- كتب: قادري أحمد حيدر
حين طلب مني المساهمة في كتابة تقديم للطبعة الثانية من الكتاب (الحواري) السياسي التاريخي الذي أجراه الأستاذ صادق ناشر مع المناضل الأستاذ الفقيد يحيى المتوكل، وهو الكتاب المسمى “يحيى المتوكل .. حضور في قلب التاريخ” ، ترددت كثيراً ولم أستحسن الفكرة، وتجاهلت الطلب لفترة حتى كرر للمرة الثانية وشجعني بعض الأصدقاء ، وهم من أصدقاء يحيى المتوكل على الكتابة حول الكتاب باعتباره صار وثيقة تاريخية، وخاصة بعد رحيله المأسوي ، والحقيقة أن ضعف الاستعداد لدي لعدم المساهمة في البداية في تقديم الكتاب في طبعته الثانية إنما كان يعود لعدة أسباب منها:
ـ أولاً : إن الشخص المعني بتقديم كتابه لم يعد بيننا حاضراً ليشهد على ما كتب حول شهادته التاريخية ، في هذه المقدمة.
ـ ثانياً : إن هناك من قضايا الاتفاق الكثيرة مع محتوى الكتاب ، بقدر ما هنالك قضايا هي مثار خلاف ، وما تزال حتى اللحظة قضايا خلافية ، والمشهد السياسي الوطني اليمني وتطوراته اليوم شاهد حي على ذلك.
ـ ثالثاً : إن علاقتي بالأستاذ الفقيد يحيى المتوكل محدودة وسطحية ، لم تربطني به صلة شخصية أو علاقة إنسانية حميمة ، ويمكن أن يكون لطريقة موته المأسوية التي أودت بحياته ، وما كتب عنه من سجايا وصفات وخصال إنسانية ، وما عرفته عنه سماعاً قبلاً من بعض أصدقائه الخُلص ، منهم رفيق عمره جارالله عمر ، والصديقان عبدالعزيز البغدادي، وإسماعيل الوريث وما رأيته وسمعته منه في لقاء غداء خاص ، هو ما عمق لدي احترامي له بعد رحيله أكثر.
ـ رابعاً : هو علمي من الصديق صادق ناشر أنه كان ينوي بالاتفاق مع الأستاذ الفقيد يحيى المتوكل لاستكمال وإضافة أشياء جديدة إلى الكتاب.
ويمكن أنه كان لعودتي إلى قراءة الكتاب أثناء إعدادي لنشر كتابي عن ” ثورة 26 سبتمبر بين كتابة التاريخ وتحولات السلطة والثورة ” وما وجدته من إجابات ورؤى جريئة فيها من الرؤى النقدية الكثير، خاصة لبعض مفاصل التاريخ ما قبل الثلاثة العقود الأخيرة ، وهو ما شجعني على كتابة هذا التقديم لكتاب يستحق أن يكون موضوعاً للنقاش والحوار ، ويستحق أكثر القراءة باعتباره اليوم وثيقة سياسية تاريخية هامة لشخص وقامة سياسية وفكرية لها إسهامها الكبير في صناعة، وصياغة مراحل هامة وانعطافية في مسار تاريخنا اليمني المعاصر له التحية والسلام ، والطمأنينة وهو بين يدي الباري عز وجل.
ينقسم الكتاب الحواري في تقديري إلى قسمين : القسم الأول يمتد من الفصل الأول إلى الفصل السادس ، ويبدأ القسم الثاني من الفصل السابع إلى الثامن هي رحلة العمر في السياسة والتاريخ خلال العقود الثلاثة الأخيرة ، والتي شهدنا فيها نهايته أو رحيله المأسوي الفاجع ، وقبل أن يقول كلمته الأخيرة.
ومن صلاتي الشخصية بأصدقائه وماعرفته منهم عنه ، قبل رحيله وبعد ذلك ، إضافة إلى معرفتي الشخصية المحدودة به ، وما كتب عنه وحوله ، وما قرأته من الكتاب الحواري الذي بقي تحت نظري للقراءة طويلاً ، وتفحصته بعمق، قارئاً لما بين السطور ، تكوَّن لدي تقييم واضح لشخصية هذا الرجل كقائد وإنسان ، يمكنني تلخيصها أو إيجازها في التالي:
1ـ إنني أقف أمام شخصية حوارية تمتلك من روح النقد الكثير ، شخصية لا يمكن تجاهل دورها ومكانتها في مسار المرحلة ، وخاصة في بعض مفاصله السياسية والانعطافية مثل انقلاب 5 نوفمبر ، واتفاق جدة مارس 1970م.
