- كتب: قادري أحمد حيدر
انقلاب 5 نوفمبر 1967 واتفاق جدة 1970، وجهان لعملية سياسية وتاريخية واحدة.
إن العلاقة بين انقلاب 5 نوفمبر 1967 ، وأحداث 23/24 أغسطس 1968م الكارثية، واتفاق جدة مارس 1970م ، علاقة شرطية ، هي علاقة السبب بالنتيجة ، العلة بالمعلول ، كل منهما يقود الى الآخر ، ويفسره ، ويكمله ، كلها أو جميعها عناوين لموضوع سياسي تاريخي واحد ، ولذلك هي وجوه لعملية سياسية اجتماعية تاريخية واحدة ، فالقوى السياسية الاجتماعية التي أنتجت وتحكمت بانقلاب 5 نوفمبر ، هي القوى المشيخية القبلية ، والقوى العسكرية المتحالفة سياسياً معها والمرتبطة بالسياسة السعودية، إلى جانب بقايا الرموز السياسية الاجتماعية التقليدية ( الأحرار ) ، إضافة إلى الفئات الكمبرادورية والطفيلية ، ولم تضف إليهم بعد اتفاق جدة مع السعودية ـ بعد تصفية الطابع الوطني للجيش والأمن ـ سوى بعضهم الناقص ، أو رديفهم الملكي المشيخي القبلي ، الذي اصطف مع الصف الآخر المعادي للثورة والجمهورية ، وبذلك يكونون قد استكملوا صورتهم السياسية الاجتماعية التاريخية النهائية ، أو هويتهم السياسية الاجتماعية التاريخية ، التي ظلوا يبحثون عنها في زواريب السياسة والتاريخ ، والمؤتمرات القبلية طيلة سبع سنوات كاملة ، وبذلك استكملوا شرعية وراثتهم للإمامة ، التي كانوا ينتظرون صكاً رسمياً وشرعياً بها من المملكة السعودية ، والملكيين العائدين ، بعد أن ظلوا يقاتلون سياسياً ، وعسكرياً من أجل إنجاز هذا المشروع طيلة سنوات 1963ـ 67 ـ 1970 ، بدءاً من مؤتمرات عمران ( سبتمبر 1963 ) إلى خمر ( مايو 1965 ) ، إلى الطائف ( مايو 1965 ) ، إلى مؤتمر الجند في تعز ، وسبأ ( مارس 1967 ) ، وغيرها من المؤتمرات السياسية القبلية المعارضة للخيار السياسي والعسكري الراديكالي الجمهوري ، وضداً للطابع الوطني للجيش الحديث ومؤسساته القتالية الجديدة ، ورفضا لمعنى وجود الدولة المركزية الحديثة ، وهم الذين وقفوا منذ الأشهر الأولى لقيام الثورة ضد نشأة وقيام “الحرس الوطني”، وهو ما كانت القوى المشيخية القبلية والعسكرية، على وجه التحديد تقف ضده ، وفي مواجهته ، تحولت معها أخطاء البيروقراطية العسكرية المخابراتية المصرية إلى ذريعة ، وشعار ليس فقط لرفض الدور المصري العسكري في اليمن بل وتحويله في خطابهم السياسي إلى استعمار ، و(غزو أجنبي) على أن الهدف البعيد الكامن والرابض في عقولهم هو الوقوف ضد بناء جيش وطني حديث ، واستكمال ذلك ببناء دولة مركزية عادلة ، تقوم على فكرة المواطنة ، وهو ما يفسر أن جميع المؤتمرات السياسية القبلية ، كان أهم أهدافها وبنودها هو بناء جيش شعبي قبلي ( مؤتمر عمران ، خمر ، الطائف ، سبأ ، وغيرها ) بل إن مؤتمر عمران 1963م حدد قوام هذا الجيش بــ”28 ألف مقاتل”، وإلى تشكيل مجلس شورى أعلى شعبي قبلي يتولى تشكيل الحكومة والإشراف عليها وصياغة الدستور.
