- أنور العنسي
تدمر النزاعات المسلحة الحديثة كل ما تبنيه البشرية منذ قرون، بل آلاف السنين في صراعها مع الجهل والتخلف والمرض.
نرى اليوم مثلاً مدناً يتم تدميرها عن آخرها، ومصانع ومزارع يجري تجريفها ، ثم نرى عالِماً أو بروفيسوراً أو حتى موظفاً عادياً أفنى جل عمره نظيفاً مستقيماً يقع بعد عقود من خدمته للصالح العام في براثن الحاجة والفاقة والجوع ليتصدر في المشهد بديلاً عنه عصابة، أو مسلحٌ غر ، لصٌ، تافه، وقاطع طريق، ولا يمنع ذلك المستفيدين منه من أن يضعوا على كتفيه أنجماً وشارات وأن يرصِّعوا صدره بأوسمة لا يستحقها لا هو ولا مانحوه إياها بأي حال.
الكل في مناطق كثيرة في العالم واقعٌ في لحظة من فوضى عامةٍ عارمة تخطت المعقول واللامعقول في العبث بكل أسس وضروريات استمرار الحياة، وينبغي لها أن تتوقف.
كل نوع من البناء المادي يمكن أن يضمحل ويتصدع وينهار ، لكن المفترض أن تبقى القيم وأن تتراكم ويُعلى من شأنها لأنها الرأسمال الأخير للإنسان الذي يتيح له إعادة البناء عليها.
في اليمن مثلاً ، في أسوأ مراحل تخلفه وبؤسه كان المقاتل لا يقاتل إلاّ مقاتلاً مثله ، ومن العار أو (العيب الأسود) أن يتعرض أحد المتحاربين لإمرأةٍ أو طفلٍ أو عابر سبيل أو عامل في الخدمة الأهلية المدنية، أما اليوم فالانتهاكات التي ارتكبها معظم أطراف الحرب تجاوزت كل ما كان محترماً ومقدساً في العقل والضمير .
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية 1945 طلب رئيس وزراء بريطانيا من مساعديه تقريراً بخسائر بلاده في هذه الحرب، وعندها فوجئ بحجم وضخامة تلك التقارير ، لكنه وضعها جانباً واكتفى بسؤال وزرائه سؤالاً مهماً وذا مغزى “إخبروني، هل ما يزال الناس يحترمون الانتظام في الطابور” فقيل له “نعم” فقال “إذاً بريطانيا بخير”!
وعندما تجاوز شخص طابوراً طويلاً من الواقفين ليقنع أولهم بالسماح له بدفع قيمة (زرار) صغير لترقيع قميصه أتاه من آخر من الطابور من يقول له “لا ، روسيا دفعت عشرين مليون إنسان كي تحافظ على النظام الذي تريد الآن تجاوزه” وتم طرد الرجل من المكان وسط احتقار شديد من قبل الجميع.
من البدهي والواقعي في ظل الحروب أن يخسر البشر كل شيئ ، الأرواح، والمال، والماديات، لكن أفدح الخسائر على الإطلاق هي القِيم والأخلاق والمثل.