2 ـ شخصية تمتلك ذاتياً كاريزما القائد بالفعل، وليس بالقوة، وبالمصادفة التاريخية البحتة ، فقدت اليمن ثلاثة من اهم الشخصيات القيادية التي تمتلك كاريزما القائد، والزعيم، كان فقدانهم وخسارتهم بالموت المريب في زمن متقارب ، لم يمر بين الأول والثاني، جار الله عمر ، يحيى المتوكل أكثر من بضعة أيام وبعدهم بسنة، فقدنا في حادث مماثل للفقيدين الأولين قد يختلف في الشكل ولكنهما يتوحدان في الهدف (القتل)، في صورة رحيل الأستاذ مجاهد أبو شوارب ، حقاً .. إنها لمن الصدف العجيبة المثيرة لحيرتنا مع سؤال القدر ، أستغفر الله !.
3 ـ قائد سياسي يمتلك قدراً كبيراً من روح الموضوعية ، إضافة إلى قدرة ذهنية حاضرة قادرة على التقاط الجوهري في الأشياء، والأحداث والوقائع من بين جملة واسعة من التفاصيل.
4 ـ قائد سياسي ذو رؤية تاريخية ، أي أنه شخصية فكرية وسياسية قادرة على الربط بين الأحداث والوقائع، والتأسيس عليها في صياغة مواقفه وأفكاره السياسية ، شخص لا يلتقط الجوهري والأساس في الوقائع والأحداث فقط ، بل يربط فيما بينها ليقدم على خلفية ذلك قراءته الخاصة.
5 ـ قائد سياسي يمتلك ذاكرة تاريخية حية ، وحين يتوهم البعض أن ذاكرته تخونه في بعض المواضع أو أنه لم يصب كبد الحقيقة التاريخية ، فإنما يفعل ذلك، أو يتعمد فعل ذلك لأسباب سياسية خاصة به.
6ـ قائد سياسي يمتلك عقلية أو رؤية شمولية في النظر للأشياء، والحقائق والوقائع ، أي أنه ليس عقلية، أحادية تجزيئية في النظر للأمور ، ولوقائع التاريخ تحديداً ، وهي سمة أو ملمح هام من ملامح القائد الناجح ، قليل المثالب والعورات.
7 ـ شخصية تمتلك في ذاتها القدر الكبير من الاستقلالية في التعبير عن نفسها ومواقفها ، أي أنه ليس شخصية تابعة ، سطحية ، ضعيفة ، دون رأي ، ودون كرامة شخصية ، مثل الكثيرين الذين تطفح بهم الحياة السياسية الرسمية اليوم.
8 ـ يمكننا القول إن الفقيد أنجز حالة قطيعة أو بالأصح حالة تحرر من سلطة المذهبية، والسلالية فقد توجه شخصياً على رأس حملة عسكرية إلى حجة وإلى منطقته شهارة . وقام بتدمير منزل أسرته مع أول أسبوع للثورة ، كما أنه لم يكن متعصباً للطائفة ، إذ لم يكن طائفياً ، وهي الطائفية السياسية “الهاشمية السياسية” التي حكمت الشمال سابقاً في الفترة الإمامية، وكان الفقيد المتوكل على صلاته الشخصية بالزعامات المشيخية، والقبلية مع فكرة الدولة الحديثة، وسلطة القانون ، وليس بدون معنى أو تفسير توليه لإدارة وزارة الداخلية ، لمرات متعاقبة، وفي سنوات ومراحل مختلفة. كان واحداً من الداعين الى الدولة الحديثة ، مثله مثل الأستاذ ، محسن العيني ، ولكن ليس كل ما يتمناه العقل يدركه الواقع ، فحقائق الواقع كانت أصلب وأقوى من معادلاتهم النظرية والذهنية.
