- كتب: قادري أحمد حيدر
معنى المصالحة:
هل كنا حقاً أمام حالة مصالحة وطنية ؟ وهل ما جرى مصالحة وطنية ، وفقاً لتسمية البعض لها ؟ ثم ما هي الإضافة الوطنية التي قدمها الاتفاق ، أو المصالحة للحالة السياسية ، والوطنية اليمنية في ذلك الحين ؟ خاصة وان الاتفاق أو المصالحة جاءا بعد انكسار الحصار ، وانتصار المقاومة في السبعين يوما ، ولم يتبق سوى بعض الجيوب الملكية الصغيرة مبعثرة في “صعدة” تحديداً ولا تدري ماذا تعمل؟! ، ولا إلى أين تذهب ، بعد ان اختلف بيت حميد الدين فيما بينهم حول مستقبل الحرب وجدواها ، ووجد الداعم السعودي بالمال والسلاح ، إن استمرارية الحرب صارت عبثية ومكلفة ، وبلا معنى. يجب الإقرار بدءًا بأن المصالحة الوطنية هي رؤية معرفية فلسفية ، وهي ثقافة ، وشكل من أشكال الاعتراف بالآخر ، واقرار بالتعدد والتنوع ، إن المصالحة الوطنية هي ثقافة سياسية حديثة لم يألفها العقل السياسي التقليدي ( القبلي العسكري )، ذلك أن المصالحة الوطنية إنما هي مفردة من مفردات ثقافة التسامح ، وحين نقول التسامح الوطني ، أو المصالحة الوطنية ، إنما نعني بذلك أننا أمام حالة من ثقافة القبول بالآخر ، والاعتراف بحقه في الحياة ، وبحقه في الشراكة والمشاركة في اتخاذ القرار ، وفي السلطة والثروة ، وإذا ما أسقطنا مفهوم المصالحة الوطنية كحالة من حالات التسامح السياسي ، على واقع وحقيقة ما جرى في العام 1970م مع السعودية ، وكان من نتائجه عودة القوى الملكية ، فإننا لا نرى فيما جرى مصالحة وطنية ، ولا ما يعبر عن حالة من حالات التسامح الوطني تجاه الآخر ، خاصة وأن مقدمات ما يسمى بالمصالحة الوطنية ، أو اتفاق جدة مارس 1970م كانت عملية تصفيات دموية ، واقصاءات سياسية وعسكرية لقوى أصيلة في قلب القيادة الجمهورية ، تم استبعادهم ، وإقصاؤهم وسجنهم وتشريدهم لأنهم كانوا يحلمون ان يتم القبول بهم شركاء في السلطة ، بما يعني غياب الحد الأدنى من ثقافة التسامح والتصالح ، ألم يكن الجمهوريون الشباب في قلب القيادة الجمهورية هم أحق بالمصالحة الوطنية، والتسامح السياسي معهم ، وعدم الاعتداء على حقهم السياسي والوطني بالمشاركة ، بدلاً من الذهاب إلى الملكيين ، والسعودية ، إن أصدق وصف وتسمية لما جرى في جدة مارس 1970م إنما هي تسوية سياسية انتقصت الحق السياسي والوطني لليمنيين ، تسوية ناقصة من موقع التابع ، حددها ، وفرض شروطها وبنودها ، ومضمونها الطرف السعودي ، تسوية حرفت القضية الوطنية اليمنية عن مسارها ، ووضعت اليمن الشمالي تحت الوصاية السعودية.
