- كتب: عارف الدوش
أول وزير للصحة في الجمهورية
عقب قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م تم تعين علي محمد سعيد أنعم في اول حكومة وزيراً للصحة وكان أول اهتماماته تنظيم أعمال وزارة الصحة ومواجهة الأمراض الوبائية وكان عليه أن يخوض أول معاركه مع وباء الملاريا.. ففكر باقامة معسكرات الشباب المتطوعين وتشكيل فريق منهم لأعمال المكافحة وتزويدهم بالتوعية والتثقيف الصحي والتدريب وزودوا بالحقائب الطبية وأخذوا يجوبون السهول والأودية ويجتهدون في مكافحة الملاريا والحد من أنتشارها .. مجاميع تذهب ومجاميع تجيء.
وفي المؤتمر الاقتصادي الأول الذي عقده مجلس قيادة الثورة في صنعاء خلال الفترة 25 – 27 أكتوبر 1962 م كان الأستاذ محمد أحمد نعمان حاضراً في المؤتمر، فأوحى لوزير الصحة الذي كان جالساً بجواره بأن الفرصة سانحة والكثير من التجار هنا فلما لا يعلن عن تأسيس جمعية الهلال الأحمر اليمني.. راقت الفكرة للوزير لكنه كان يرى ضرورة إخراجها بشكل مشروع قابل للتنفيذ فقدم خلال المؤتمر دعوة إلى التجار لحضور اجتماع في وزارة الصحة فأحتشد الناس وكان النعمان قد سبقهم فقام خطيباً فيهم، وألقى كلمة ألهبت المشاعر وحركت الاحاسيس الوطنية فتدافع الجميع دون إستثناء للتبرع بسخاء.. كانت التبرعات تتابع والعطاء يتواصل فقام تاجر يدعى إبراهيم حيدرة ليتبرع بحماس تشنجت معه أعصابه.. فتبرع باسمه ثم عاد فتبرع باسم زوجته ثم باسم ابنته ثم باسم ابنه.. ثم قام تاجر وطني أخر قدم من عدن يدعى محمد علي الشيباني (الجريك) فتحسس جيوبه وأفرغ كل مافيها لصالح الحملة لكنه ظل غير مقتنع بما تبرع به وبدأ يلتفت يمنة ويسرة وهو لا يدري بأي شيء يتبرع حتى يرضي وطنيته وتحسس مفاتيح سيارته الشخصية في جيبه ووضعها بين يدي المجتمعين معلنا تبرعه بسيارته التي قدم بها من عدن وسط دهشة الحاضرين..
بعد أيام قضاها في مكتبه بوزارة الصحة توجه توجه وزير الصحة علي محمد سعيد إلى الميدان حيث زار عدد من مناطق البلاد ومنها تربة ذبحان يرافقه زميل نضاله علي الضبعي واستقبلهما الشيخ أحمد سيف الشرجبي فحول اصطبل للخيول مهجور إلى مستوصف ودعا الناس إلى المشاركة في أقامة مستوصف صحي وبناء دور إضافي عليه.. ثم أخذ معه الشيخ عبد الولي أحمد سيف الشرجبي دليلاً وتنقل بين القرى والجبال حتى وصلوا إلى منطقة المصلى فالمفاليس فمعبق وفي كل منها يؤسس وحدة صحية.. وواصل طريقة إلى حيفان ومنها إلى الراهدة سيراً على الأقدام في شهر رمضان وفي الراهدة كانوا لتأسيس لمستشفى..
وفي تعز ذكره شهر رمضان بمرضى الجذام ورثى لحالهم واضمر في نفسه إقامة بناء مدينة متكاملة لهؤلاء المرضى في منطقة الحصب بتمويل من شركة هائل سعيد أنعم وشركاه فتم بناء مستشفى خاص بمرضى الجذام حتى صار مدينة واسعة تضم عدداً من المنشأت والمرافق الطبية منها مستشفى الأمراض النفسية والعصبية وعرفت فيما بعد بمدينة النور.. واستمر في جهوده بوزارة الصحة حتى تم تعينه عضواً في مجلس قيادة الثوره ولجنة الشؤون الاقتصادية في 17 إبريل 1963. (1)
بريطانيا ترحل هائل من عدن
وبينما هو منهمك بنشاط وحيوية في عمله الحكومي وزير الصحة ثم عضوا في مجلس قيادة الثورة إبريل 1963م تلقى برقية من عمه هائل سعيد أنعم تفيد بترحيل بريطانيا له من عدن إلى كرش الحدود مع الشطر الشمالي من الوطن .. ” شعر يومها علي محمد سعيد بأن الأرض تميد تحت قدميه وتوجه على الفور إلى الرئيس عبد الله السلال أثناء زيارته لمناخة وأعلمه بالأمر فثارت ثأئرة الرئيس وطلب أصدار بيان يندد بذلك التصرف الذي أقدمت عليه سلطات الإحتلال في حق هائل سعيد.. غير أن علي محمد سعيد لم يتحمس كثيراً لإصدار البيان فقد كان يخشى من إستفزاز البيان لقوات الإحتلال فتلجأ للإنتقام ممن بقى من أفراد الأسرة في عدن”.
