- كتب: عبدالرحمن الشيباني
استوقفنى حديث لنبيل عبادي رئيس اتحاد الناشرين اليمنيين، فى إحدى مقابلاته نشرت فى وقت سابق، ولم أقرأها إلا مؤخرا، كان حديثه عن النشر ووضع الثقافة فى اليمن مؤلماً جداً، وهو ما دفعنى لأكتب هذا المقال المتواضع ومن ضمن ما قاله الرجل:
“أنه لا يوجد سوق للكتاب اليمني فالقارىء العربى لا يبحث عن الكتاب اليمني، لان القارئ العربى لم يعتد النظر إلى اليمن باعتباره مركزا لإنتاج الثقافة، فدائما ينظر لليمن على أنه أكثر الحلقات ضعفا فى إنتاج الثقافة العربية”.
أنا أفاجئ خلال مشاركتي فى معارض عربية بأحد الرواد، وهو يأخذ كتابا يمينا، وقد يكون كتاب فى المحاسبة أو المالية العامة أو الإدارة أو غيرها يسألني باستغراب: هل هذا مؤلف يمنى” ؟فأقول له: نعم فإذا بي أفاجأ بسؤال آخر: هل عندكم مؤلفون يكتبون فى هذا المجال؟.
فالناس تنظر إلى اليمن كأنه لا توجد فيها جامعات، أو مراكز علمية ومعرفة ومؤسسات ومؤلفون يرقون إلى ما تقدمه المراكز العلمية والثقافية فى تلك الدول الأخرى أو تتجاوزها”.
إنها قضية تحتاج للوقوف ازاءها بشكل جدي، ويتبادر للذهن سؤال ملح؛ لماذا نحن بتلك الصورة السوداء فى عيون الآخرين؟؟ وأين هو دور الإعلام فى ذلك؟.
كان من المفترض أن تتحرك الدولة حينها ،وتعلن حالة الاستنفار حيال ذلك !!! من خلال إعداد استراتيجية طويله الأمد للنهوض بالجانب الثقافى والأدبي والإرتقاء بواقع الثقافة والإبداع فى اليمن، لكن هذا لم يحدث للأسف الشديد، ولم يستدع انتباه السلطة، فليس هناك مشكلة فى ذلك من وجهة نظرها، وكأن ما قاله الرجل كلام عابر لا يستدعي إعطاءه أي أهمية، وهذا ما تم للأسف، وخلال سنوات خلت لم تقم الحكومات المتعاقبة فى اليمن بمهامها المناطها، لأنها كانت فى واد آخر تشترى الولاءات وتفرخ الأحزاب والمنظمات وتطارد المعارضين.
وإذا ما نظرنا إلى واقع الثقافة فقد خضع لأمزجتها، ودعمت من يحج إلى قبلتها بإغداق عطاياها، وأفسحت لهم حيزا كبيرا من اعلامها، الذي كان هو الآخر يسبح بحمدها ليل نهار، ونظرت للثقافة والإبداع بنظرة دونية محصورة في نشاط معين (البرع) يراد له أن يكون بديلا عن كل شيء يتصل بالثقافة، بل أنه وصل الحال إلى أن تسمى وزارة الثقافة بهذا الإسم، فالعقل السياسى التسلطى يرى فى الثقافة شىء فائض عن الحاجة، ولا يستحق أي إهتمام منها إلا إذا كان يخدم توجهاتها، والتى تنم عن عقلية سطحية صدئة لا تنظر للمستقبل، إلا وفق عيونها الأمنية البوليسية، التى خلفت وراءها ندوبا غائرة فى الذاكرة الوطنية، ورحلت خيرة رجال اليمن إلى سجونها، ونكلت بهم، وتم تصفية الكثيرين منهم ما زالت آثارها عالقة فى الوجدان.
لم تكن الثقافة كفعل حضاري وإنساني خلاق يساهم فى تعزيز الروح الوطنية ورافعة لإرث حضاري ممتد لآلاف السنين فى حسبان الأنظمة منذ الإستقلال، ولم تعمل على استكمال المسيرة، ويتاح لمداه أن يتسع وأن يكون ذلك الفكر مؤثراً محققاً الإنجاز والإبداع، ويطور أدواته مع الزمن ويتكيف مع تأثيراته وتغيراته وتقلباته.
بل كانت هناك حالة من الجفاء والجمود إلا فيما ندر، لنصل إلى اللحظة الفارقة التى نعيشها الآن من إعادة الماضى بكل قبحه وإلباسه ثوبا آخر وفق تركيبة مذهبية وطائفية تستمد طغيانها وجبروتها من الله باعتباره قد أعطاها الحق فى ذلك !!.