وساعدهم موضوعان، أو أمران ، على تمرير شعاراتهم ومواقفهم المزعومة تلك باسم “السلام” ، وإيقاف الحرب بين اليمنيين ، الأول موضوعي، أو هو حقيقة، يجمع بين الموضوعي والذاتي في صورة : حالة “ازدواجية السلطة” التي تشكلت خلال سنوات الثورة والحرب ( 63 ـ 1967 ) ، والثاني ذاتي متمثل في واقع ضعف البنية السياسية الذاتية اليمنية في مقابل هيمنة الذات السياسية المصرية بحكم تفوقها وتقدمها السياسي، والعلمي والثقافي والتاريخي على الحالة الذاتية السياسية اليمنية الضعيفة في القيادة الجمهورية بشقيها (الجمهوري الثوري ، والجمهوري الإصلاحي القبلي) فضلاً عن حالة ارتباك وتشوش الرؤية في العقل السياسي، والتنظيمي للحركة السياسية الديمقراطية ، إضافة إلى أخطاء البيروقراطية العسكرية المصرية ، حيث اشتغلت القوى السياسية الاجتماعية التقليدية على توظيف شعار ( الذاتية اليمنية ) الذي رفعوه ضمناً ، ضدا لاتساع قاعدة مشاركة الجناح الثوري في السلطة والدولة ، المقصود التيار القومي واليساري والشعبوي في القيادات الجمهورية والذي جرى إزاحتهم تدريجيا وببطء من قمة السلطة بدءاً من “مجلس قيادة الثورة” ، إلى تقليص تمثليهم في مجالس الرئاسة المتعاقبة ، فبعد ان أصبح شعار ” الذاتية اليمنية ” عمليا موجها ضد السلال والدور العسكري المصري في اليمن ، والتنظيمات القومية واليسارية ، والأخيرة تم محاربتها من الجميع ، ( مخابرات مصرية ، وقوى مشيخية ، والقوى السياسية التقليدية ) ، والوصول بالبلاد إلى اتفاق جدة مارس 1970 مع السعودية ، عبر قاطرتها السياسية انقلاب 5 نوفمبر ، أكد رموز جمهورية نوفمبر القبلية ، ( جمهوريين ، وملكيين ) قضاة ، مشايخ ، وسادة ، وفئات كمبرادورية وطفليية ، وعسكريين ممن هربوا من معارك الدفاع عن الثورة ، وحصار السبعين يوماً إلى خارج اليمن ، أكدوا أنهم استعادوا صورة هوية الدولة الإسلامية اليمنية ، الغائبة ، وروحية وسجية ( الذاتية اليمنية ) المصادرة ، وأكدوا أكثر من هو المثل الأعلى الأخلاقي التاريخي ، بالنسبة لهم على أنه الملك فيصل وليس الرئيس عبدالناصر ، ومن أن مثالهم السياسي التاريخي الأعلى ، هو النموذج السعودي الذي أصبح في يومها وصياً سياسياً ، على الحالة السياسية اليمنية ـ ويبدو أنه اليوم سيكون وصياً على كل اليمن الموحد ـ وتأكيدا لهذا المعنى أجد نفسي مضطراً لإيراد بعض الفقرات الموجزة، والمعبرة والواصفة للحالة التي أشرنا إليها من الكتاب الحواري للأستاذ الفقيد يحيى المتوكل حول جملة من المحطات السياسية التاريخية التي تصب في نفس الهدف والمعنى الذي نبحث فيه وحوله.
في سؤال الفقيد يحيى المتوكل عن أحداث أغسطس 1968 يقول بالنص والحرف: ” لاشك أنه في أحداث أغسطس 1968 انتهت عملية التوازن داخل القوات المسلحة ، وفي الدولة نفسها ، وهو التوازن الذي كان يقوم على أساس يسار ويمين ، وأصبح التوجه المحافظ هو المسيطر أكثر من أي وقت مضى ، وبذلك انتهى الصراع داخل الجيش ” ص 100 ، وهي الخطوة التي تم فيها تصفية القوى السياسية الوطنية، والقوى الاجتماعية القومية واليسارية الديمقراطية ، لأن الجناح السياسي اليميني المحافظ الذي أشار إليه الفقيد يحيى المتوكل لا يقبل بمشاركة الآخر ، ولا يعترف بحقه في الوجود ، ناهيك عن شراكته في السلطة والدولة ، وهو ما تحقق لهم ، ولأنه بدون هذه التصفية السياسية والدموية لحالة التوازن الوطني في الجيش وفي السلطة والدولة ، لم يكن بإمكانهم الذهاب إلى اتفاق جدة مارس 1970م.
ولذلك كان من الضروري استكمال انقلاب نوفمبر بتصفيات سياسية وجسدية لرموز حقيقية كانت القوى الأصيلة / الرئسية في الدفاع عن الثورة ، وفك الحصار عن صنعاء ( فبراير 1968) ، ونموذج ذلك الموقف من عبدالرقيب عبدالوهاب نعمان. رئيس هيئة الأركان في أيام الحصار.