وصل الحاج هائل إلى تعز ليجد الأستقبال اللأئق به وبابن أخيه ومكث فيها شهراً عمل على ترتيب أوضاع نشاطه التجاري وأرسل في طلب إبنيه عبد الرحمن وعبد الواسع اللذين كانا يتابعان دراستهما في الخارج لمساعدة أخيهما أحمد الذي وصل من المانيا أثر تسلمه برقية من والده بترحيله من عدن إلى الشمال فاستمر عبد الواسع بجانب أخيه أحمد وتولى مسؤولية وكالة فورد كما أضطر عبد الرحمن للبقاء في القاهرة لمتابعة الدراسة في الجامعة الأمريكية.. وفي الأول من يناير 1963 سافر علي محمد سعيد على رأس وفد تجاري إلى القاهرة وكان حينها يشغل عضو مجلس الرئاسة والتقى الرئيس جمال عبد الناصر الذي قادة وشاح النبيل. (2)
رئيساً للبنك اليمني للإنشاء والتعمير
“في 5 مايو 1964م كان الشيخ علي محمد سعيد يتابع نشرة الأخبار فأذا به يفاجأ بقرار مجلس الرئاسة بتعينه رئيساً لمجلس إدارة البنك اليمني للإنشاء والتعمير، فأنتفض منزعجاً لم يكن مستعداً لرئاسة البنك في ظل الظروف الصعبة والمشاكل الجارية فقد كان يعلم أن خزائن البنك فاضية من السيولة النقدية في الوقت الذي تتزايد معه باستمرار احتياجات الدولة من النقود ودفع مرتبات الموظفين وحاجة المجتمع المتزايدة من السلع الخارجية.
جلس يفكر في الأمر ورأى أن يرفض.. ثم أخذ يفكر ويقدر وصار أكثر إضطراباً حين قفز إلى ذهنه أن الرفض ستكون له إنعكاساته على سمعة البنك الذي قد يفقد الثقة في أوساط المتعاملين معه من التجار والمواطنين والبنوك الخارجية وقد يؤدي إلى تصفيته !.. بدأ القرار الذي يحب أن يتخذه صعباً.. فليس من اليسير قبول تحمل المسؤولية لكن الأصعب من ذلك هو تركها (…)..
وإذا بالباب يطرق فقام متثاقلاً ليفتح الباب للقادم فإذا القادمون اللواء عبد الله جزيلان نائب الرئيس وعبد الغني علي أحمد وزير الخزانة والدكتور عبد المنعم الطبيب قائد الحرس الخاص للرئيس عبد الله السلال جاءوا ليناقشوا معه قبول القرار.. أقتنع بعد أن قبل وزير الخزانة بأن لا يصدر أي تحويل مالي على البنك إلا في حدود الرصيد الخاص بخزانة الدولة.. وعند ذلك توجهوا جميعا إلى الرئيس السلال وأعلن استعداده لتولى المهمة.
يسرد علي محمد سعيد البدايات النشطة بينه وبين تجار صنعاء وتجار الحديدة وتعز ثم زيارته لبنك القاهرة وطلب خبراء مصرفيين فاعارهم البنك الخبير عبد الفتاح عصمت كما وتم إختيار الدكتور محمد سعيد العطار مديراً عاماً للبنك بتزكية من الأخ أحمد الشجني وكان العطار عاد للتو من باريس الى القاهرة بعد أن حصل على درجة الدكتوراة في الإقتصاد من جامعة السوربون وبارك المشير السلال الإختيار وأصدر القرار الجمهوري بالتعيين..
ويسرد علي محمد سعيد تفاصيل زيارته إلى يوغسلافيا للحصول على قرض البنك اليمني للإنشاء والتعمير بعد تحسن مركزه المالي.. لكن المهمة فشلت.. فتوزع وفد البنك إلى مجموعتين سافر علي محمد سعيد وحسين الحرازي إلى ألمانيا لمقابلة رئيس مجلس إدارة دتش بنك وخلال التفاوض وافق رئيس مجلس أدارة دتش بنك أن يأخذ البنك اليمني للإنشاء والتعمير ما يريد دون تحديد سقف نظراً لألتزام البنك في تعاملاته السابقة مع دتش بنك.