والحقيقة، أن فكرة التسوية السياسية، أو المصالحة كفكرة إنما بدأت مع مؤتمر أركويت في السودان العام 1964م الذي رأس الوفد الجمهوري فيه الأستاذ محمد محمود الزبيري ، وترأس الوفد الملكي أحمد محمد الشامي ، ومن برط دعا الزبيري كذلك لإيقاف الحرب ، والسلام ، والمصالحة ، وبعد اغتيال الزبيري 1/4/1965م اخذ التيار الجمهوري المشيخي القبلي ، وبقايا الأحرار اليمنيين لواء الدعوة لوقف الحرب ، “والسلام “، والمصالحة ، دونما رؤية ولا برنامج سياسي ، أو وضوح حول معنى ومفهوم المصالحة ، والسلام ، ومع تشكيل حكومة النعمان في أبريل 1965م قدم الأستاذ أحمد محمد النعمان برنامجه السياسي الذي دعا إلى تبني جملة من القضايا والأسس العامة ، لمعنى بناء الدولة الحديثة ، والموازنة ، داعياً إلى المصالحة بين الأطراف المتحاربة ( الجمهوريين ، والملكيين ) وإنجاز مشروع السلام في البلاد ، مؤكدا على قضية بناء الدولة على أسس المبادئ البرلمانية ، وجيش وطني ، وبعدها مباشرة نهاية ابريل 1965م تبنى الشيخ عبدالله بن حسين الاحمر وزير الداخلية ، دعوة القبائل الجمهورية والملكية للمشاركة في لقاء أو مؤتمر وطني لتسوية القضية اليمنية ، وكانت هذه الدعوات مقدمة سياسية لمؤتمر خمر الذي عقد في مايو 2/5/1965م وأسس عمليا وسياسيا لخطاب عمومي فضفاض مجرد عن المصالحة ، محاولين استثمار اسم الزبيري الشهيد في هذه المعركة السياسية الخاسرة ، لقد كان مؤتمر خمر هو تعبير سياسي عن الإرادة المشيخية القبلية بامتياز ، والدعوة للمصالحة ، والسلام ، وإيقاف الحرب ، جاءت في حمى الهجوم الإيديولوجي والسياسي على مصر عبدالناصر حيث دعا المؤتمر إلى إخراج القوات المصرية ، ورفض دورها العسكري ، ومساعداتها ، وجاء مؤتمر الطائف 10/9/1965م ليعلن المصالحة مع السعودية والملكيين ، وقيام الدولة الإسلامية اليمنية ، وهي الفكرة التي أخذ تبلورها أكثر من أربع سنوات ، حتى اختمرت ، وأنجز نصفها الثاني في جدة مارس 1970م.
إن مؤتمر الطائف وبنوده وقراراته التي حملت شعار المصالحة ، وغطاء السلام ، ووقف الحرب . والذي عقد في مدينة الطائف السعودية في قلب الحرب السعودية والاستعمارية على الثورة والجمهورية ، إنما كانت تقف خلفه القوى (شبه الإقطاعية ). والمشيخية القبلية الملكية ، وبعض العسكريين المتذمرين من السياسة المصرية في اليمن ،هدف مؤتمر الطائف الذي حمل شعار المصالحة والسلام ، مثله مثل مؤتمر خمر ، إنما كان يهدف إلى تعزيز دور ومكانة السعودية في حل القضية اليمنية ـ كما يقولون ـ وفي هذا المؤتمر تم التنازل عن الخيار الجمهوري ، أو وضع الخيار الجمهوري في موازاة ومقابل الخيار الملكي ، باعتبارهم شعار الدولة الإسلامية اليمنية هو البديل المناسب لحالة اليمن . وفي شهر أكتوبر 1967م ونتائج مؤتمر قمة الخرطوم التي رفضها السلال ، وصف جمهوري واسع ، وعلى إثر مظاهرة 3 أكتوبر 1967م وتوتر الأوضاع الداخلية بين الأجنحة الجمهورية المختلفة ، تم الاتفاق على تشكيل لجنة مصالحة وطنية كاسم وشعار، وفي غفلة من الناس وبدون أية رؤية، ولا مشروع سياسي حول ماذا نعني بالمصالحة السياسية والوطنية ؟ وما هي المداخل العملية، والسياسية لتنفيذها وتحقيقها ؟ حيث أعلن الشيخ عبدالله الأحمر أن المصالحة، ممكنة مع السعودية والرموز الملكية ، وليس المصالحة داخل صف القيادة الجمهورية المصطرعة فيما بينها ، والتي كانت بحاجة ماسة سياسياً ووطنياً إلى المصالحة الوطنية والانتقال بعدها للحديث عن المصالحة، أو التسوية السياسية مع الآخرين في الخارج ، وعلى خلفية ذلك المنظور السياسي الأحادي للمصالحة عند بعض حاملي لوائها ، فقد عقد في الحديدة أول اجتماع لها على قاعدة الحفاظ على النظام الجمهوري ، وأهداف ومبادئ ثورة 26 سبتمبر ، على أن ترفض وساطة اللجنة الثلاثية ، ويحل اليمنيون مشاكلهم بأنفسهم ، عدا أسرة آل حميد الدين، وكانت هذه هي الخطوة السياسية الأخيرة قبيل إعلان قيام انقلاب 5 نوفمبر 1967م الذي تبنى بالكامل ، قضية المصالحة وعمل على إخراجها سياسياً على مراحل ، ولكن على خلفية وقاعدة تصفية الجناح الثوري الجمهوري في قمة السلطة ، والجيش والأمن ، وأجهزة الدولة المختلفة ، وإنهاء حالة التوازن الوطني في الجيش وفي السلطة والدولة ، التي أشار إليها محقاً الفقيد يحيى المتوكل ، وجاءت أحداث 23/24 أغسطس 1968م لتحسم حالة “ازدواجية السلطة”, القائمة بين أجنحة، وتيارات القيادة الجمهورية لصالح القوى التقليدية والمحافظة وهو ما أشار إليه كذلك الأستاذ الفقيد يحيى المتوكل ، ومن حينها بدأت تتحول دعوات وشعارات المصالحة مع السعودية من خطاب ، وقول سياسي إلى خطوات عملية قيد الإعداد ، والتنفيذ ، وهو مالم يكن في ظل قيام حالة التوازن الداخلي التي كانت قائمة إلى ما قبل أحداث 23/ 24 أغسطس 1968م.
