- كتب: مصطفى ناجي
تمر علينا الذكرى الثالثة والثلاثون لتحقيق الوحدة اليمنية بين شطري اليمن والبلاد تعيش لحظات عسيرة وامتحاناً وجودياً.
الوحدة لم تكن نزوة عابرة، بل تجسيداً لنضال اليمنيين المؤمنين بواحدية المصير وبالوجه النفعي للوحدة المتجاوز للعواطف الصادقة.
قبل أن تنشأ الدولة الوطنية في العالم العربي والإسلامي لم يكن سؤال القطر و لا توحيده سؤالاً وجودياً. فكل البلاد واحدة يوحدها الدين واللغة والانتماء الثقافيِ، والجغرافيا ليست الا امتداد مساحة..
لكن الدولة القطرية فرضت سؤال الجغرافيا كمحدد سياسي.
وهنا، وبفعل رسم حدود جغرافية سياسية عمّدها الاستعمار البريطاني وساندته الإدارة العثمانية المسيطرة على جزء من اليمن والبلاد العربية، برز سؤال الجغرافيا ومعه سؤال: من هو اليمن؟
أريد التذكير بأن الحدود الشطرية لم يرسمها اليمنيون، إنما ورثوها من المرحلة الاستعمارية بعد توقيع اتفاقية رسم حدود بين الانجليز والعثمانيين في الأعوام من 1902 إلى 1904..
فشلت سلطة الإمام في التعبير عن اليمن الكبير بسبب ضيق الأفق الطائفي وسياسة العزلة والغزو المحلي والافتقار للشرعية الوطنية.. وافق الإمام يحيى على الحدود مع بريطانيا وانجز اتفاقية حدود مع السعودية.
وعليه، أشتعل سؤال الهوية السياسي، بينما الهوية الثقافية لم تكن موضع جدل، لأن فضاءات الانتماء لليمنيين كانت محسومة، فالانتماء يبدأ من قرية اليمني وينتهي بفضاء إسلامي عربي كبير لا يفصله عن الفضاء الإنساني البشري.
سُئِل فيصل بن شملان: “من أنت؟”، في جريدة النداء. فأجاب: حضرمي يمني عربي مسلم.
والانتماء لليمن عابر للتاريخ لا يمكن حسمه بما اقترفه المستعمر الخارجي في لحظة ما أو ما ارتكبه السياسيون من حماقات عاجلة لأهداف قصيرة بقصر خيالهم.
….
الوحدة ككل صيغة تعاقدية تصح حولها الأسئلة ولا تفسدها.
….
لا بأس من وجود مشككين بالوحدة ورافضين لها، لكن هذا لا ينسي الجميع أن الوحدة لم تكن شأن نخب سياسية بعد الاستفتاء على دستورها، وكانت مرهونة بالديمقراطية والتعددية السياسية وانتهاء صيغة الحزب الواحد.
الدعوة إلى بقاء الوحدة أو نسفها خارج هذا الإطار هو استبداد وطغيان.
اليوم، يجد الصوت الانفصالي كل التسخير لدعوته وينشط إعلامياً وسياسياً ويجد سنداً ضمنياً خارجياً، ولن أسهب في الحديث عن السياق الخارجي.
يستمد المشروع الانفصالي طاقته محلياً:
– من سلوك الحوثي الانفصالي الذي ما إن واتته الفرصة حتى قرّر اقتحام كامل اليمن وما يزال يتربص ويتحيّن الفرص.
– من همود القوى السياسية اليمنية وتخاذلها عن التعبير عن قواعدها الشعبية أولاً واستلذاذها لتصفية الأحقاد على حساب منابعها الفكرية ومساراها التاريخي، ثانياً..
– من خجل القوى الوحدوية الجنوبية التي تخشى مآلات استخدام السلاح والقوة من طرف الانفصاليين ولديها تجارب مريرة في السنوات الماضية.
– بل ويستمد طاقته من تهافت نخب وأقلام من محافظات شمالية لا تملك تصوراً لمصلحة عامة وليس لديها ثوابت وطنية وتميل حيث مال “القرش” أو وجّهتها ضغائنها واحقادها الصغيرة.