وفي سؤال الفقيد يحيى المتوكل عن : ” ألم يكن الصراع طائفياً كما يتردد ؟ يجيب المتوكل فيقول ” .. لم يكن صراعاً أيديولوجياً ـ كما يرى المتوكل ـ أو صراعاً طائفياً ، بقدر ما كان صراعاً سياسياً يمثله اتجاه اليسار ، والذي كان يعد العدة لتسلم النظام وتحقيق الوحدة تحت راية الجبهة القومية ، فيما كان يميل الطرف الآخر إلى ضرورة أن تقوم الدولة أولاً وتواصل مسيرتها باتجاه المصالحة الوطنية ، والمصالحة مع الخارج ، أي مع الجيران ( السعودية ) ثم العمل من أجل تحقيق الوحدة ، ولذا فقد كان يقاوم بقوة كل محاولات الهيمنة على النظام من قبل القوى المؤيدة للجبهة القومية واليسارية بوجه عام ) ص 98 . والذي نستنتجه أو يمكن استخلاصه من الإجابة السابقة هو التالي:
1ـ إن أحداث أو صراع أغسطس 1968 لم يكن ( أيديولوجياً أو صراعاً طائفياً (… ) بقدر ما كان صراعاً سياسياً يمثله اتجاه اليسار .. )) ، وهي إجابة وان كانت صحيحة وصادقة بصورة عامة ، إلا أنها جزئياً غير دقيقة ، فقد كان الصراع أيديولوجياً ، وفكرياً ، وسياسياً في نهاية المطاف ، صراع بين مشروعين سياسيين مختلفين لتوجه البلاد ، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ووطنياً ، وإن لم يتبلور بصورة نظرية وسياسية واضحة . والصراع وإن كان سياسياً في مضمونه العام ، كما أشار محقاً الأستاذ الفقيد يحيى المتوكل ، فإن تعقيداته في الواقع ماثلة في أن القاعدة الاجتماعية الشعبية في غالبيتها التي دافعت عن الثورة كانت من مناطق جنوب الشمال ، وشافعية المذهب ، وبالنتيجة فإن معظم القيادات العسكرية التي تمت تصفيتها من المواقع العسكرية، والأمنية والمدنية المختلفة ، كانت محسوبة مناطقياً ومذهبياً على تلك المناطق ، ومن هنا كان اتخاذ التصفيات والصراع طابعاً سياسياً وطائفياُ معاً ، إنه حكم السياسة والجغرافيا والتاريخ، ولا صلة له بالصراع المذهبي الطائفي.
2 ـ الاستنتاج الثاني من الفقرة ذاتها هو أن اليسار كان يعد العدة لتسلم النظام وتحقيق الوحدة تحت راية الجبهة القومية ، أي أن حلم الوحدة في إطارها اليساري كان يراود الجماعات اليسارية في الشمال وفي الجنوب، كما يرى المتوكل ، وهو تقديره الخاص فقد يكون صائباً ، أو تقديراً متوهماً حكمته وقائع الصراع بين الطرفين ، المهم أن الوحدة كانت هدفاً استراتيجياً لقوى اليسار.
3ـ الاستنتاج الثالث : كما يرى الفقيد يحيى المتوكل أن الصراع يتمثل في ( أن الطرف الآخر كان يميل إلى ضرورة أن تقوم الدولة أولاً ، وتواصل مسيرتها باتجاه “المصالحة الوطنية” ، والمصالحة مع الخارج ( السعودية ) ، ثم العمل من أجل تحقيق الوحدة ) ، أي أولاً المصالحة مع السعودية ، وبعدها الوحدة ، وكأن الطرف الآخر يريد ، أن يستقوي بالمصالحة مع الملكيين ، والتسوية السياسية مع السعودية على الطرف الآخر ( الجمهوري في الداخل )، وهو حقيقة ما أكدته وقائع وحقائق التطور السياسي خلال تلك المرحلة، والتطورات السياسية بعد ذلك تقول وتؤكد هذا المعنى، أو هو ما اشرنا إليه في مقدمة القراءة لهذه الفقرة.
وحول إجابة الأستاذ الفقيد يحيى المتوكل ، ماذا كان موقف الإرياني من الصراع قبل أحداث أغسطس 1968 وخلالها ؟ يقول : ” فوض الرئيس الإرياني الفريق العمري القائد العام بإدارة الأزمة ووقف الاقتتال بحسب صلاحيته ” ، والجميع يعلم أن الفريق حسن العمري كان طرفاً أساسياً في الصراع ؛ فكيف يكون هو الخصم، والحكم في صراع أداره بطريقته ولصالح الجماعة السياسية الاجتماعية التي يمثلها ، والتي يقف القاضي الإرياني في قلبها ، والتي كان القاضي الإرياني نفسه يقف خصماً لأحدهما ، وسنداً عملياً وسياسياً للطرف الآخر وكان التفويض للعمري هو إشارة سياسية عملية بالانقضاض على القوى الحديثة في القوات المسلحة والامن، ومضايقتهم وتقليص وجودهم في مؤسسات الدولة المختلفة وهو ما تم عملياً لهم.
