- كتب: قادري أحمد حيدر
اتفاقية جدة مارس 1970م.
اتفاق أم اتفاقية ؟، معاهدة أم صلح ؟، مصالحة وطنية أم تسوية سياسية ؟، إن كثرة الأسماء والمسميات والصفات، والمفاهيم والتعريفات، لأية قضية أو ظاهرة إنما يفقدها معناها الحقيقي، ويبعدها عن مدلولها المباشر الواضح الصريح، ويعكس في الواقع حالة غموض، وتشوش وارتباك حول هذه القضية أو تلك الظاهرة، إن هذه الكثرة من الأسماء والمسميات، والصفات والتعريفات، والمفاهيم ، والكلمات حول قضية أو مسألة المصالحة، أو اتفاق جدة، أو اتفاقية جدة، أو المعاهدة، أو التسوية السياسية مع السعودية، جميعها تسميات أو صفات لقضية، أو مسألة واحدة هي العلاقة مع السعودية، “علاقة التبعية”، وهي من اخطر القضايا والمسائل في التاريخ السياسي اليمني المعاصر برمته، وعلى أهمية وخطورة وحساسية ما مثلته هذه القضية، أو المسألة في مجرى التاريخ السياسي اليمني المعاصر، وما تزال حتى اللحظة آثاره السياسية السالبة قائمة ومستمرة، إلا أننا لا نجد لها، أي الاتفاقية أو المصالحة أو التسوية وثيقة رسمية منشورة، لا في الوثائق الرسمية للدولة، ولا في الصحافة الرسمية السيارة الصادرة في ذلك الحين، أي أننا لم نقرأ شيئاً مكتوباً رسمياً حولها، وتم التوقيع والمصادقة عليها من قيادة الدولتين أو الحكومتين، وهما الطرفان المعنيان بالاتفاق، أو الاتفاقية أو “المصالحة الوطنية” !! ، وهل هي مصالحة وطنية مع الداخل، أم تسوية سياسية مع الخارج، السعودية ؟ وهنا المفارقة، حيث نجد أنفسنا أمام اتفاق ، أو مصالحة أو تسوية سياسية غيرت وجه التاريخ السياسي اليمني المعاصر كله، وما تزال مفعولاتها، وتداعياتها مستمرة وتؤدي دورها وتستكمل ما تبقى، ولا نجد لها أثراً مكتوباً، أي “وثيقة المصالحة” باعتبارها وثيقة رسمية حكومية دولية، غيرت صورة اليمن، ونقلته من تاريخ إلى تاريخ آخر مغاير لما أرادته، وحلمت به القيادة الجمهورية الأولى، والآلاف من الشهداء الذين قضوا على مذبح الدفاع عن الثورة والجمهورية، وفي ذلك تكمن جميع الأثافي، وكل التاريخ الآثم في جناية السياسة على الواقع والتاريخ جناية نوفمبر 67م على ثورة 26 سبتمبر 62م.
لا يمكننا حقيقة فهم مجرى التاريخ السياسي اليمني المعاصر خلال الأربعة العقود المنصرمة ، دون فهم وإدراك حقيقة ما يسميه البعض “اتفاق جدة” ، أو “اتفاقية جدة” ، مع أن الفارق بين الاتفاق ، والاتفاقية نوعي وخطير سياسياً، وقانونياً ، وهل نحن أمام مصالحة وطنية حقيقية كما يقول البعض أم أننا أمام تسوية سياسية ظالمة وناقصة، مع السعودية.
وقبل البدء في تقديم قراءة مكثفة وموجزة حول اتفاق جدة، أو المصالحة الوطنية كما يحب تسميتها الأستاذ القدير محسن العيني، في كتابه ” خمسون عاماً في الرمال المتحركة ” من المفيد إيراد أهم الفقرات المتصلة بالموضوع مما ورد في الكتاب الحواري مع الفقيد يحيى المتوكل، يقول : ” برغم التوقعات التي حملناها حول المساعدات السعودية لمواجهة آثار الحروب إلا أنها خابت “.. ويضيف : ” إن الآمال التي كنا نعلقها على عهد ما بعد المصالحة في انتقال اليمن إلى مرحلة التطور والبناء تلاشت ( … ) ولم تثمر المصالحة ما كان يتوقعه الناس “.