إن فكرة التسوية مع السعودية بالطريقة التي تمت ، هي فكرة كانت قائمة في عقل ، وذهن ، وحلم المجاميع المشيخية القبلية ، وبعض بقايا الأحرار اليمنيين ، وبعض العسكريين الذين انحازوا لأسباب خاصة مع مشائخ القبائل وهذه الأطياف السياسية والاجتماعية سعت جاهدة إلى تحميل مصر ، وعبدالناصر مسؤولية الحرب واستمرارها ، مع أن الحقائق والوثائق والاتفاقات تؤكد ان الطرف السعودي والاستعماري البريطاني ، ومعهم الرجعية العربية هم من كانوا يقفون ضد إيقاف الحرب باشتراطهم التخلي عن النظام الجمهوري ووضعه بين خياري الملكية ، والدولة الإسلامية ، إلى جانب شرطهم حول عودة بيت آل حميد الدين ورفض اتفاقية جدة بين عبدالناصر ، وفيصل عام 1965م إلى جانب إفشالهم لمؤتمر حرض خير دليل على ذلك . وبقيت فكرة المصالحة ، أو التسوية كامنة وغير جاهزة للتطبيق ، بسبب توسع وامتداد الحرب السعودية ، والاستعمارية على ثورة 26 سبتمبر وامتدادها لتشمل أكثر من 40 جبهة عسكرية خلال 64ـ 65ـ 66م وبقي الجناح السياسي القبلي التقليدي حاملاً لواء الجمهورية القبلية ، ” دولة المشائخ”, والدولة الإسلامية اليمنية ، هو من يطرح فكرة المصالحة ، والسلام ، وإيقاف الحرب بين القوى المتحاربة ، في محاولة للمساواة بين الجمهوريين ، والملكيين ، وبالنتيجة، المساواة بين مصر، والسعودية، وبهدف وضع الشعار الجمهوري في مقابل وموازاة شعار الملكية ضمن شعارات وطروحات غير واضحة، وغير محددة تحولت معها شعارات ومفاهيم ، “السلام” ، و”إيقاف الحرب” ، و”المصالحة” ، إلى مفاهيم، وشعارات ، سياسية ملتبسة ، وغامضة ، ومراوغة ، وغير مفهومة ، ويمكنني القول بكل ثقة ومن خلال التجربة السياسية التاريخية ، أن القوى السياسية والاجتماعية التقليدية ( المشيخية ، والعسكرية، والدينية ) حاولت ممارسة الاستخدام الوظيفي السياسي لمفاهيم وشعارات “السلام” ، و”المصالحة”، و”إيقاف الحرب” ، ضد الدور المصري المسلح في اليمن ، والداعم لثورة 26 سبتمبر 1962م، وفي مواجهة التيار الثوري الجمهوري في قلب القيادة الجمهورية ، من كل التيارات والاتجاهات، مستخدمة أخطاء البيرقراطية العسكرية المصرية لصالح تمرير أهدافها وشعاراتها ، قضية حق أريد بها باطل.
