- كتب: مصطفى ناجي
لكن يمكن استدراك فهم هذه المباشراتية والتلقين في الإطار الوظيفي الذي اختطه المسلسل لنفسه بدءاً من العناية بالوصول إلى أوسع شريحة من الناس وتسليمه لرسالة ناجزة.. لكن التلقين لا يحرّض المتلقي دائماً على التفاعل الذاتي مع الرسالة.
أختتم العمل بمشهد تربوي في مفهوم الحرية.. يلزمني أن أشير إلى أن “العالية” تناول أخطر قضية فلسفية في الفكر الإسلامي، وهي موقع الحرية من العدل، هل نبدأ بالعدل أم بالحرية؟
كانت المناقشة طيلة قرون قد استقرت على ضرورة الحاكم العادل ووضعت شروط نشأته لكنها لم تضع شرط الحرية أولاً.. الحرية بمعناها الواسع الكفيل بكبح جماح القهر والانتهاكات والضامن للتنوع، والتعدد المذهبي، والديني، والفكري.. لذا، بغياب الحرية غاب العدل،
بينما مسلسل “العالية” يضع المشاهد أمام تصور فلسفي مختلف يرى أن الحرية هي التي تجلب العدل وهي أساسه.
هذا المشهد الختامي البالغ الأهمية من الناحية الفكرية كان قطيعة كبيرة مع طبيعة العمل الدرامي.
…
منذ أول حلقة، مضى المسار الدرامي يتصاعد حتى مقتل ظبية فتناثرت العقدة الدرامية رغم متانتها منذ البداية والتناسق الخطي الذي سارت عليه؛ احداث متتالية محتشدة نحو خلق المأساة الجمعية والفردية: استبداد وتعنت الحاكم، صلف ولاإنسانية الجنود، انسداد الأفق الثوري الحالم، فقدان الأمل في الحب، انقسام حاد داخل المجتمع المحلي في مواجهة صروف الدهر وقسوة الجلاد وجشع الحاكم ونواياه المبطنة بالاستحواذ على الأرض وإخضاع الناس…
مشاهد تحبس الأنفاس ثم تموت البطلة غير المعلنة.
كان اختيار أشواق علي لأداء دور ظبية اختياراً موفقاً، ملامحها قادرة على تجسيد الموقع الاجتماعي الذي رسم لها. ولهذا كانت لحظة انكسارها وموتها مفاجئة وصادمة جداً..
بعدها وجدتني في حيرة كيف يمكن تجميع الخيط السردي والتعويض عن شخصية محورية في الحلقات القادمة..
وفي تلك الحلقة تكثفت العقدة الدرامية نحو امتحان نفسي قاسٍ ووصول العداء إلى مستوى حميمي موغل يعكس أعماق شرور النفس ودوافع السلطة.
في الحقيقة، كان موتها انقطاعاً في الخيط الدرامي لكنه أشعل موجة درامية جديدة متمثلة بالرغبة في الثأر والثورة والتغيير الكلي للأدوار الرئيسة التي أداها فاضل ومانع وقطّام وهلال الخ…
نقطة تحول ناجحة في البناء السردي، وحادثة قصمت العمل الدرامي إلى خانتين متماثلتين في المشروع السردي والدرامي.
…
لمستُ تماسكا واخلاصا للرسالة على الرغم من وجود بعض قصور في البناء المنطقي لتراكم الوقائع في المسلسل، إذا تكشّفت أمامي بعض نقاط ضعف البناء الدرامي منها على سبيل المثال أن أول جريمة حدثت بفأس (عَطيف) كما لو أنه لا وجود لفأس إلا ذاك الي جرت به الجريمة، فيما كانت تظهر سيدة تحمل فأسها على امتداد حلقات البحث عن الجاني.. هذا أعطاني إيحاء بأنها هي الجاني. بل أن (الغريب) كان يحمل فأساً وهذا ضاعف من الالتباس.
