- كتب: د. قاسم المحبشي
الليلة كنا في ندوة فكرية هامة عن مآلات الحرب الروسية الغربية من وجهة نظر مصرية.. استمعنا إلى مداخلات غاية في الأهمية والجودة الأكاديمية، لأول مرة استمع إلى تحليلات تعرف عن ماذا تتحدث ندوة أدارها الاستاذ الإعلامي المخضرم خالد الكيلاني الذي أخبرني بإنه كان في زيارة عمل إلى عدن قبل أسبوعين، وتحدث فيها القبطان صالح حجازي الخبير البحري والعسكري والأستاذ الإعلامي الكبير أسامة الدليل نائب رئيس تحرير جريدة الأهرام الخبير في الشؤون الجيوبولتيكية، ولما كانت الندوة تتصل بفلسفة التاريخ والحضارة التي تهمني اغتنمت الفرصة للتداخل عن كيف يمكن للعالم العربي أن يجعل من أزمة ميلاد النظام العالم الوشيك الولادة فرصة سانحة لاعادة بناء الذات الحضارية العربية والحضور في عالم متعدد الاقطاب والجغرافيا هي الرهان الاستراتيجي لاعادة التمكين والحضور الفعال.
ما سمعته في الندوة جعلني على يقين من أمري بإن أم الدنيا لم تغمض عينيها على ما يدور في العالم حولها. الحمل ثقيل ولكن ليس هناك غير مصر القادرة على حمله في هذه الأزمة العالمية البالغة الحساسية والخطورة، والمكان هو البعد الأساسي للكائن الحي.. كون، كان، مكان ، كائن، كيان، كينونة، مكين، تمكين وغير ذلك من الأسماء والصفات التي تدل على المكان بوصفه كيانا مشخصا متعينا للعيان. فلا كيان بلا مكان وليس شخصا ذلك الذي لاينتمي إلى أي مكان، فالمكان هو الثابت الدائم الذي يمنح الإنسان كينونته الوجودية في هذا العالم، ولا كينونة خارج المكان، أنه الأرض أو السطح الذي يحتوي الأجسام كلها بوصفها كياناتا وكائناتا محسوسة ملموسة يمكن رؤيتها بالعين المجردة أو بالتلسكوبات الرقمية، فلا شيء خارج الأمكنة التي تحيط بالكائنات من جميع الجهات.. الأمكنة هي لغة الكينونة الأصلية التي تقول كل شيء دون أن تتكلم! صمتها يدل عليها وصخبها يمنحها هويتها.
لغة بصرية وسمعية زاخر بالمعاني الدلالات المفعمة والأسطح والأبعاد والامتدادات والنتوءات والانحدارات والفضاءات والألوان والضلالات بالأنوار والظلمات.. إنها قاع كل شيء وأصل كل كيان من الكون ذاته إلى أصغر ذراته.. للأمكنة سطوتها وسلطتها القاهرة التي يستحيل الهرب منها أو تجاوزها فكل ما تستطيعه الكائنات بإزائها هو التكيف معها بإعادة تأثيثها بالوسائل الممكنة، وهذا هو كل ما يستطيع بلوغه الإنسان في هندسة المكان وتسويسه بما يجعله قابلة للعيش والتمكين أما الحيوانات فهي تعيش المكان بطبيعته الأصلية وبغريزتها الفطرية، الإنسان وحده عبر تاريخ الطويل الذي تمكن من منح المكان ملامحه الإنسانية بالفعل والنشاط والانفعال والبناء والتعمير والتنمية وبهذا المعنى يمكن القول أن الجغرافيا تحضر بصور شتى أما التاريخ فهو ذاكرة الزمان والمكان.. لقد شكّل المكان منذ الكينونة الأولى وما زال يشكّل ويستمر محور الرهان الجيوبوليتيكي في صراع القوى الفاعلة على كوكب الأرض وهذا هو موضوع كتاب روبرت كابلان انتقام المكان، فأين هو موقع الصين والعرب اليوم في صراع الأمكنة وتأكيد حضور الكيان؟ يقول روبرت كابلان: “ثمة مكانٌ جيدٌ لفهمِ الحاضر، ولطرح الأسئلة حولَ المستقبل، وهو أديمُ الأرض، مع السَّفر فوقها بأبطأ ما يمكن”( ينظر, روبرت كابلان، انتقام الجغرافيا، سلسلة عالم المعرفة الكويتية، عدد420، أبريل 2015).
ربما أدركت الصين مبكرا أهمية صراع الأمكنة في عالم اليوم إذ كانت هي التحدي الأبرز للحضارة الغربية الصاعدة من من هشيم الحضارات القديمة ولم تكن حملة نابليون على مصر عام 1798 كما كتب مدني صالح إلا محاولة لقطع الطريق على التنين الصيني الرهيبة الذي إذا ما استعاد عافيته سوف يكتسح العالم اكتساحا سلميا بقواه الناعمة وهذا هو ما نشاهد يتحقق اليوم، فالصين، هذا المارد الهائل الذي بقي كما لو أنه يعيش على هامش العالم، وقد جاءت ملحمة “الأرض الطيبة” رواية الكاتبة الأمريكية بيرل باك لصادرة عام ١٩٣١م لتميط اللثام عن هذا التنين الذي لا يعرف العجز والاستسلام للأقدار حتى وأن اضطر لأكل الأعشاب والتراب، ولعلني أتذكر الآن كيف وصفت الكاتب مشاهد فقراء الصين وهم يتلذذون بأكل التراب بأسلوب آسر ومثير دفعني حينها لتجريب أكل التراب ! الأرض الطيبة ليست مجرد رواية أدبية بل تعد مرآة كاشفة لحقيقة المجتمع الصيني في أعماقه إذ صورته بفقرائه وفلاحيه في الريف، بمشرديه في المدينة، كما بأغنيائه ونمط عيشهم الباذخ، وصورت آلهة ومعتقدات وعادات وأساطير الصين، كما صورت الحياة اليومية بتفاصيلها.
لقد قدمت لنا بيرل باك عبر سرد قصة حياة أسرة عجيبة، مجتمع الريف ومجتمع المدنية، وقدمت لنا نموذجاً لمكافح مرّ عبر كل المستويات الاجتماعية التي تمثل مجتمع الصين.إنها قصة كونية مروية بأسلوب آسر.. فيها شيء عن كل أسرة في كل مجتمع. وذلك ما يجعل منها رواية خالدة في تاريخ الأدب الإنساني العالمي.. ومن يقرأ رواية الأرض سوف يعرف الصين ويفهم سر نهضته وتفوقه وحينها سيبطل عجبه!.