ومن أكثر إجاباته صدقا ًوصراحة عما آلت إليه المصالحة يقول الفقيد يحيى المتوكل : ” أقول صراحة إن الآمال التي كنا نعلقها على عهد ما بعد المصالحة في انتقال اليمن إلى مرحلة التطور والبناء والنمو ، تلاشت إلى حد ما (…) لأن النظام نفسه كان يعتريه الركود والجمود ، ولم تثمر هذه المصالحة ما كان يتوقعه الناس لا على صعيد التنمية ولا على صعيد الحياة المعيشية للناس (…)، فقد كانت هذه المرحلة مخيبة لآمال المواطنين الذين كانوا ينتظرون إنجاز مشاريع تنموية تنتشلهم من الأوضاع الصعبة التي كانوا يعيشونها ” ص 117 ، إننا أمام مرحلة صعبة مخيبة للآمال ، لا مساعدات سعودية تحقق التنمية التي أملوا بها ، ولا رجاء في استقرار تحقق ، وكأن الوعود السعودية لما يسمونه “المصالحة” تسربت من بين أيديهم، وأقدامهم وصدمت العقول والضمائر النبيلة في بعضهم بعد أن تحولت الوعود إلى سراب ، ولم يتبق سوى صراع مراكز القوى الحقيقية وليس الاسمية ، على ما تبقى من السلطة ، بعد إزاحة القوى الحديثة ، بعد ان دخلت السعودية طرفا أصيلا وشريكا في السلطة ، وفي صناعة واتخاذ القرار السياسي في اليمن ، بل وفي تحديد اسم رئيس الوزراء ، والوزراء ، ووصل تدخلهم السافر والفظ حد مطالبة مسؤول المخابرات ، ومستشار الملك فيصل كمال أدهم ، في رسالة رسمية يوجهها باسمه ومن مكتبه إلى رئيس جمهورية نوفمبر يطالبه صراحة بإقصاء الأستاذ محسن العيني ، وتعيين خلفٍ له القاضي عبدالله الحجري ، وهو ما تم وتحقق بالفعل، ويبدأ طلبه بالقول:
1 ـ ضرورة إقصاء محسن العيني ( … ) وتعيين خلفٍ له الأخ عبدالله الحجري.
2 ـ الاستمرار في دعم عبدالقوي مكاوي ، وعبدالله الأصنج ، وشيخان الحبشي ومجموعاتهم ، ضرورة لكم ولنا نحتاجها في المستقبل.
3ـ إعادة الأخ الفريق حسن العمري من القاهرة إلى اليمن والرسالة مؤرخة ، بتاريخ 3/2/1972.
ويبدأ رسالته بخطاب الرئيس الإرياني بالقول : ” الأخ القاضي عبدالرحمن الإرياني ، رئيس مجلس رئاسة اليمن حفظه الله ” دون ذكر لصفة النظام الجمهوري والجمهورية ، هكذا يتكلم مسؤول مخابرات سعودي ، وأحد مستشاري الملك فيصل مع رئيس الجمهورية العربية اليمنية بعد “المصالحة” ، والتسوية السياسية الإذعانية ،حقاً لقد وجد اليمنيون أنفسهم امام اتفاق إذعان واستسلام ، وتبعية للسعودية.
لذلك لم يتبق أمام مراكز قوى سلطة المصالحة سوى الصراع على تنفيذ المطالب والأوامر ( السعودية ) بعد أن أصبحت السعودية طرفاً مقرراً ونافذاً في الشأن السياسي اليمني، تشكل معها لوبي مشيخي قبلي ، عسكري ، مرتبط بالدعم والأوامر السعودية ومنفذين لمشيئتها ، ومصالحها السياسية الإستراتيجية ، في قلب السلطة اليمنية ، ولذا وجد الأستاذان الجليلان محسن العيني ، ويحيى المتوكل خارج لعبة سلطة التبعية المذلة والمهينة ، بل وغير مرغوب فيهما.
