- كتب: أنس القباطي
عبد العزيز محمد خضر كان هو الثابت الوحيد في قريتنا رغم كل متغيرات العصر..
عبد العزيز خضر غادر الحياة الأحد 7 مايو/آيار 2023 بعد ملحمة من الكفاح أستمرت 9 عقود من الزمن.
كان عبد العزيز خضر أمينا شرعيا للقرية، وخطيبا لاقدم مساجدها؛ لقرابة عقد من الزمن، ومعلما لأطفال القرية في سبعينات القرن المنصرم، وإلى جانب ذلك ظل الرجل منجذبا إلى الأرض معجونا بترابها، كان يولي البيئة كثيرا من الاهتمام، يزرع الأشجار، بل وينقل بعضها من أماكن بعيدة لتوطينها في القرية، يظل يحافظ عليها حتى تنمو وتترعرع، ويوفر لها الحماية من عبث العابثين وتصرفات الطائشين.
ذات نهار في منتصف ثمانينات القرن الماضي تعرفت لأول مرة على طاحونة الحبوب الوحيدة في القرية التي كان يمتلكها الرجل، في ذلك النهار أيضا تعرفت على الرجل الذي كان يمازح الأطفال بوضع قليلا من الدقيق على وجوهم، وهم يبحلقون في عجلات الطاحونة وهي تحول الحبوب المختلفة إلى دقيق، وهم يضعون ايديهم في حوض المياه التي تستخدم لتبريد ماكينة طاحونة الحبوب أثناء العمل.
كانت أول دفاتر اشتريتها في بداية مسيرتي الدراسية من دكان عبد العزيز الملحقة بالطاحونة، لا زلت أتذكر تلك الدفاتر ذات الغلاف البلاستيكي بألوانها المختلفة، ورائحة الورق التي تتصاعد عند تقليبها، لا زلت اتذكره وهو ينوع لي ألوان الدفاتر، ويناولني أقلام الرصاص ويريني كيفية بريها بالمبراة الحمراء التي في أحدى واجهاتها مرأة صغيرة، وكم سقطت بسببها في الطريق وأنا اتأمل وجهي فيها.
غادرت القرية في بداية الألفية الثالثة وما زال عبد العزيز خضر مهتما بتربية الحمام، ياااااه كم كان صوتها جميلا، وانت تمر من جوار منزله القريب من الطريق، وما اجملها وهي تحلق كسرب واحد تتغير اشكاله مع كل حركة وأخرى في أجواء القرية والحقول الخضراء في صباح أو عصرية كل يوم، تلك اللوحة التي كان سرب الحمام يرسمها يوميا، أغرتني لتربية الحمام.. وعندما ذهبت إليه لشراء زوج حمام وأنا في الصف الثاني من التعليم الأساسي، أبلغ نجله “جمال” – توفى قبل سنوات – بمنحني زوج حمام بدون مقابل.. قال له بصوته الجهوري “اعطيه اثنين صغار بلاش، هذا ابوه صاحبي” .. الله كم كانت فرحتي لا توصف عندما عدت بزوج الحمام في كرتون صغير، كان ريشها أبيض ناصع كأنه حبات بلور، مطعم ببعض ريش أسود تتوزع بشكل متناسق هنا وهناك.
لا زال أبناء القرية يتذكرون أشجار “السلعف” التي تصنع منها الحبال، والبلس الشوكي المزروعة قرب منزله، كيف كان يمنع من يعبث بها ويلوي أوراقها وفروعها، كان منزله المطل على القرية يتيح له مراقبة كل شيء، وعندما يأتي موسم البلس الشوكي (نسميها تين) كان البعض يرمي الاشجار بالحجارة، وبعضهم يستخدم عصي في الحصول على الثمار فيمزق الأوراق، وهنا تتدخل الحماية الايكلوجية، فلا يسلم المخطئ من الأحجار الصغيرة التي كانت تستهدف الرأس أو جزء من الجسم، حتى في عز الظهيرة.
كثيرون هم من تركوا القرية بعد عقود من البقاء فيها، لكن عبد العزيز خضر ظل ملتزما بالبقاء فيها، راعيا مصالح الجميع، ومهتما بالأرض، والبيئة بشكل عام، كان مهتما بالاصلاح البيلوجي للمدرجات التي تتضرر من الأمطار والسيول، يصلح القنوات التي تنقل مياه السيول من الوادي إلى الحقول قبل موسم الأمطار، يشذب الأشجار في تشرين، ويمنع جذورها من التعري حتى لا تسقطها رياح نيسان، يتفقد الزرع بعد المطر، ويصلح ما خربته السيول أولا بأول.
يصحو باكرا، فتراه في ساعات الصباح الأولى وسط الحقول، وقرب الغيول، وبعد عصرية كل يوم يتجول بين الأشجار أو يصلح الجدران التي طالها بعض الخراب، حتى وإن كان بسيطا.
لا زلت أتذكر رمضانات عدة في بداية تسعينات القرن الماضي، عندما كنا نمر من الطريق القريب من منزله عصرا، وهو يتلو القرآن على شرفة منزله المطلة على القرية، وحوله عدد من الحمام، التي تتنقل بين شجرة الكافور المجاورة ومساكنها القريبة وسطح المنزل، ما أجمل قراءة القرأن بصوته المنبثق من بين زجيل الحمام وحفيف أوراق شجرة الكافور حين يداعبها النسيم.
رحل أخر أصدقاء البيئة وحماتها في قريتنا، رحل الرجل تاركا على جدران القرية ومدرجاتها وأشجارها بصماته التي لن تمحى، والتي تدعو الجميع للحفاظ على البيئة ونظامها الايكلوجي، رحل العم عبد العزيز تاركا شرفته المطلة على القرية وحقولها الخضراء، وكله أمل ان نجله “سمير” هو من سيولي الاهتمام بكل ما كان يهتم به بحب وشغف لا حدود له.
الخلود لروح العم عبد العزيز، والعزاء لكل اهله ومحبيه، وفي مقدمتهم نجليه (مختار، سمير) ولكل تحفاده، ولا أرانا وأرى الجميع مكروها غيره.