عموماً، التركيز على أداة الجريمة كان طفولياً جداً. لكن طغى على هذه الهفوة المنحنى التصاعدي للحبكة الدرامية وهي حبكة متعددة الابعاد ومتضاعفة وكل مرة تنمو وتتراكم وتتشعب.. البناء الفني للقصة أبرز قدرة هائلة سردية على ابتكار مسار شره للشرور ينطلق من بساطة البيئة اليمنية.
ثم أن أداء معظم الفنانين كان مدهشاً، أحببت كثيرا الفنان أحمد عبد الله حسين(الحاكم) هو الأقدر على تجسيد شخصية دون الايماءات مفرطة، يتضح من أدائه انه ثمرة خبرة طويلة، يليه قاسم عمر في دور الشيخ فاضل، ثم عبير محمد في دور زوجة الحاكم، بعض الأدوار كانت متميزة جدا خصوصا دور الشيخ مانع (مروان المخلافي) والذي لا تملك إلا أن تبغضه وأنت تعرف أن الممثل يؤدي دوراً مؤقتاً وكذلك دور كل من نظرة (رأفة صادق) وحبيبها (محمد الأموي) وهلال (حسام الشراعي) الذين أتوقع لهم مستقبلا دراميا كبيرا إذا قرروا العمل في أدوار جادة وتحكموا أكثر بمخارج أصواتهم وحركات الجسد.
لفت انتباهي أن اليمني رغم الحزن المحيط به إلا أنه لا يستطيع تجسيد وجه الحزن، شخصياً لم أقتنع بوجوه الحزن التي في وجوه الممثلين عدا وجه شداد (هديل عبد الحكيم) أو وجه زوجة قطام (رندا الحمادي)، بل ان ظبية كانت ملامحها لا تستطيع تجسيد وجه حزين.. الوجوه الشمعية تأتي على حساب لغة الوجه وعضلات الوجه.
لربما كانت شخصية قطام (عمر البوصي) هي الأكثر جدلاً، لن أفوّت تهنئته هذا الفنان المبدع وأشيد بمهارته في تجسيد شخصية معينة بكل حرفية، وأن كنت لم أستمتع كثير بالشخصية (كاراكتير) التي منحت له مع تفهمي الكامل لرغبة من أنجزوا المسلسل في وضع هذه الشخصية.
لكني أقر أن هذا يعود إلى ذائقتي وتوقعي المفرط في الجدية.. مع إدراكي أن الواقع أكبر من خيال الأفراد لأنه مصدر الهامهم وأن واقعنا يغص بأشياء وسلوكيات وممارسات وشخوص أكبر مما نتخيل.
وعلي أن أشهد أن أولادي – الذين كانت حلقات ” العالية” حصة اجبارية كل مساء كتمرين لغوي لهم في غربتنا في فرنسا وربطاً لهم باليمن – أحبوا كثيرا قطّام ولغته وإيماءاته التي أضحكتهم وأثارت فضولهم وأسئلتهم رغم شروره التي لا تنتهي وباتوا يتنادون: شَقَع مَقَع.
ثم ما هي شقع مقع؟
لا أدرى لكنها التوقيع الخاص بالمسلسل، وهي بهذا في موقعها المناسب.. ما المتوقع من مشعوّذ ومقذي أن يقول غير أشياء غير مفهومة.
بالمقابل كان هناك عنف رمزي ومادي في المسلسل، نعم طبيعة الاحداث تقتضي العنف والعنف المضاد إلا أن بعض المشاهد تستحق مراجعة كي يمكن مشاهدة المسلسل لكل الشرائح العمرية خصوصا الأطفال صغار السن أو ما دون الثامنة.
أكتب هذا الكلام من منطلق البيئة التي أعيش فيها الآن بينما أدرك جيدا أن الطفل في اليمن يتعرض لتغذية دعائية عنيفة مقصودة وممنهجة في مناطق الحوثي أو يتعرض لمشاهد يومية عنيفة جدا في سياق الحرب إلى درجة أن صارت الحرب موضوع تسلية للأطفال في اليمن.
….
