- عبدالسلام القيسي
وأنا بالطريق الى الخوخة أختلفت مع صديقي السائق على كل شيء،
أضع أغنية فيرفض، يضع ذوقه من أغانيه فأنزعج، وهكذا دواليك، مررنا بغالبية الفن العربي، أشهر المطربين، بلا فائدة..
وفجأة وجدتني أمام باقة من أغانيك في هاتفي ومدتها ثلاث ساعات وفرضتها منتظراً إنزعاج الآخر فصاح بي: ايوه الآن أوكيه..
أختلفنا حول كل شيء وتناقضت أذواقنا بين الجميع، كبار وصغار وبحجمك وأكبر منك وأقل، ولكن وحدك جمعت روحينا وحميت مزاج سفرنا من الفشل، وهذا شكري لسعادتك يا فنان العرب الأول، ومن قال أنك السلطان؟
أنا أعترض..
هي ليست لعبة اسماء أو نظر، فالسلطان، سلطان كل شيء، أقل منك فقد وحدت المحيط والخليج بصوتك أكثر من زعيم وأكبر من قضية وصرت الخيط العروبي الممتد في كل مكان وترانيمك عنوان كل عاصمة، من صنعاء إلى الرباط، ومن حلب إلى جدة، ومنك إلي، فتعال لأحدثك يا شامي الصوت: أحدثك من الخوخة، وأمامي قوارب الصيد، يا جورج، من اليمن، من بلاد الحرب والكارثة، كنت صغيراً يا جورج وأول هاتف متواضع أمتلكته عندما أشتريته بعشرة آلاف يمني طلبت من محل الوكيل في التحرير الأسفل بتعز أن يملأه بأغانيك، ولم أستخدم بطاقة إتصال، أنا أشتريته لأسمعك أنت وكيلا أحتاج لماجد ابن عمي أو هشام، لأستمع لك، لقد تحررت منهما ومن عبدالناصر العائد من المملكة، ويحمل هاتفاً مليئاً بأغانيك، وأنا مراهق أحب سماع جورج، فذهبت أقبض المال من ضمان مزارعنا السنوي وأشتريت لي هاتفاً، بمبلغ كان حينها ثروة، والثروة ترخص لأجلك، وقضيت أيامي أتنقل بين بحاتك وبين أصواتك الكثيرة، أعرق صوتك الأخير، ثم عرفت طفولتك، ثم عرفت عنك كل شيء، كله..
وحدك لا يختلف حولك إثنان، بساطة أغانيك قوتها الفارقة، سهولتك في الغناء، يا جورج، هي أجمل إبداعك، فأنت لا تغني فقط، أنت تنشر مشاعرك على حبال الدنيا، ولا مقامات تليق بك فأنت مقام وقرار ومدرسة وفن مختلف، نوعيتك مأخوذة من حاجة الإنسان للشعور بالسمو، للبكاء، للضحك، للعتاب، للإنخفاض، لكل المشاعر، لأي تفصيل، فمن يحب يجدك وقد منحته الطاقة، وأنت لمن يفارق، ومن أختلف مع صديقه، للمجروحين، المخدوعين، أنت لم تتعال على جمهورك، أنت صدحت بلسان حالهم، تغني بتفاصيل العلاقات الصغيرة، فن التفاصيل المدهشة، فالبقية من الفنانين يتعالون على مشاكل وتفاصيل الناس، أو ينخفضون، إما ولغة أغانيهم عالية لجمهور نخبوي قليل أو منخفضة لجمهور تافه، لكن أنت واسطة العلو والإنخفاض، ولم تحدد أغانيك لفئة دون أخرى، للجميع، للعلاقات الانسانية، أياً كان نوعيتها، فأغنية “كذه كفاية” تعبر عن متاعب الحب بين فتاة ورجل ومتاعب الصداقة بين رجل ورجل، أنثى وأنثى، شيء وشيء، كل مستمع يجد نفسه في الأغنية، ويوم الوداع هي للوداع كله، ولو بين أم وولد، وأصعب فراق، كأن تفارق مدينة ما، فأنت تغني يا جورج للمبدأ وللمعنى، وكل مرهق يأخذ ما يناسبه، ويتوشح شعورك..
هنا الفن، والعظمة، الطفل الشاب الكهل، الفتاة ، العجوز..
تعال لأحدثك يا جورج: كاظم الساهر فنان عظيم، لكن فنه كله ذكورياً، لا يمكن أن يناسب فتاة، فهو خطاب جميل من طرف واحد، ومن جنس واحد، إلى جنس آخر، على عكسك أنت، من الجميع، إلى الجميع..
أنت لا تذكر ولا تؤنث..
أنت فنك إنساني بالضبط، لا يعترف بالحد، ويتجاوز الحدود، يمزج الفئات، أعلى من حواجز النفسيات، وهذه اللحظة أو أي لحظة لو أنك تغني، وفي المكان فتاة وشاب وكهل وعجوز وطفل، وأغنية عشاق آخر زمن، أغنيتك هذه تناسب الكل، كلُ يراها بعين طبعه، وتعبر عن ليلاه وعن ليله، بلا منازع .. لقائد عسكري خذله ضابطه، لإمبراطور فقد عرشه ولتاجر حسده الآخرين، وأنت أمام البحر تسمع جورج، وبرأس الجبل، في حرب أو سلام، بزفاف، أو في مأتم، تنعي وتعاتب، جورج يحضر بكل شيء.
مساء الخير يا صوتي المفضل، كلما شاهدتك على عكازك اللعين أحزن، أشعر أنك في مراحل حياتك الأخيرة، عتبة النهاية، وسأكون ممنوناً للقدر أني عشت في حياتك، وتعلمت الذوق منك، ومنك واليك تفننت، فأنت لطفت روحي، جعلتني أتجاوز اشياء كثيرة، كنت أكبر معك من الخذلان والفراق ومغادرة الأماكن والصحب.
يا صاحبي، أنت صاحبي، منذ وعيي الأول، ومنذ الكلمة الأولى.. من قريتي، رافقتك، طفلاً سمعتك، وأنا أراهق، وفي شبابي، عند أول نظرة، وبعدما ذهبت المحبوبة، عندما خذلني صديقي، وأنكر فضلي الآخر.. أنت في دمي.. في تفاصيلي، كل قضية تقضيها أنت، أستخير بأغانيك عن كل ملمة تلم حياتي، وأنا أفكر بعودة أحدهم طالباً الود أجدك تغني “تأخرت كثير” فألوح بيدي مبتعداً عمن غاب وأنا أحتاجه وعاد وقد تشافيت بوجودك يا جورج، من يعيد لي السنوات يا جورج ؟ لا أحد.
لست فناناً فقط، أنت فيلسوف العشاق، فلسفتك بلغة سلهة، ولحن وتستطيع أن تؤثر بالناس أكثر من عتاولة الفكر، فأصل الهوى لعبة نظر هي قراءة دقيقة، وبالمختصر، بلا فذلكات ودراسات ونظريات،فأغنية كهذه تحيل الفلاسفة العميقون إلى فتات، دعوكم من البراهين، ففي أغنية فقط شرح الحب، وانبعاثاته، فمن مثل جورج؟ لا أحد، أبداً.