– وقبل هذا يستمد المشروع الانفصالي حيويته من وهم أن محافظات الجنوب صارت في مأمن من مشروع الحوثي التمددي وقدرته على الأذى، هذا التوهم لا يأخذ بعين الاعتبار محاولات الحوثي المتكررة العودة إلى شبوة واقتحام أبين، بل وتعطيل الموارد وقصف المنشآت والمطارات والمباني الحيوية، وانه لو لا الجبهات الصامدة ذات الكلفة البشرية والمادية العالية في تعز ومأرب والجوف والحديدة لوصل الحوثي إلى حضرموت بيسر وعاث مجدداً في عدن.
لكن الحال في اليمن الآن يدعو إلى اليأس والاستسلام إلى الحلول العاجلة المفروضة.. هناك من لا يستطيع أن يرى بعيداً وسيتنازل عن المسار السياسي اليمني الذي شرع فيه اليمنيون منذ 2012 وتصوراتهم العاقلة لتجاوز عثرات الوحدة الاندماجية واقتراح حلول لا لتعالج مشكلة الجنوب فقط إنما مشاكل اليمن المزمنة: احتكار السلطة والمال، استخدام السلاح لتنفيذ غايات سياسية، الاستبداد والمركزية…
في لحظة توافق قرّر اليمنيون الانتقال إلى الصيغة الفيدرالية.
لكن هناك من يريد أن يفرض مشروعه الضيق غير التوافقي على اليمنيين في لحظة يأس وتيئيس.
الجنوب مضطرب بلا سلطة مركزية والشمال منقسم تحت سلطة غاشمة أنانية حوثية مشروعها النهب والتحاذق البلاغي ومناطق لحكومة الشرعية مشتتة لا يربط بينها رابط، ما الذي يربط الآن بين مأرب والبقع وتعز وميدي؟
ثم يأتي مستهتر يقول: الشماليون لا يريدون التخلص من الحوثي.
سيكون من العيب التشدق بالوحدة الاندماجية لأن عيوبها كانت قاتلة. وسيكون من العيب التخلي عن مشروع الوحدة الفيدرالية بهذا التراخي.
لذا يلزم مخاطبة أبناء محافظات الجنوب بمشروع جامع قادرة على تحقيق إرادة اليمنيين السياسية ويضمن لهم مستقبلا مزدهرا، بلا قيود قانونية إضافية ولا واحقاد.. انما شراكة وسلطات محلية حقيقة في إطار فيدرالية تتعدد فيه مستويات السلطة وتبقى المصالح السيادية محفوظة وتعزز التنمية لكامل اليمنيين.
يجب مساندة القوى السياسية غير الانفصالية في الجنوب لتعمل في الساحة الجنوبية دون قيود ولا ترهيب، وعلى القوى السياسية اليمنية تحمل مسؤوليتها والخروج من جلباب الصمت والارتهان للمعادلة السياسية الضيقة والتقاسم المميت للمناصب، عليها الالتحاق بقواعدها الشعبية والتعبير عنها وعن مصالحها. عليها التمسك بالمسار الديمقراطي، دون ديمقراطية لا شمال ولا جنوب ولا وحدة ولا انفصال، مجرد تغابٍ عن تجربة ما بعد قيام الدولة والنظام الجمهوري في الشطرين.
على قيادة البلد ان تفي بالتزاماتها الدستورية تجاه اليمن واليمنيين، الشروع في معالجة مشاكل الوحدة الاندماجية تدريجياً وفق القدرات المتاحة وبما لا يعيق مواجهة المشروع الحوثي، من غير المعقول التنازل عن سيادة بلاد أو عن حسن توزيع لموارد البلاد مقابل مراضاة لنزق مشروعٍ واهٍ.
ثم يجب أن نعي أن محافظات الجنوب في الوقت الراهن هي اليمن المعترف بحكومته دولياً وهي ساحة العمل لكل القوى السياسية اليمنية، ومن دون استقرار واجواء سياسية حميدة لا يمكن الخوض في نقاش حول الانفصال أو عدمه ولا مواجهة الحوثي، يجب أن تكون محافظات الجنوب لكل اليمنيين حتى تتشكل قاعدة وطنية قادرة على الخوض في قضايا مصيرية.
سأكرّر أن الوحدة مشروع سياسي والانفصال مشروع سياسي، وبعيداً عن الالتزام القانوني والدستوري تجاه الوحدة، لا قداسة لأي منهما.
عيد وحدة مجيد.