- محمد علي عناش
غافلني الوقت، فتأهبت مسرعا كي الحق بالقطار، لكنه للتو غادر المدينة الصغيرة، صديقيا الصغيران اللذان عبثا بعقارب الساعة يلوحان بأيديهما من شرفة القطار، وكأنهما يقولان أن علي الإنتظار لقطار آخر، أدرك أنه ليس هناك ثمة قطار آخر فجميع الإتجاهات تعج بالمتحاربين البلهاء، للحظات بسيطة داخلني الخوف أن أبقى وحيدا في هذه المدينة المحاصرة بالمتحاربين من بقايا وجع التاريخ، لكن سرعان ما أستعدت طمأنينتي، فهناك ليس أفضل حالا من هنا، وببساطة ليس لي علاقة بكل هؤلاء، أنا لا أبحث سوى عن راحة البال، ولايهمني حتى إذا جاؤا الى هنا، سأجلس في هذه الغرفة أسترجع اللحظات الجميلة في مشوار راحة البال التي قضيناها أنا والرائعين بعيدا عن وجع التاريخ.
المتحاربون أقتربوا من المدينة، أصوات الرصاص والجنود تعلوا وتقترب أكثر، العجوز داخل غرفته منهمك في شرب الشاي وكتابة ذكرياته ولايعنيه ماذا يجري في الخارج، فجأة فتح الباب بقوة..
الجندي: ألقي مافي يديك وأرفعهما للأعلى وقل “خوذة”
العجوز: خوذة..
الجندي: يبدوا ياسيدي أنه من الجبل من سلالة رعاة الأغنام، وهؤلاء كانوا يمدون الفاشيين بالحليب واللحم ويفتحون لهم الطرقات لعبور السلاح
الضابط: من أنت وماذا تعمل هنا؟
العجوز: أنا مولر جئت من الجبل لزيارة صديقي في هذه المدينة الصغيرة فقيل لي أنه غادرها منذ فترة ليست بالقريبة، ولم أستطع أن أعود الى أي مكان آمن بسبب الحرب، فجلست وحيدا هنا أدون ذكرياتي الجميلة مع راحة البال.
ينفجر الضابط ضاحكا هههههههه راحة البال
الجندي: يبدوا ياسيدي أنه جاسوسا للفاشيين أو أنه شيوعيا مهمته تلويث عقول الشباب في هذه المدينة.
العجوز: لا أعلم عما تتحدثون، أنا من الجبل أبحث عن راحة البال وأغني للقمر.
مرة أخرى ينفجر الضابط ضاحكا ويحتسي جرعة أخرى من قنينة الويسكي التي في يده.
الضابط: هل تعرف شابين وسيمين كانا يلبسان بشكل موحد جاكيت أحمر وقبعة رمادية.
العجوز: نعم ياسيدي، كانا يقيمان معي في هذه الغرفة وكانا يوميا منتصف الليل يخرجان في الظلام للتعبد وإصدارأصوات تشبه أصوات الذئاب، قالا لي أنها مناجاة قديمة للرب توارثوها من الأجداد وهي سريعة الإستجابة..
الضابط: هل جربت أن تعمل مثلهم؟
العجوز: لا ياسيدي فهذه العبادة كانت ترعبني وتقلق راحة بالي؟
الضابط: ولماذا تركاك وحيدا هنا؟
العجوز: لقد عبثا بعقارب الساعة مما جعلني اتأخر عن موعد القطار لكنهما لوحا لي من نافذة القطار أن أنتظر لقطار آخر..
يضحك الضابط بقوة، في الأثناء دخل جندي آخر
الجندي2: هيا بسرعة ياسيدي الفاشيون أقتربوا من المدينة.
الضابط: هل جمعتم الأموال؟
الجندي2: لقد جمعنا أكبر قدر وقتلنا من وجدناه مختبئا في منزله.
الجندي1: وماذا عن هذا العجوز ياسيدي هل أطلق على جبهته رصاصة الرحمة؟
الضابط: لا دعه يغني للقمر وينتظر للقطار الآخر، وسأترك له هذه القنينة تساعده على راحة البال حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة من الجوع دون أن يشعر
ثم يخرج ضاحكا..
جلس العجوز يدون ذكرياته ويتعامل بلطف مع القنينة التي أهداها إياه الضابط، لحظات حتى بدأت أصوات الرصاص ترتفع وتقترب، ثم فتح باب الغرفة ودخل جندي شاب وسيم الطلعة وخلفه ضابط..
العجوز مباشرة يقوم رافعا يديه “أنا مولر من الجبل جئت إلى هذه المدينة لزيارة صديقي لكنه كان قد غادرها وبسبب الحرب لم أستطع العودة ولقد فاتني القطار فجلست هنا وحيدا أدون ذكرياتي الجميلة مع راحة البال”
الجندي: يبدوا ياسيدي أنه من الجبل من سلالة رعاة الأغنام..
الضابط: نعم هو كذلك وقومه أصدقائنا كانوا يمدوننافي أيام البرد القارس بالحليب واللحم..
ثم يوجه كلامه للعجوز..
