- كتب: مصطفى ناجي
نكبر وتكبر في أعماقنا أغاني عبدالباسط عبسي.. ذهبت بنا أعمار الطيش في البحث على المحفّز والغريب والجديد والمتسارع آفاقاً بعيدة ثم ركدت الهمم بعد نَصَب وعُدنا نفتّش في الدفاتر القديمة عن لحن تسلّسل إلى الباطن خلسة وركد مدخَّراً لمثل هذه اللحظة.
شقوق الغربة عمياء متشعبة كشقوق الأرض اليباب.. لا يردمها إلا صوت شجي برائحة الأرض الممطورة وصادق بصدق مواعيد الفلاحة.
“سخيت”! بكل ما تحمل من استنكار واستعطاف، تنفذ في السمع مصحوبة بألف صورة وصورة.
من زهو اخضرار الربيع إلى رائحة سيقان الذرة بعد عبور شفرات المناجل الحادة المعدّة للحصاد ومرأى “الصوارع” (السنونو) المغيرة كسهام الريح.. ذاك العتاب الحلو والترجي الأغنج، كشف حساب القلوب المرهفة.
أتساءل: لماذا عبدالباسط عبسي تحديداً؟
في الزمن والمكان تفسير.. لكن عبدالباسط عبسي يفسّر عبدالباسط عبسي ويسوغ الاختيار ويشفع الذائقة.
إننا مرهقون، أنهكنا الرحيل الطويل.. سفر في الأرض ونأي عن الذات.. مسيرة مبجلة من الغروب والإشفاق والانكار لعذابات طيات السبيل، لكن الأقدام إذ تخطو ترسم طريقاً ممتداً تحت الظلوع.. مسالك بلا نهاية ولا مستقر ولا لوحات إرشادية أو اتجاهات.
في أغان عبدالباسط عبسي بعض التعلل بالأصالة والبساطة.. قبيل الظلام، يهتف راعٍ حاد الصوت لعنزته الأخيرة المتخلفة عن الجموع في الرواح.. الصوت الأخير الخافت هو آخر الآمال قبل دهم وحش الليل.. جملة لحنية مشتقة من صدى النداء الأخير في شقوق الآكام وقت الغروب.
فيها ابتهالات شيخ القرية القابع على “صلالة” متأرجحة في طرف صرح المسجد، وفيها بوح الأمهات المهجورات من قسوة الغياب وسطوة الهواجس في المساء.