9 ـ يمكن القول إن يحيى المتوكل يمتلك قدراً كبيراً، وعالياً من روح وشخصية القائد التوافقي ، الذي يجد فيه الكثير من المغايرين له في الرؤية والموقف ، الكثير من القواسم المشتركة ، سياسياً ووطنياً ، وهو ما يفسر علاقته الإنسانية الحميمة بالجميع ، وخاصة بعض قيادات المعارضة البارزين ، ولا أنسى لحظة دفن الشهيد جارالله عمر، وهو على حافة قبره والدموع تذرف من عينيه، وهي لحظة إنسانية عميقة تكشف عن عمق التجلي الإنساني في شخصية هذا القائد الكبير، والإنسان الجميل حياً وفقيداً في ذمة الله ، ودائما الشخصيات التوافقية في التاريخ السياسي والثقافي والاجتماعي ، دائماً ما تكون شخصيات ذات أفق إنساني واسع ، تقبل بسهولة بالآخر ، وتمتلك من الاستعداد الداخلي الكثير للاعتراف بظاهرة التعدد والتنوع ، والحق بالاختلاف ، وهو ما يفسر شخصيته التوافقية.
وعلى خلفية كل ذلك أستطيع القول إنني على اتفاقي أو اختلافي مع بعض ما جاء في الكتاب الحواري ـ خاصة الفصلين الأخيرين السابع ، والثامن منه – يمكنني القول إنني استمتعت معرفياً وتاريخياً بقراءتي للكتاب ، وبالقدرة السياسية، والذهنية والعقلية النافذة للفقيد يحيى المتوكل ، في الغور إلى عمق الأشياء بكلمات بسيطة ، وبلغة سهلة ومركزة ، وبقدرته على الاسترسال بالتفاصيل الصغيرة العادية، ولكن الجوهرية في سياق تجديده لقراءة الظاهرة الاجتماعية والثقافية والسياسية التاريخية ، والتي تكشف عن روحية موضوعية تأريخية جدلية في عقل يحيى المتوكل في النظر إلى الأشياء والوقائع بروحية العقل التاريخي ، عقل سياسي اجتماعي تاريخي يجعل من التفاصيلي كلياً بعد وضعه في سياقه الموضوعي والتاريخي.
وهناك أكثر من دليل على ذلك، أجدني مضطراً إلى إيراد بعضها حتى لا أطيل حول هذه الفكرة، فهو يقول حول نشأته : ” نشأت في بيئة غريبة ، إذ كان معظم الرجال من سكان المدينة يعملون في مدن أخرى ، إما جنوداً أو موظفين أو عمالاً، ولم يكن يسكن هذه المدينة إلا الأطفال والنساء والشيوخ . وفي هذه الأجواء ، كما يقول المتوكل ، كان المجتمع منغلقاً والحياة كانت محدودة ” ص 21.
والاستنتاج الذي يخرج به القارئ ، الباحث من هذه الفقرة الصغيرة محدودة الكلمات هي التالي:
1ـ إن الانغلاق والتخلف كان ظاهرة يمنية في شمال الوطن كله، وبدرجة أساسية في مناطق شمال الشمال.
2 ـ إن المناطق القبلية من شمال الشمال كانت خالية من الرجال، وليس فيها سوى الأطفال والنساء ، والشيوخ ، الرجال غادروا ليعملوا مع الإمامة في جيشها عسكر وعكفة في المركز (صنعاء) ، أو موزعين على مناطق جنوب الشمال، عكفة، وعساكر خطاط وتنافيذ على هذه المناطق الزراعية الفلاحية ، والبعض منهم يعملون قضاة، أو موظفين في الإدارة الخاصة للإمامة ، أو الإدارة العامة المحدودة لسلطته/ لدولته.
ويمكن أن تكون ظاهرة خلو القرى من الرجال هي ظاهرة يمنية، لكن مع اختلاف الأسباب ، ومواقع الهجرة ، فمدن الجنوب تعز ، إب ، التهائم كان رجالها يهجرون قراهم ومدنهم ، ولكن ليس للأسباب ذاتها التي يهاجر على أساسها أو خلفيتها أبناء مناطق حجة أو صعدة ، أو غيرها من مناطق الشمال ، وشمال الشمال ، هجرة تعز وإب ، والتهائم ، كانت في الغالب هجرة جنوبية إلى عدن ، وخارجية إلى المهاجر الأجنبية ، وهي هجرة سببها الظلم المضاعف، والمركب الواقع عليها من الإمام وأعوانه ( العكفة ، والقضاة ، والعمال ) باعتبارها مناطق جباية وخراج . . هي هجرة من العسف والظلم وللبحث عن العمل.
