لمقولة عالمية لغة الموسيقى. إذ يبدو لمن يستمع إلى المقطوعات في ألبوم (at the Acropolis) وألبوم (Tribute) أن صاحبها يدشن بنبرة صادقة للغة موسيقية أكثر التصاقاً بالبشر، مهما اختلفت ثقافاتهم وانتماءاتهم العرقية. إنه يحاول تقديم وظيفة جديدة للموسيقي، تتأسس على النأي بالصوت عن مجال التأمل الذهني المجرد. فغاية هذا النوع من التعاطي كانت تتوقف عند حدود إدراك الإعجاز في اللحن وتوقع مصير كل جملة فيه، ومحاولة ربط تفرعاته بالثيمة المركزية التي انطلق منها. وهذا ما كانت تستحثه كنوز الموسيقى الكلاسيكية وتلح في طلبه من المستمع. بينما يصمم ياني موسيقى تقترح نوعاً من التفاعل الإنساني المرح. إذ لا توجد في أغلب مقطوعاته تفرعات تنمو دوائرها من جذر اللحن ومركزه. بل إن تصاعد المعزوفة يتكئ في الغالب على استخدام فضاءات نغمية تنتمي لمقامات وثقافات متعددة. وبتهميشه للتتابع المنطقي للحن، يترك مساحات للعزف الانفرادي الذي يتخلله أحياناً ما يشبه الارتجال، وهنا يستفيد من إحدى ميزات موسيقى الجاز، إضافة إلى أن الارتجال يوظف تعدد جنسيات العازفين واختلاف مرجعياتهم، لإبراز خصوصيات ولكنات موسيقية من مقامات متنوعة. ففي إحدى المعزوفات على سبيل المثال، نستمع إلى حوارية بين البيانو والكمنجة، يتوحد أثناءها عازف أرمني مع قوس كمنجته ليذهب بعيداً بمعزوفة شعبية، ربما استحضرها من تراث الأرمن الموغل في الحزن. لدرجة أن ياني تسمر أمام البيانو مندهشا، وتوقف عن العزف للحظات، ليسمح للكمنجة باستكمال لحظة الشجن الخارجة عن النص، أو عن هارموني البيانو.
كل تلك الخروجات والتنويعات تؤدي إجمالاً إلى غياب مركز اللحن لصالح الهوامش، وبالتالي غياب ذلك البناء العقلي المحكم الذي كانت تشتهر به الموسيقى الكلاسيكية. أي أن البعد التركيبي والبحث عن الاتساق والتنظيم لم يعد هدفاً للتأليف الموسيقي عنده، بقدر ما أصبح معنياً بفتح نوافذ أوسع لتعبيرات موسيقية تتصف بالتعدد، يجيد استحضارها بمرونة، عبر توظيف العزف الانفرادي، وباستخدام آلات متعددة، بعضها شعبية قديمة، مثل الديدجاريدو الأسترالية، وآلة دودوك الأرمينية، والطبول الإفريقية والهندية. إلى جانب توظيف الصوت البشري، سواء عبر الغناء، أو عبر أسلوب السوبرانو الذي تشتهر به الأوبرا. لكن حين يحضر الغناء في مقطوعات ياني، لا يحضر بوصفه أداء مستقلاً أو مهيمناً، بل باعتباره جزءا من الجملة الموسيقية.
في خلاصة هذه التأملات، يمكن اعتبار تمرد ياني على سيمترية وأكاديمية الموسيقى الكلاسيكية، مساهمة في تحرير الموسيقى من الالتزام لتاريخها المثقف وقواعدها الصارمة، ومساهمة كذلك في التأسيس لانفتاح العقل الغربي على ما يقع خارج دائرته، المثقلة من داخلها بتراكم صوت الأنا ومركزية إرثها العقلاني. أعني مركزية رؤى الحداثة التي شكلت حجاباً سميكاً بين الغرب ومعرفة الآخر، فأصبح لا ينظر إلى ثقافات وموسيقى الشعوب إلا من خلال ثقافته وموسيقاه.