فيما سافر الدكتور العطار إلى فرنسا وفور وصول علي محمد سعيد وحسين الحرازي إلى باريس رتب لهم الدكتور العطار لقاء مع بنك اندوشين فحصلوا على تسهيلات محدودة ثم انطلقوا إلى لندن وقاموا بالإتصال مع ميدلاند بنك ونارييني موسكو بنك وأستطاعوا خلالها الحصول على عدد من التسهيلات الجديدة وعاد الوفد إلى صنعاء وقد حقق نجاحاً غير مسبوق.. رفع العطار تقريرا بنتائج زيارة الوفد الى أوروبا الغربية للواء حسن العمري رئيس الوزراء الذي كان سعيداً بنتائج الزيارة.. وهو يطالع التقرير والتفت إلى علي محمد سعيد قائلاً له: الآن نستطيع أن نحول على البنك .. غير أن علي محمد سعيد رد عليه لا.. ذلك ليس ملكاً للبنك بل ملكاً للمقرضين الخارجين الذين منحونا التسهيلات بضمانة وفاء التزاماتها اول باول ومعنى أنكم تحولون على البنك يعني عجزنا دون شك عن الوفاء بالتزاماتنا تجاه الخارج وهو ما سيؤدي إلى قبر البنك وسنكون جميعا مسؤولين عن ذلك”.. (3)
ظل علي محمد سعيد يواصل أداء مسؤولياته حتى بدأ الخلاف يدب بين رفقاء النضال في الخامس من نوفمبر 1967م وشعر أن الأمر لا يتجاوز وجهات النظر الشخصية ولم يشأ أن يميل لأي منهما ورأى أن الوقت قد حان للعودة إلى النشاط التجاري الذي انقطع عنه سنوات وكتب إستقالته وأرفقها بجواز سفره الأحمر ثم أتجه إلى رئيس الجمهورية (القاضي عبد الرحمن الإرياني) الذي كان في زيارة لذمار والذي تفهم الإستقالة وقبلها منه.. لكنه استغرب من إرفاق الجواز بها فأعاده إليه وقال له: أحفظ الجواز في جيبك فلا يزال من حقك حمله فقررت تعيينك مستشاراً إقتصادياً لرئيس الجمهورية توجه إثر ذلك علي محمد سعيد إلى القاهرة لانه كان يشعر بحاجة ماسة إلى الراحة. (4)
مشاركة في فك حصار صنعاء
قطع راحته في القاهرة وعاد فوراً من القاهرة إلى الوطن هبطت الطائرة في مطار الحديدة ليرى القاضي عبد الرحمن الإرياني رئيس المجلس الجمهوري قد أنتقلت حكومته إلى الحديدة فقد تعرضت صنعاء لهجمة شرسة وحصار لإسقاط النظام الجمهوري.. وما أن وصل إلى مطار الحديدة وذهب لمقابلة الرئيس القاضي الإرياني حتى كلفه بدور التمويل بالمواد الغذائية لدعم الدفاع عن العاصمة صنعاء.. فقام بالتواصل مع التجار في عموم محافظات الجمهورية والتجار في عدن وطلب من عمه الحاج هائل سعيد أن يرسل على وجه السرعة أقصى ما يستطيع شحنة من المواد الغذائية.. وقد أستجاب الجميع وهبوا لتقديم ما لديهم من إمكانيات وأخذت شحنات المواد الغذائية تصل تباعاً من عدن عبر البر إلى تعز وعبر البحر إلى الحديدة وصمدت صنعاء وتم فك الحصار الذي دام سبعين يوماً. (5)
قرار التأميم في عدن
“ثم انتقل بنا الحديث عن إخوة متسرعين في أتخاذ قرار التأميم دون دراسة لعواقبه في الشطر الجنوبي من الوطن ومضى يقول: كان يوماً مظلماً على عدن حين تناقل الناس قرار التأميم فشرع التجار في تصفية أعمالهم ونقل أموالهم على عجالة وكان الحاج هائل لا يزال يتريث في الرحيل قبل أن يأخذ ما يقدر عليه ويمضي في طريقه إلى تعز .. كان الرجل يتابع نشاطه في عدن ويترقب تطورات الأحداث .. لكن الحاج هائل سعيد شهر بعد تطور الأحداث أنه لا مقام له في عدن فتهيأ هو الأخر للرحيل المر – بعد أن غادر ابنه أحمد هائل عدن نهائياً الى تعز – ومضى الحاج هائل يتخفى في الطرقات عندما قرر الخروج من عدن حتى وصل إلى تعز وأقام عند إبن أخيه علي محمد سعيد الذي انتقل من الحديدة لمتابعة النشاط التجاري للشركة في تعز ( … ) كانت فترة صعبة وعصيبة تعرضت لها الشركة إلا أنها مالبثت ان أستعادت عافيتها ولملمت جهودها .. كان أول عمل للشركة هو التواصل مع الشركات المتعاملة معها وإبلاغها بتغيير مقرها الرئيسي إلى تعز وعنوانها من عدن إلى تعز .. وفعلاً تمت سداد مستحقات أكبر ثلاث شركات تعاملوا معها بواسطة بنك إندوسويس في جيبوتي وهي شركة بنجي الإستراكية وشركة روثمان الأنجليزية وشركة سافالمنت الفرنسية . على الرغم من أن البضائع التي كانت تصل إلى عدن من هذه الشركات قد أممت. (6)
الهوامش:
( 1) د أحمد محمد الاصبحي – المؤسس الاول للصناعة الوطنية – قصة كفاح أل السعيد وتجربة نجاح المجموعة – ص86 – 91
( 2) المرجع السابق – ص 92 – 93
( 3) المرجع السابق – ص 94 – 103
( 4 ) المرجع السابق – ص 104 – 105
( 5 ) المرجع السابق – ص 206
( 6) المرجع السابق – ص 107 – 110
____________ يتبع