الضابط: هل تعلم من كان يصدر أصواتا تشبه أصوات الذئاب؟
العجوز: نعم ياسيدي شابان وسيمان، كانا يقيمان معي في هذه الغرفة، وكانا كل يوم في منتصف الليل يخرجان للتعبد في الظلام وإصدار هذه الأصوات، قالا لي أنها مناجاة للرب توارثوها من الأجداد وهي سريعة الإستجابة.
يضحك الضابط بقوة..
الضابط: أين ذهبا؟
العجوز: لقد عبثا بعقارب الساعة حتى فاتني القطار، لكنهما لوحا لي من نافذة القطار أن أنتظر لقطار آخر.
الضابط: مادام وهما كانا في ذلك القطار فقد رحلا إلى الجحيم، كانا جاسوسان للعملاء وبتلك الأصوات كانا يبلغانهم بجهات تحركاتنا.
الجندي: دعك ياسيدي من ذا الدرويش، هيا نخرج لنطارد فلول العملاء ونصنع التاريخ.
الضابط: هل ستأتي معنا أيها العجوز لصناعة التاريخ، أو خذ هذه البندقية ودافع بها عن نفسك في هذه الغرفة؟
العجوز: معذرة سيدي أنا لا أجيد صناعة التاريخ بالبندقية، أنا أجيد صناعة راحة البال، سأظل هنا أدون ذكرياتي وأغني للقمر
الضابط: كما يحلو لك أبق هنا غني للقمر،
ثم خرج مسرعا لصناعة التاريخ وهو يضحك ومتحمس بقوة
العجوز بينه وبين نفسه “بلهاء يعتقدون أنهم سيصنعون التاريخ بالبندقية كما أعتقد أسلافهم أنهم سيصنعونه بالسيف، يبدوا أن المسافة طويلة بين بقايا وجع التاريخ وبين متعة راحة البال”..
أستمر العجوز في تدوين ذكرياته ووضع أسسا وقواعدا لراحة البال، ويتعامل بلطف مع القنينة الإنجليزية هادئة المفعول، غير آبه بما يحدث في الخارج من ضجيج بالبندقية والمدافع، ثم أستلقى على ظهره ليغني أغنية القمر المسافر، في الأثناء يحدث وقع أقدام، إنه الجندي الشاب تسمر خلف الباب لم يحبذ أن يقطع على العجوز خلوته وهو يغني، بل ظل يستمع اليها ويسترجع مقاطعها التي كان يحفظها من قبل، حتى أنهمرت دموعه مع نهاية الأغنية، ثم فتح باب الغرفة بهدؤ ودخل.
العجوز: لماذا عدت يابني؟
الجندي: عدت ياسيدي كي أبحث لديك عن راحة البال.
العجوز: لماذا؟
الجندي: كنت قد جرحت جرحا بسيطا في فخذي الأيسر، ونحن نطارد فلول العملاء، فجلست أربط الجرح، حينها رأيت قائدي بمسدسه يصوب على قائده الكبير من الخلف رصاصات الموت.
العجوز: ما الذي حمله على فعل ذلك؟
الجندي: يعتقد أنه أحق بصناعة التاريخ، فشعرت حينها باللاجدوى وحجم العبث الكبير الذي نمارسه تحت وهم صناعة التاريخ، وتظاهرت أني لم أعد أقوى على المشي فسمح لي قائدي أن أعود الى هنا وحملني هذا الصندوق الصغير المملؤ بالقطع الذهبية كي أحتفظ بهاهنا ريثما يعود من صناعة التاريخ، فجئت اليك أبحث عن راحة البال.
العجوز: كما تريد يابني، لكن قبل ذلك أجلس كي أنزع الرصاصة من فخذك؟
جلس الجندي الشاب، ومدد فخذه وأخذ يغني بصوت هادئ أغنية القمر المسافر والدموع تنهمر من عينيه، حتى أنه لم يشعر بما يعمل العجوز الذي أنتهى من إستخراج الرصاصة من فخذه وتنظيف الجرح.
العجوز: ياالله لقد قطعت مشوارا كبيرا في راحة البال، وتوحدت مع الفكرة لدرجة أنك لم تشعر بالألم.
الجندي: زدني ياسيدي.
جلسا الإثنان يغوصان في أسس وقواعد الفكرة وعلاقتها بسلام العالم، ويتعاملان بلطف مع القنينة الإنجليزية هادئة المفعول.
الجندي: كفاية الى هنا ياسيدي هيا نصعد إلى سطح الغرفة ونكون في مواجهة القمر لنغني سويا أغنية القمر المسافر.
صعدا الى السطح وأخذا يغنيان بهدؤ ثم أرتفع صوتهما تدريجيا، فجأة أسرجت بعض بيوت المدينة أنوارها وخرج من أزقتها من ظلوا مختبئين بها وهم يشاركون العجوز والجندي أغنية القمر المسافر..
على الجانب الآخر ماتزال أصوات الرصاص مستمرة، وتلمع في السماء بشكل متبادل.
فجأة خفت صوت الرصاصة وخفت ثم خفت ولم يعد يسمع لها دوي مرة أخرى.