ولم تتوقف صراعات مراكز القوى التقليدية والعسكرية على ما تبقى من السلطة بعد إزاحتهم للقوى السياسية والاجتماعية الحديثة ، ووجدت نفسها في دوامة صراعات جديدة ، وجد الثلاثي المدني ( الإرياني ، ومحسن العيني ، ويحيى المتوكل ) أنفسهم خارج قلب السلطة النابض والمؤثر بعد أن استنفدوا أدوارهم السياسية في خدمة القوى السياسية والاجتماعية التقليدية ( نوفمبر والمصالحة ) ولا معنى جدي وحقيقي لاستمرار بقائهم في السلطة ، هو ليس أكثر من احتياج ديكوري ليس إلا ، لزوم الشكل السياسي الخارجي للحكم والسلطة . ” لزوم ما لا يلزم ” وفقاً لاسم شاعر المعرة.
وبصدقه وموضوعيته المعتادين يعترف الفقيد يحيى المتوكل قائلاً : ” لم أكن أشكل مركزاً قوياً يهدد أو يضايق أحداً ، وكانت علاقتي بالقاضي الإرياني ، ومحسن العيني ممتازة) ، وهو في ذلك يعبر عن قمة الصدق والموضوعية في تحليله لعلاقاته بين مراكز القوى ، والتي كانت وبقيت مع أضعف حلقات سلسلة السلطة ، القاضي الفقيه الإرياني ، ومحسن العيني ، اللذين لم يتبق له معهما سوى علاقة ممتازة بهما ، وليس مع القوى المتنفذة وأصحاب القرار الفعليين المرتبطين بمركز القرار في المملكة العربية السعودية .
لذلك من الطبيعي ان يطالب مسؤول المخابرات السعودي ، ومستشار الملك فيصل بضرورة إقصاء محسن العيني باعتباره رمزاً للجمهورية ، وصورة من صور المثقف المدني غيرالمقبولة سعودياً ، وتعيين عبدالله الحجري خلفاً له.
ومع ان الأستاذ الفقيد يحيى المتوكل لم يعلن مباشرة وصراحة أنه تم إبعاده واستبعاده من مركز السلطة إلى القاهرة سفيراً ، إلا انه ضمناً وفي السياق ذاته يقول : ” لم يعد لي مكان في التركيبة السياسية بعد المصالحة ” ، وقرر الرئيس الإرياني ، بناء على اقتراح العيني ، تعييني سفيراً في مصر وليبيا العام 1971م ” ص 118 ، وقبلها صراحة يقدم الفقيد يحيى المتوكل إجابة سياسية هي في تقديري عبارة عن وثيقة سياسية تاريخية حيث يقول : ” .. كانت هناك صراعات سياسية داخل السلطة بين مراكز قوى قبلية ، وسياسية ، وعسكرية دفعت الرئيس الإرياني إلى الرحيل إلى سوريا ( .. ) وحين عاد إلى صنعاء تفاءل الناس خيراً ، لكن الصراعات استمرت، وازدادت ضراوة خاصة بعد توغل النفوذ السياسي للجيران في المؤسسة العسكرية ( القبلية ) ص 117 ، وفي فقرة أخرى يقول الفقيد المتوكل : ” كان الصراع يمثل تيارات سياسية، وقبلية وعسكرية مختلفة ، بالإضافة إلى ان السعودية كانت عاملاً مؤثراً في تطور هذا الصراع ، فقد كان الملحق العسكري السعودي يتمتع بنفوذ كبير في أجهزة الجيش ، وبرغم ان الرئيس الإرياني ـ والكلام للمتوكل ـ لم يكن راضياً عن هذا النفوذ ، إلا إن تشكيلة الحكم كانت طليقة وحرة في تصرفاتها ، وليست منصاعة لإرادة الرئيس ) ص 118 ، فهو حقيقة ضمن معادلة ثلاثية السلطة : القاضي الفقيه ، وشيخ القبيلة ، والعكفي القديم / الجديد ، لم يكن سوى أضعف حلقات هذه السلطة ، ولم يكن له في الواقع سوى دور ديكوري ، كرنفالي ليس إلا، وبقي دوره محصوراً في نطاق دور القاضي الفقيه الذي لم يتم له يوماً ممارسة دوره كرئيس الدولة ، أو الجمهورية ، كامل الصلاحيات، ذلك ان الحاكم الفعلي والحقيقي هو: كمال أدهم ، وفي أحسن الأحوال الأمير سلطان بن عبدالعزيز ، حتى لا أقول الملحق العسكري السعودي ، صالح الهديان.
تلكم هي حقيقة سلطة جمهورية نوفمبر التي أوصلتنا إلى ما يسمونه زوراً “المصالحة”.