أرى أن قمة العمل الدرامي هذا حمل مفاجئين قويتين جداً في بنيته السردية لم أكن اتوقعهما وأظنها سنام العمل، المشهد الأول وأكثر مقطع فيه عذوبة فنية، وخيال واقعي سحري ومصداقية بعد أن وصلت قصاصة ورقة شداد إلى الحاكم، فوصل القرية في حبكة – جمعت ربما دون قصد – معظم شخوص العمل ووضعتهم أمام مأزق كسر عظام، يتورط المشاهد في ابتكار مخرج من الحرج والورطة ولا يستطيع، ثم يقفز هلال وينفي صلة شداد بالورقة ويفتديه في موقف بطولي يدفع ثمنه.
والمشهد الثاني كان نهاية “الشيخ مانع” على يد مجنون الحي الذي كان الحاكم في السابق.
…
تعمدت المؤلفة صبغ عملها الدرامي بروحانية فائضة أكبر مما يحتمله سياق القرية أو شخصية شيخ القرية، أو حتى حياة اليمنيين الحقيقية: الهروب الى الجبل والدروشة واعتزال الناس والقدرة الخارقة لمقاطع قرآنية متطابقة ومؤثرة في سياق الاحداث، وهذا دور غير معتاد لشيخ قرية يمارس سلطة قهرية ولديه سجن خاص وثقافته التي تعزز سلطته الاجتماعية هي ثقافة العرف المجمع عليه الناس لا الشرع. والا ما هو دور القاضي؟
والأمر الآخر أن هناك عدالة فوق بشرية أو كارما تحقق العدالة بطريقتها؛ جنون الحاكم، ومقتل مانع.
أأسف أن هذا العمل الجميل الذي اضفى على ليالينا الرمضانية متعة باذخة وأيضا أعاد الاعتبار للأعمال الدرامية اليمنية الملتزمة بسياقها وبيئتها وقضاياها لم تظهر فيها أسماء سيناريست، وأي عمل لا يسنده أكثر من سيناريست ينطوي على أوجه قصور، المؤلف شيء وينتهي دوره عند انجاز العمل الروائي والسيناريست شيء آخر ملتصق بالصنعة السنيمائية.
نقطة حول الزمان والمكان التصويري، يبدو أن التصوير تم في موسم فلاحي واحد.. لذا كان الحديث عن القحط يفتقر للمصداقية وربما لو تم التصوير على مدار عام كامل لمنحت المنطقة العاملين على التصوير مناظر ما بعد الحصاد تناسب شكوى الناس من غياب المطر وقلة المحصول.. مع هذا، المناطق الخلابة وطبيعة القرية كانت فاتنة جداً.
موقع تصوير العمل الدرامي كان في تعز، وهذه فاتحة جيدة لأن تخرج تعز من بوتقة الحرب والحصار وتقدم للمشاهد اليمني والعربي عملاً بهذا الجمال والاتقان ويقدم جغرافيا يمنية جديدة وطبيعة خلابة تجسد التنوع والثراء الكامن، وأيضا أن يحرص العمل على مستوى لغوي منسجم وأن بلهجة غالبة هي (لهجة تمتد من سفوح جبال صَبِر إلى وديان الدليل وسُمارة مرورا بالعدين) فهذا دليل اتساق، ربما تكون منطقة تصوير المسلسل، بل وتعز بكلها، قبلة أعمال درامية وسينمائية قادمة.
الأماكن كانت غفلية او عمومية ولا يوجد فيها اسم عَلَم.. حتى العالية كان اسم دلالة أكثر من اسم تعيين موقع. ومثلها المركز والجبل الاسود والمدينة، اسم علم واحد ووحيد قفز من كل هذا الغبار، إنه عدن بصوت شداد “وصلتني رسالة من عدن”.
….
هناك الكثير مما يمكن قوله بشأن المسلسل الذي لولا جودته وبراعته لما اثار اهتمامي واهتمام الناس.
لا أرجو لسطوري أعلاه ان تكون كابحاً أو رادعاً لأعمال قادمة سأتابعها باهتمام واكتب عنها بحب خالص، وأنا هنا أسجل رضاي عن العمل بكل تأكيد، لكني لن أغفل عن شكر المخرج الذي أدار هذا العمل كمكينة ضخمة وأخرجه بصورة تليق باليمن واليمنيين وبالعمل الفني.