إن المصالحة الوطنية ، والتسامح الوطني ليسا خطأ ، ولا خطيئة ، أو جريمة ، وليسا عيباً في حد ذاتهما ، خاصة إذا ما كان هدفهما تنقية الأجواء الوطنية ، وخلق مناخ سياسي وطني صحي وسليم ، يعزز ويرسخ اللحمة الوطنية الداخلية ، ان الدعوة للتسامح الوطني ، والمصالحة الوطنية ، حين تكون مؤسسة على قضايا وأسس ، ومفاهيم واضحة ومحددة ، وفي سياق مشروع سياسي وطني كبير ، وليس لخدمة مشاريع سياسية صغيرة ، تحت وطنية ، ومعادية في جوهرها لقضية الدولة الحديثة وهو ما كانه مشروع جمهورية خمسة نوفمبر عبر قاطرة ما يسمى ” المصالحة ” مع السعودية ، ومن هنا رفضنا المبدئي والوطني لمشروع ” المصالحة ” عبر القاطرة السعودية ، والذي وضع البلاد عملياً وسياسيا ً، تحت الوصاية السعودية باسم ” المصالحة ” حقا لقد تم اغتيال شعار “السلام”، ومفهوم المصالحة مرتين : الأولى حين استخدم لتصفية المعارضين السياسيين الجمهوريين في قلب القيادة الجمهورية ، بعد إفراغ مفهوم “السلام” و”المصالحة من معناهما”، ومضمونهما ودلالاتهما الفعلية ، والثانية حين تحول مفهوم المصالحة إلى تبعية ووصاية ، وفقدان للسيادة الوطنية ، والقرار السياسي الوطني المستقل.
لقد وجدنا أنفسنا حقيقة ليس أمام مصالحة وطنية داخلية ، ولا مصالحة سياسية خارجية مع السعودية ، وحلفائها الاستعماريين ، بل أمام حالة تسوية سياسية كاملة للمسألة السياسية الوطنية اليمنية ، برؤية سعودية مشروطة مسبقاً ، بأن تقبل القيادة الجمهورية النوفمبرية تسوية للمسألة الوطنية اليمنية ( الحرب على ثورة سبتمبر ونظامها الجمهوري ) تقول : إن ما جرى طيلة الثماني السنوات من الحرب ضد الثورة والجمهورية أنها ليست أكثر من “حرب يمنية / يمنية” ، أنظر حول ذلك بيان السعودية بالاعتراف بالنظام الجمهوري ، هذا أولاً ، وأن الطرف السعودي ليس أكثر من وسيط بين المتحاربين اليمنيين لحل الصراع بينهما وهذا ثانياً : وأن لا شروط يمنية خاصة تترتب على هذه التسوية ، مثل الاعتذار ، والتعويض ، وهذا ثالثاً ، وأنه بمقابل هذه التسوية السياسية بين اليمنيين ـ وليس حتى بين اليمنيين ، والسعودية ـ تعترف السعودية بالنظام الجمهوري ، وهو رابعاً ، وأن الاعتراف بالنظام الجمهوري يتم بعد الاعتراف بحق عودة القوى الملكية في المشاركة بالحكم ، وهو خامساً ، على أن يشكل بعدها وفداً من الجمهورية العربية اليمنية يذهب للسعودية، لإعلان الاعتراف بالنظام الجمهوري ، وهو سادساً ، وتلكم هي شروط التسوية الناقصة التي لم يكن يحلم بها السعوديون، ولا يتوقعونها ، خاصة وأن التسوية جاءت وتمت بعد ان كسرت القوات الجمهورية الحصار السعودي / الاستعماري / الملكي ، عن صنعاء ، وأصبحت المجاميع الملكية والمرتزقة المأجورين الدوليين يلملمون بقايا أسلحتهم للهروب والمغادرة . ويمكنني القول إن من أهم أهداف اتفاق جدة ، أو ما يسمى ” بالمصالحة ” إنما يتمثل في التالي:
1ـ تصفية ما تبقى من القوى الحديثة في السلطة والدولة ، والجيش والأمن.
2ـ حصار النظام الجمهوري الوليد في الشطر الجنوبي من الوطن.
3ـ تحويل مناهج التعليم إلى مناهج مشبعة بالأيديولوجية الوهابية ، وإدخال المذهبية إلى التعليم والمجتمع اليمني ، وهو ما نعاني منه حتى اليوم.
4ـ العمل لأسلمة المجتمع، والدولة خاصة في الأرياف ، وإذكاء النعرات المذهبية والطائفية.
5ـ التدخل السعودي المباشر في تفاصيل الحياة السياسية اليمنية ، للتوغل في الشؤون الاجتماعية والمدنية ، إلى حد اختراق مؤسسة الجيش والأمن ، حتى تعيين رئيس الوزراء ، واقتراح البديل له ، انظر وثيقة كمال أدهم ، وغيرها من الوثائق.