ولا داعي هنا لإيراد الفقرة التي أكدت على إصرار السعوديين اعتبار الحرب على اليمن قضية يمنية / يمنية داخلية، ليس للطرف السعودي دور ولا ضلع فيها، وموافقة الطرف اليمني على الشرط السعودي وقبوله كمدخل لاعتراف السعودية بالنظام الجمهوري ليس إلا، ومن هنا قولنا: إننا أمام تسوية أو اتفاق إذعان وخضوع، واستسلام، وهو حقيقة أقل ما يمكن أن يقوله المرء أمام الحالة التي وصلت إليها اليمن بعد ما يسمى اتفاق جدة، أو المصالحة، وليس لدي أي تعليق على مجمل إجابات الفقيد يحيى المتوكل ، سوى التأكيد أننا أمام رجل سياسة، ودبلوماسية محنك، من طراز رفيع وفريد، قياساً إلى عمره في ذلك الحين الذي لم يتعد السادسة والعشرين، وفقاً لسنة ميلاده في الكتاب.
ويمكنني القول إنني أمام قضية ما يسمى “المصالحة”، أو التسوية السياسية مع السعودية في جدة مارس 1970م، وجدت نفسي أمام سياسي ناجح، ومحام ممتاز، ولكنه بصدد الدفاع عن قضية فاشلة وخاسرة سياسيا ً، في لحظة هي تعبير عن قمة المأساة التراجيدية والكوميدية معاً، لحظة هزيمة سياسية، ونفسية وأخلاقية ووطنية، لحظة هي تعبير عن مأزق الفكر السياسي لجمهورية نوفمبر 1967، الذي قاد البلاد إلى حتفها الوطني فيما يسمى “اتفاق المصالحة”، نظام اعترف به العالم كله من شرقه إلى غربه، القريب والبعيد، وبقي لسنوات يستجدي شرعية من نظام بلا شرعية، كل شرعيته آتية من خارجه، من لحظة التأسيس الأولى، ١٩٣٢ م .. نظام هو طرف أساسي في الحرب على ثورة 26 سبتمبر، وشعبها، طيلة ثماني سنوات كاملة، وبدلاً من أن يطالبه بالاعتذار، والتعويض عما ألحقه بالاقتصاد والتنمية، وما أزهقه من أرواح الأبرياء، ومئات الآلاف من الشهداء، وما تركه من دمار وخراب ما تزال آثاره السياسية والمادية والنفسية، والمعنوية، والوطنية تجر أذيالها حتى اللحظة، نجده يذهب إلى عقر داره يكافئه، وبطالبه بالسماح بإن يسمى نفسه وسيطا بين يمنيين احتربوا بدون قضية ولا هدف، وكأن العدوان والخراب، والشهداء والتضحيات لا معنى لها في قاموسهم السياسي، المهم اعتراف السعودية، مع بقاء مصالح النخبة القبلية والعسكرية، وسيظل مطلبنا السياسي، والوطني التاريخي هو مطالبة نظام المملكة السعودية بالاعتذار، والتعويض عما لحق باليمن واليمنيين من خلال العدوان الاستعماري / والسعودي، ومن هنا ندعو إلى تشكيل لجنة وطنية يمنية عليا للمطالبة بالاعتذار، والتعويض عما لحق بثورة 26 سبتمبر، وبالاعتذار والتعويض كذلك عما لحق بالجنوب من الاستعمار البريطاني، وهي مطالب سياسية وطنية يمنية تاريخية لاتسقط بالتقادم، وسيحمل لواءها اليمنيون في الجنوب والشمال جيلاً بعد جيل.
وكل ما يجري اليوم على الأرض اليمنية، هو استمرار سياسي، وموضوعي، لتاريخ طويل من تبعية البلاد للسعودية، وتسمية “اللجنة السعودية، الخاصة “، هي العنوان السياسي/المالي، لشراء نخبة الحكم اليمنية، والذي بدأ مع انقلاب خمسة نوفمبر١٩٦٧ م، وليس ما يسمى، بـ ” اتفاق المصالحة”، سوى التتويج السياسي والعملي لتلك الرحلة السياسية المذلة والمهينة من التبعية للخارج/السعودي، والذي يتخذ اليوم الصورة البائسة، من التبعية، في صورتها ” الاحتلالية” .. مرحلة، تماهى وتوحد فيها معنى ومفهوم المصالحة، بالاحتلال..
تعود معه السعودي، إلى طرف مصلح، بين الأطراف اليمنية المتحاربة.