كنا حتى الأمس القريب نظن أننا قد تجاوزنا ذلك، لكن كنا مخطئين في هذا الأمر، وجاءت فى لحظة غاب الجميع فيها عن الوعي ما زلنا ندفع ثمن ذلك حتى هذه اللحظة، بحيث هدم العقل السياسى الانتهازى المتحالف مع الطائفى المذهبى المعبد على رؤوس الجميع، وفق مبدأ أنا ومن بعدى الطوفان.
ولم يكن يعلم هذا العقل السياسى المتذاكي أنه سيكون هو ضمن ضحايا كُثر فى ماراثون القتل اليومي الذي نشاهده الآن، والذى يستهدف المستقبل والحياة فى صميمهما.
إننا اليوم أمام حصيلة طبيعية لفعل السلطة الغاشمة التى نمت وتطورت مفاعيلها لخلق الواقع الذي كانت تريده، خلاصته أنه على السياسى أن يقود المثقف (التنويرى) بل ويفكر نيابة عنها، وإلا فإنه متهم، حتى ولو تحسس شعر رأسه، ولا خيار لديه سوى أن يظل فى جلبابها إذا كان يريد أن يعيش، وما دون ذلك فعليه أن يدفع الثمن، ولكن قبل ذلك كله لن يكون زوال المثقف وحده بل سيتبعه جيل كامل بل وأمة، على المثقف أن يحفر فى الصخر فى إثبات وجوده وفعله بفكره ولهيب إيمانه بأن قضيتة أكبر مما يتصورها البعض أو أن تحجم، أو حتى أن تختزل فى شخصه، لا يمكن لأي أمة حية تريد أن تستعيد دورها الريادى أو تضع لنفسها تأريخا مشرفا لدى بقية الأمم إلا باحترام أدبائها ومفكريها وعلمائها وفنانيها..الخ.
إن المثقف كما يراه د أحمد حميد هو المنتج للمفاهيم والتصورات النظرية، الموجه للمشاريع الفكرية الكبرى، القائد للوعي الجمعي، الحامل لفكر التنوير، الملتزم بقضايا وشؤون المجتمع، المشارك في أحداث عصره إنتاجا ونقدا وتحليلا واقتراحا، المناضل الفاعل في التغيير قولا وفعلا؛ وبالضّرورة المساهم في صياغة مطالب الحِراكات الإجتماعية المدنية والمنتصر لقيم العدل والحقّ والحُرية.
فى رده على السؤال الآتى لماذا نحب قراءة الأدب ؟؟ يقول الكاتب البيروفى ماريو بارغاس يوسا “لأني مقتنع بأن مجتمعًا بلا أدب أو مجتمعًا يرمي بالأدب – كخطيئة خفيَّة – إلى حدود الحياة الشخصية والإجتماعية هو مجتمع همجي الروح، بل ويخاطر بحريته.”
“لاشيء يحمي الإنسان من غباء الكبرياء والتعصب والفصل الديني والسياسي والقومي أفضل من تلك الحقيقة التي تظهر دائمًا في الأدب العظيم: إن الرجال والنساء من كل الأمم متساوون بشكل أساسي، وإن الظلم بينهم هو مايزرع التفرقة والخوف والاستغلال.”
“لايوجد من يعلمنا أفضل من الأدب أننا نرى برغم فروقنا العرقية والإجتماعية ثراء الجنس البشري، ولايوجد ماهو مثل الأدب ما يجعلنا نكافئ ونمجد فروقنا بوصفها مظهرًا من مظاهر الإبداع الإنساني متعدد الأوجه.”
عند مجيء المؤلف المسرحى الإنجليزي “كونجريف” إلى فرنسا أسرع فولتير إلى اللقاء به، لكن” كنجريف” أستاء من ذلك عندما علم أن الأخير جاءه بصفته مؤلفا لا كونه من النبلاء كما كان يتصور ويعتقد، كان الفرق واضحا بين الإثنين النبيل المنحاز لطبقتة الاستقراطية، والمثقف الحقيقى المستنير الذي أنحاز للابداع، وهكذا لا يجب أن ترفع الرايات البيضاء، ولا أن تشتري السلامة بالإستسلام الفكري والوهن لغير ما يؤمن به، ولا أن تتوارى الفكرة وتتلاشى أمام زخات الرصاص، التى تصدأ وترتد مقابل الفكره التي لا تموت.