3 ـ إن الحقائق والوقائع التاريخية تقول إن صعدة ، وحجة وذمار ، وغيرها من المناطق القبلية المحيطة بالعاصمة صنعاء كانت هي الحضن الدافئ ، والمرتع الحامي للإمامة تاريخياً ، وهي مناطق قبلية حربية مسلحة امتهنت القتال والحرب وسيلة للعمل والإنتاج ، وكسب الرزق ، وهي عملياً وتاريخياً المناطق التي صاغت معادلة وحدة الإمامة بالبيئة وبالبنية المشيخية القبلية ، “صعدة” كرسي الإمامة الزيدية الهادوية الأول ، و”ذمار” كرسيها الثاني ، وحجة ( الأهنوم ) ، مثلت القاعدة البشرية والذخيرة الحربية العسكرية للإمامة ، وهي المنطقة التي اعتمد عليها بيت حميد الدين تحديداً في قمع التمردات والانتقاضات الفلاحية والقبلية، والسياسية في المناطق المختلفة ، الزرانيق ، المقاطرة ، إلى إنقلاب 1948 ، وصولا ًإلى الحرب الملكية على ثورة 26 سبتمبر 1962 ، وهي منطقة كثيفة التخلف ، وكانت ، كغيرها من المناطق ، تعيش حالة قطيعة شبه كاملة عن الحياة والعصر حتى في مفرداته البسيطة ، وهي منطقة أبقتها الإمامة، ومشائخ القبائل مسلحة بالأمية، وانعدام التعليم ، بقدر ما هي مسلحة بالجند والسلاح.
وفي الواقع لقد أبقت الإمامة ومشائخ القبائل جميع مناطق شمال الشمال في حالة مطبقة من الأمية والجهل والفقر والجوع، والتخلف الذي لا مثيل له حتى زمن قريب ، ويمكننا رؤية ذلك في صورة وضع هذه المناطق حتى اليوم ، حيث استمرت القوى التقليدية الجديدة، الجمهورية “ورثة الإمامة الجدد”، في الحفاظ على هذه المناطق لتعيش بنفس الوتيرة ، سوى ما تم إنجازه بفعل دور الزمن في التاريخ ، وليس بفعل إرادة القوى التقليدية “الإمامة والمشايخ”، في التجديد، والتطوير الذي وقفت ضده وفي مواجهته من أول سنة لقيام الثورة ، وكما يقول يحيى المتوكل كان في المرحلة الإمامية ( يناضلون من أجل هدف واحد هو الكد من أجل لقمة العيش ) ص 21 .
وفي موضع آخر يشرح فيه دخوله إلى صنعاء لأول مرة يقول : ” وجدتها أقل مما كنا نتصورها أو نسمع عنها، فالمدينة كانت خالية من السيارات، ومن المارة، باستثناء سكانها المحدودين ، كما لم تكن هناك حركة تجارية، أو ثقافية بما تتناسب مع عاصمة البلاد ، وكان المبرر لهذا الجمود أنه بعد أن انتقل الإمام أحمد إلى تعز انتقلت معه الحياة التجارية والسياسية إليها ) ص 23 ، وهي ملاحظة سياسية تاريخية ذكية ودقيقة ، تعكس حالة واقع التخلف الكارثي القروسطي الذي كانت تعيشه هذه المناطق، بما فيه العاصمة صنعاء ، تظهر أن لا فارق بين العاصمة وغيرها من مناطق اليمن ـ بدرجات متفاوتة ـ سوى بعض السيارات ، وحركة تجارية وسياسية تستدعيها شروط وجود العاصمة بحدها الأدنى، وما إن انتقل مقر الإمامة من صنعاء بعد انقلاب 1948 إلى تعز حتى بدأ الفارق النوعي بين صنعاء وغيرها من المدن ضئيلاً ومحدوداً.
ومن هنا يبرز تفسير حجم المخاطر السياسية والعملية التي واجهتها ثورة 26 سبتمبر 1962 بعاصمتها المحاصرة بحزام عسكري قبلي، متخلف شكل الوقود البشري والمادي المضاد للثورة، ومن هنا طول فترة الحرب والحصار لعاصمة الثورة، وتهديد إمكانية استمرار بقاء النظام الجمهوري في مرحلة الصراع السياسي بين الجمهورية والملكية من جانب ، وبين أقطاب الجمهوريين في ما بينهم البين.