6ـ تسهيل تمرير التمويل والدعم السعوديين عسكرياً ، وأمنياً ، ضد دولة الجنوب.
7ـ إشراف نظام صنعاء على التمويل السعودي لزعماء مشائخ القبائل ، وتشكيل الفرق القبلية المسلحة من سلاطين الجنوب. والتي كانت تتحرك كذلك بدعم استعماري سري ، حتى تشكيل ” لواء العودة ” لمحاربة النظام في جنوب الوطن سابقاً من منطقة بيحان والمناطق الحدودية.
8ـ تمديد فترة التنازل عن الأرض اليمنية مع السعودية عشرين سنة جديدة كنتيجة من نتائج المصالحة ، وصولاً للتنازل النهائي عنها اليوم.
9ـ ولا يمكننا اليوم قراءة الحرب بين الشطرين في العام 1972 م سوى تلبية لمطالب سعودية مباشرة وملحة.
10ـ ومن المهم هنا فهم معنى أن السعودية هي الدولة العربية الوحيدة التي رفضت الاعتراف بالنظام الجمهوري في شمال الوطن ، إلا بعد مايسمى ” المصالحة ” ولم تعترف السعودية بدولة الاستقلال الوطني في الجنوب إلا في منتصف السبعينيات.
11ـ يجب الاعتراف أن الدعم السعودي المالي ، وغيره لنظام صنعاء ارتبط بمدى قدرته على توتير الأجواء بين الشطرين ، ولتسهيل العدوان على نظام الجنوب من الحدود ، وجميعها من ثمار “المصالحة” المرة ، القاسية والمذلة ، فأين هي إذاً الوطنية اليمنية في شعار المصالحة ؟ أين هي الذاتية اليمنية ” ؟ بعد أن فقدنا السيادة والاستقلال الوطني ، وأصبحنا من حينه في حالة هوية وطنية ضعيفة هشة ومفككة وتابعة لهوية سياسية، كل مجدها وقوتها وتأريخها السياسي آتٍ من “البترو دولار” النفطي الذي به تم شراء الذمم ، والنفوس ، والعقول ، وقاد مصائر الشطر الشمالي من الوطن إلى مصائر سياسية وتاريخية لا صلة لها بالمصالحة ، ولا هي حققت شعار الذاتية اليمنية ” وأثرت بالنتيجة على واقع، ومستقبل اليمن الشطري كله ، ومازالت تؤثر وتتحكم بمصائر مستقبله الآتي مع الأسف.
وأستطيع القول إن ما لم تحققه السعودية ، والقوى الاستعمارية الامبريالية ، وأعوانهم بالحرب ، توصلت إليه عبر ما يسمى سياسة المصالحة ، متجاهلين أن فكرة المصالحة ، إنما هي في الجوهر رؤية ، وفلسفة ، وثقافة مدنية ، حوارية ، نقدية عقلانية سلمية هي ثقافة تنوير سياسي وتسامح سياسي ، لا تفهمها القوى السياسية الاجتماعية التقليدية ، مناقضة في الجوهر لثقافة شبه الإقطاع المشيخي والقبلي ، وثقافة ، العسكر الانتهازيين الذين تركوا قيادة وحداتهم العسكرية فترة الحصار، هاربين إلى خارج الوطن ، وهي مجاميع معتصمة بالفكر السياسي القبلي ، والطائفي ، وهم أكثر من تاجر بقضية السلام، والحرب الجمهورية ، الملكية ، فعن أي مصالحة بعد ذلك يتحدثون ، إن ثقافة المصالحة نقيض جذري لهوياتهم السياسية الصغيرة ، القبلية والمذهبية ، والطائفية، بعضهم ما يزال حتى اللحظة معتصماً ، ومنتمياً لتلك الثقافة المغايرة لثقافة التسامح ، والتصالح ، والتعدد ، والتنوع ثقافة الاختلاف ، والنقد والقبول بالآخر.
