- محمود ياسين
حتى لا أكتب عن وصول قائد الأسطول الأمريكي الخامس إلى حضرموت بانفعال، وكأنني أنا المعمي باستجماع حكمة سيدنا لقمان وهدوء الدلاى لاما لأتحدث عن موقفي وإحساسي وبلادي تنتهك هكذا وعلى هذا النحو من الاستباحة الكلية وصمت كافة الوطنيين هنا في العاصمة وفي عواصم العالم..
يكاد اليمني يجن من صاحب بلاده، يفقد الحضرمي السيطرة من وصول دحباشي لمرافئ بلاده، ويتوتر صاحب إب ويصرخ من وصول صاحب صنعاء لوديان بلاده، والأبيني من الضالعي والضالعي من اليريمي والصنعاني مستفز من صاحب حيدان وساقين وسحار والجميع من الأخير والأخير من الجميع ولقد وصلنا جميعا لاستمزاج هذه الحالة من هستيريا أفراد عائلة واجدة تنبعث من ثناياهم رائحة واحدة، صاحب صعدة؟ صاحب تعز؟ صاحب شبوة؟ ياللعار، بيننا القادم من نيو انجلاند وكارولينا الشمالية لا يسترعي أكثر من انتباه ومهارة التحليل والمتابعة، هاه السفياني، حرف سفيان؟ الحاشدي؟ الصبري؟ الشرعبي؟ الضالعي؟ كيالين السماد والله ما كانت، بينما الشمري والعنزي والغامدي هم رزة البيت البديلة، وهم كفايتنا وضمانة تصفية الحسابات ولو فتحوا الباب حتى للضباع ومسوخ الزمن الأخير.
يتدافعون ويتذابحون في دهاليز البيت بينما يقتحم الغرباء الباب ويتموضعون على السطح ويوزعون الزوايا والأماكن هنا وهناك ومن يستحق صدر المجلس ومن الجدير بالمبيت مع البهائم ومن يقايض مقتنيات العائلة بعلبة مارلبورو أو بشقة بديلة في عاصمة أجتذبتك من أطماعك أو من ضغائنك ومنحتك علبة أسمنت وشرفة بلا جعة تطل منها على قريب أو أهل وذكريات وطرقات وحتى عابر سبيل.
هذا هو المآل؟ اللعنة على هذا كله، اللعنة على هذه الإحداثيات الجديدة للعاطفة الوطنية الأشبه بالشامبو السفري الذي قد يجعل شعرك لامعا وقلبك متسخا وخطواتك مزيج من الضياع وحس الفقدان..
لم يصادفني وطني متذمر صارخ يمسك كتفي عبر مقالة ويضج هكذا: وصول قائد الأسطول الأمريكي الخامس، ما الذي فعلناه بأنفسنا؟ ما الذي فعلناه ببلادنا؟.
أمسينا ساسة محللين في قنوات وصحف مرتجلة ومواقع، إن تحدثنا عن وصول قائد الأسطول الخامس سيكون ذلك بنبرة متابع مهتم وبصدد الحذاقة، وهل أن هذا دليل على تعاون سعودي أمريكي أو أنه افصاح عن مستوى تال من التوتر بين الدولتين، وأن هذا الإجراء الأمريكي حتى بالنسبة لي يأتي في سياق البسط المباشر ولكز السعودية في مرفقها ومنفذها النفطي قيد الإنشاء، هكذا إذن وكأننا نتابع ونحلل الصراع الأمريكي السوفيتي في شرق أوروبا.
بينما هي بلادنا، وعندما وصل قائد الأسطول الخامس فهو يستهدفنا نحن في جوهر كرامتنا الوطنية وعلاقتنا بالتراب، التراب الذي هو ماء روحنا ولون بشرتنا والجغرافيا وإحداثياتها بوصفها خطوط ملامحنا وهي شخصيتنا والرائحة والكينونة.
لربما أهدأ وقد كتبت هذا، ذلك مايسعني وهو جهدي الآن، هكذا هو الأمر، وربما يتبقى لي ذلك الاستلهام العاطفي فحسب وكأنني أحد أبطال فيلم روبن هود، أحد الشخوص الفنية ولست حتى الشخص الإنجليزي المقاتل وهو يواجه ابن بلاده بالدرع والترس وفجأة يسمع صوت إنجليزي آخر يصرخ من أعلى التلة وصوته يخترق العمى الإنجليزي والضغينة: لقد دخلت الجيوش الفرنسية من الجنوب..
عندها فقط أجد مكانا لي في الدراما الوطنية المستعارة من قصة شعب أستلهم ماضيه ويتهددني حاضره، عندها فقط وأثناء ما يتوقف المقاتل الإنجليزي وقد أنحرف ذهنه ودافعه القتالي عن جسد ووجود ابن بلاده إلى الفرنسي الذي أستغل اقتتال العائلة وتجاسر على تخطي الحدود، لحظة أن توقف الإنجليز وقد سمعوا صوت النذير، وصرخ أحدهم وقد توقف عن قتال شبيهه من شمال إنجلترا، وغرس رمحه في التراب صارخا: من أجل إنجلترا.
أهمس من هنا من الثلث الأول في الألفية الثالثة ومن زاوية في صنعاء ومن مكان كأنه صدى يتردد في جنباته وجيب قلب اليمن..
أقولها وأنا بلا درع ولا سيف، عاطفتي المحتدمة الذاهلة هي رمحي، أغرسه في قلبي وأردد: من أجل اليمن.