على أن تمرد ياني لم يكن وليد الصدفة أو ثمرة موهبة فردية. فلا شيء في الفن يولد من العدم، أو من دون أن يعبر عن رد فعل تجاه منظومة أفكار وأفعال سابقة. وبالتالي فإن ما ينجزه هذا الملحن، وأسماء سبقته وأخرى تعاصره، إنما يصب في مجرى فسيح، يضم الحقول التي تعكس تجليات ما بعد الحداثة في أوروبا وأمريكا. ومعلوم أن بعض النخب الغربية كانت قد بدأت تشعر بالسأم والإحباط تجاه كل ما أنتجه العقل الأوروبي في زمن الحداثة. ومنذ عقد السبعينات من القرن الماضي، وهم يحولون ذلك السأم إلى فنون وتصاميم هندسية معمارية وبدائل جديدة قابلة للاستهلاك، أحدثها أفلام العوالم الافتراضية ثلاثية الأبعاد.
واتساقاً مع شكل العرض الذي يقدم ياني من خلاله موسيقاه، ستجده يظهر على المسرح ببنطال وقميص ليعزف ويقود فرقته بمرح، وقد يلقي على مسامع الجمهور تعليقات ظريفة تتخلل الحفل. وهنا صورة جديدة للمايسترو الذي تخلى عن وقاره وحتى عن بذلته الشهيرة. والأرجح أن الغرب عندما بدأ يفكر في تأليف موسيقى جديدة كهذه، بدأ أولاً بتجاوز كل القيود الجمالية والشكلية التي راكمتها تقاليد الموسيقى الكلاسيكية. فثمة سخرية مبكرة حتى من الصورة التقليدية للمايسترو، الذي كان يبدو أشبه ما يكون بجنرال يدير معركة فاصلة. ففي أحد أفلام ديزني الكرتونية القديمة، تحضر إحدى سيمفونيات بيتهوفن في خلفية مشاهد ساخرة. تتمحور حول شخصية المايسترو، الذي يقود الفرقة أثناء العزف. لكن تفاعله مع المقاطع جعله يبدو مضحكاً للغاية. حيث تتحول سلسلة إيماءاته العصبية لأعضاء الفرقة إلى شبكة عنكبوت هائلة نسجها بيديه أثناء تلويحه للعازفين. كان ذلك الفيلم القصير تدشيناً مبكراً أو متسقاً مع بدايات ظهور الضجر من عقلانية الحداثة في الغرب، ومن كل ما يتصل بميراثها، بما في ذلك ما أنتج في ظلها من أعمال موسيقية محكمة.
لقد تحولت معزوفات ياني إلى ظاهرة موسيقية، محمولة على أجنحة عديدة. فالحفلات التي أحياها في مدن عربية عديدة خلال السنوات الفائتة، جلبت إلينا المؤلف والعازف الأمريكي ذو الأصل اليوناني، ليحظى الجمهور في العالم العربي بالتعاطي المباشر مع موسيقاه لأول مرة. لكن فنه كان حاضراً بالفعل في ذائقة قطاع واسع من هذا الجمهور. فموسيقى ياني وأعماله كانت متداولة منذ فترة، سواء في أقراص مدمجة أو في ملفات صوتية وبصرية على شبكة الانترنت. بل إن البعض جعلوا نغمات من أعماله على هواتفهم المتحركة. حتى الذائقة (المونتاجية) الرسمية، كانت تستخدم مقاطع من معزوفاته في مقدمات برامج الأخبار. وهكذا طارت موسيقى ياني إلى أرجاء العالم، على أجنحة العولمة وتكنولوجيا الاتصال الحديثة. ناهيك عن جولاته في آسيا وأوروبا والأمريكيتين.