الفصل السابع ، الثامن:
فصلان ممنوعان من الصرف
سأبدأ التعليق على الفصلين السابع، والثامن من الكتاب الحواري بإجابة للشهيد جار الله عمر على سؤال وجهه إليه الصديق الأستاذ صادق ناشر ، والسؤال يقول : في لقاءاتكم مع الرئيس علي عبدالله صالح كيف وجدتم الرجل ؟ وكانت الإجابة المباشرة والصادقة المحتوية للمعنى كله : “هذا السؤال صعب ، إذ لا تستطيع أن تقيم شخصاً تقييما دقيقاً ومسؤولاً وأميناً وهو ما يزال يحكم ، ولديه القوة ويستطيع أن يلحق بك الضرر ، ولهذا ، فإما أن تكذب وتخادع ، وإما أن تقول كلاماً ستعاقب عليه ،جاء ذلك الرد على ذلك االسؤال ، من كتاب ” جار الله عمر : قصة حياة .. من شهقة الميلاد إلى رصاصة الموت ” صــ 43 ، ولهذه الاعتبارات لن أدخل في مناقشة القضايا المثارة في هذين الفصلين ، ليس خوفاً ولا تهيباً ، وإنما حذراً من أن أحمل متن الفصلين مالا يحتملانه ، وبتجاهل للشرط السياسي التاريخي لإنتاجهما ، ولأن إشكالات وقضايا هذين الفصلين ما تزال قائمة ، وتطورات إحداثهما ، ومفعولاتهما جارية حتى اللحظة هذا أولاً ، وثانياً : وهو الأهم أن من يتحكم ويدير هذه الأحداث ما يزال حاكماً متربعاً في السلطة ، ويهندس أشياءها ، ( كتبت هذه المادة ، وعلي عبدالله صالح ،ما يزال في رأس الحكم ), ومن هنا فإن الإجابات في هذين الفصلين قطعا ستختلف قراءتهما على الأقل من قبلي كباحث مدرك لسياق الإجابات ، المختلفة عن السياق الذي وردت فيه إجابات الفصول الستة السابقة ،التي جاءت شفافة ، وسلسة ، وليست مثقلة بضغوط النص السياسي الاستبدادي ، واشتراطاته القهرية الراهنة.
وثالثاً: إنه لمن الصعب أن يأتي أحدهم ليسأل مواطناً عادياً ، أو حتى وزيراً في حكومة، أو مستشاراً لوزير ، حتى بعد إبعادهما عن مواقعهما عقاباً لهما ، أو لأي سبب كان ، حول رأيه بالسيد الرئيس ، أو إنجازاته ، أو دوره في هذه المسألة أو تلك ، وتكون إجابته متضمنة الحد الأدنى من الصدق ، ذلك لأن السؤال غير ضروري ، والإجابة ليست مهمة وغير ملزمة ، بل ولا يجب أن يعتد بها، شأنها شأن الاعترافات تحت الضغط أو التعذيب في السجون، وفي تقديري أن إجابات الفقيد يحيى المتوكل عن هذه الأسئلة نفسها في ظروف مغايرة ، وسياقات سياسية أخرى ، قطعاً ستكون إلى حد بعيد مختلفة ولذلك فإنني لن أحمل إجاباته أكثر مما تحتمل في هذين الفصلين والأهم والأخطر من ذلك كله ، أن الرجل أصبح بين يدي ربه جل وعلا ، وهو ما يصعب الأمر علي أخلاقياً ، وإنسانياً ، فضلاً عن أن القضايا المراد بحثها ، والحوار النقدي حولها ، – كانت – وما تزال تحتمل أكثر من قراءة ، وتطور أحداثها ، ومفعولاتها جار ومستمر ، ولا ندري آفاق تطورها إلى أين ستقودنا ، وهو ما جعلني أحجم عن الخوض فيها ، تاركاً أمر بحثها ومناقشتها ، والحوار النقدي معها لكتابات قادمة ، ومن هنا كان عزوفي عن الدخول في مناقشتها ، وكنت أتمنى لو أن الله أمد بعمر فقيدنا ليشهد ما نحن عليه ، وما آلت إليه الأوضاع على جميع المستويات ( اقتصادياً ، اجتماعياً ، وسياسياً ، ووطنياً ، ووحدوياً ) وأنا على ثقة بأنه سيفكر ملياً، وعميقاً ، فيما سيكتبه أو سيقوله اليوم ، وفقاً للحقائق والوقائع الجارية منذ حرب 1994م إلى حرب صعدة التي تدخل عامها السادس في الحرب الشاملة ، إلى الانتفاضات، والاحتجاجات السلمية في المحافظات الجنوبية والشرقية ، وأنا على ثقة بحكمته ، وحنكته ، وبصيرته ، وخبرته ، في القدرة على التمييز بين الأشياء
إن كل ذلك هو ما جعلني أعزف عن الخوض في مساجلة حوارية مع ماورد في هذين الفصلين وأحمله ما لا يحتمل ، وأشق على نفسي وعليه ، ولذلك وضعتهما أو جعلتهما في حالة الممنوعات من الصرف.