- كتب: د. قاسم المحبشي
جَيشْ من جاش يجيش تجييشاً بمعنى الجمع والحشد والجحفل والقدرة والفيض والحركة والغزو والفتح والاجتياح، الخ. وهناك كنانة شاملة من المعاني والصور والأخيلة والمشاعر المتناقضة التي تستدعيها وتثيرها كلمة ( جيش ) كالحرب والسلام والخوف والأمان، والقوة والهوان، والفوضى والنظام، والعدالة والطغيان، والحماية والخذلان، والتدمير والتعمير، والنصر والهزيمة والسياسة والسلطان والدول والأوطان .. والسيادة والارتهان والثورات والانقلابات وهلمجرا من الدلالات والرموز التي تثيرها الكلمة في الأخيلة والنفوس، من قبيل (الجيوش التي تزحف على بطونها) بحسب نابليون ومن أكل العيش هزم الجيش! ومن قلت جيوشه سلم! ويمنع التصوير، يمنع الاقتراب، منطقة خطر! تلك العبارات الصارمة المشفوعة دائماً بايقونة الخطر الحمراء رمزية الموت والهلاك، هي التي تقول الكثير والكثير – ( وبدون أن تتكلم طبعا) عن قصة الجيش والسياسة في (الدول ) والمجتمعات العربية المعاصرة وهي عبارات يعرفها كل (المواطنيين العرب ) حيثما ولدوا وأقاموا وحلوا أو ارتحلوا في بلدانهم من المحيط إلى المحيط، إذ يجدونها مكتوبة على قارعات الطرق السريعة وعلى بوابات المعسكرات والمؤسسات المتصلة بالقوات المسلحة في المدن والارياف في البحار والبرار والجبال وفي كل مكان، وهي عبارات تعنى ما تقول بما جعلها تنتصب في القلوب والأذهان موانع ذاتية كابحة لكل فضول ومعرفة ممكنة، وبذلك كانت المؤسسة العسكرية في المجتمعات العربية ولازالت بنية مغلقة وعصية عن الفهم والتفسير حتى بعد انهيارها وتفكيكها وزوالها، تماما، مثل الموت ذاته الذي لازال مجهولا! فما هو الجيش وما وظيفته؟ وماهي السياسة؟ وما طبيعة العلاقة بينهما؟ وكيف سارت بينهما العلاقة في تجارب الدول العربية المعاصرة؟ وإلى أين آلت الأمور اليوم؟وماذا ينبغي علينا فعله في مواجهة تحدي انهيار الجيوش النظامية وبروز المليشيات والجماعات الطائفية والإرهابية؟ تلك الأسئلة وغيرها ينطوي على أهمية مزدوجة في استئناس الجهل المحظور نقصد باستئناس الجهل المحظور؛ الدلالة الميتافيزيقية للكتابة الذي في مقاربة الظاهرة العسكرية السياسية العربية المعاصرة بالاعتماد على أدوات بحثة منهجية علمية ومن زاوية نظر سوسيو ثقافية نقدية، إذ لأول مرة يكون الجيش والسياسة موضوعا للإنشغال الابستمولوجي المنهجي والنظري في الوطن العربي، لا سيما في العهود الحديث وهذا وضع مفارق لما كان عليه الحال في الأزمنة القديمة عهود الجيوش والسياسة التقليدية.. إذ كان جحفل الجند والعتاد والسلطة والسلطان من أبرز الظواهر الاجتماعية السياسية المتاحة للرؤية والكشف والمشاهدة، بوصفها مصدرا للقوة والفخر والهيبة والحماية والتخويف والسيادة، وكان يتم عرضها في الفضاء العام للمشاهدة ونقل الأخبار لأغراض استراتيجية مقصودة وواعية فحوها: من معه سيف إبترع به! وبهذا المعنى نفهم قصيدة الشاعر الشهير لأبي تمام:
السَّـيْـفُ أَصْــدَقُ أَنْـبَــاءً مِـــنَ الـكُـتُـبِ
فِـي حَــدهِ الـحَـدُّ بَـيْـنَ الـجِـد واللَّـعِـبِ
بيضُ الصَّفَائِحِ لاَ سُـودُ الصَّحَائِـفِ فِـي
مُـتُـونِـهـنَّ جــــلاءُ الــشَّـــك والــريَـــبِ”
وهكذا كانت معاني الجيش والسيف والسلطة والسلطان حماة الديار والاوطان والمنعة والسيادة والفعل والرد في الأزمنة العربية التليدية، ولا شيء يخفى على الأفهام والأنظار أما اليوم فقد بات الجيش حقلاً محاطاً بالألغاز والأساطير والخرافات والأوهام، بترسيم السياسة لها سر من أسرارها بالغ الحساسية والخطر! ولأمر المثير للأسف أن جيوشنا العربية التي سحقت شعوبها بالنار والحديد ولدت وطغت وماتت قبل أن نتمكن من فُض مغاليقها ونفهم معانيها، وأتذكر أنني حينما كانت بقايا الجيش اليمني ومليشياته تدك مدينتي عدن الساحلية المسالمة بكل أنواع الأسلحة الثقيلة والخفيفة والمتوسطة الحديثة قبل سنوات مضت كنت أفكر في معنى الجيوش ووظيفتها الحقيقية؟ وتلك هي الفكرة التي حيرتني منذ البارحة وأنا اتابع أخبار انشقاق الجيش السوداني والصدام في الشوارع. انها تجربة مريرة تلك التي عشناها وشهدنها مع جيوشنا المحلية منذ بواكير حياتنا ولازلنا وقد بلغنا من العمر عتيا مع جيوشنا العربية المحلية ونظمها السياسية إذ أن الجيش والسياسة اشبه بالجرح العربي النازف فكيف يمكن لنا التعبير عنها وتمثيله ومتى يندمل ؟!.
تجدر الإشارة إلى إن الجيش بموصفه موضوعا للبحث العلمي، ينتمي الى حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية عامة وعلم الاجتماع السياسي والعسكري تحديدا وهذا الأخير يعد من العلوم الفتية في الابستمولوجيا المعاصرة، إذ يؤرخ لبداياته على الصعيد العالمي منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وعلى الصعيد العربي منذ سبعينيات القرن الماضي، عبر ثلاثة كتب مدرسية بعنوان ( علم الاجتماع العسكري ) ل إحسان محمد الحسن من العراق وأحمد إبراهيم خضر من مصر وفؤاد لاّغا من الاْردن، وهي في الواقع تكرار لذات المحتوى المدرسي، وبعض الشذرات البحثية المنثورة هنا وهناك في الصحف والمجلات المحلية عن مسارات الجيوش العربية. ومن هنا يكتسب البحث في ظاهرة الجيش أهمية استثنائية في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية بوصفة تأسيسًا لمساق علمي جديد في حقل العلوم الإستراتيجية انطلاقا من بعدين الأول: يبحث في التاريخ الداخلي للجيوش العربية، أي دراسة الجيش من حيث هو نسق مؤسسي بنيوي بعناصره الداخلية وعلاقاتها التبادلية التفاعلية، بما يشتمل عليه من فاعلين وأفعال وعلاقات وممارسات وادوار وقيم وعادات وتقاليد وأدوات ورموز .الخ
والثاني يهتم بدراسة التاريخ الخارجي للجيوش العربية في سياقها الاجتماعي والثقافي الاوسع، إي شروط نشأتها نموها وصيرورتها السوسيولوجيّة وعلاقتها بالسياسية والاستقرار السياسي وحفظ السيادة وأشياء أخرى.
ختاما: يعد الجيش نواة المؤسسة السياسية الصلبة وقد اثبتت الأحداث أن سلامة الجيش وصحته وعافيته يمنحه القدرة والقوة للدفاع عن الدول وحفظ استقرار المجتمعات من الفوضى والسقوط
كما هو حال جيشي مصر وتونس اللذان حفظا دولهما من التفكك والانهيار كما حدث في اليمن وليبيا والعراق والآن يجري في السودان، وفي زمن المليشيات والطوائف تزداد قيمة الجيوش الوطنية النظامية بوصفها رهانات الشعوب المغلوبة على أمرها، ومن معه سيف ابترع به!.
وسلامات على السودان الشقيق من السقوط في براثن الفوضى والانحلال، فمتى تكون الجيوش مبعثا للأمن والأمان في المجتمعات العربية؟