- ضياف البراق
الشيء الأشد مرارةً هو أن تصادف شخصًا يسدي لك نصائح في كل شيء، يجرّعك طوال الوقت نصائحه التافهة أو ثقيلة الدم. هذا النوع من البشر يستطيع تدميرك بمنتهى السهولة، من دون أن يرحمك أبدا. هذا الناصح بمثابة قاتل بلا هوادة، إنه يهجم على مزاجك مثل سلاح بلا رحمة.
لكنني لن أتحدث هنا عن الناصحين والنصائح، ولن أسدي النصيحة لأحد، فلا تقلقوا مني.
معظم الأغبياء يحسنون إسداء النصائح لغيرهم!
سأتحدث عن تلك الحديقة البعيدة عن نظراتكم.
هذه الحديقة الصغيرة أنتم لا تعرفونها مع أنها قريبة إلى قلبي مني، وتقع على بعد مسافة قصيرة من غرفتي، وهي تلازمني باستمرار، مثلها مثل الكتابة، أينما اتجهتُ!
هذه حديقة وليست قصيدة نثر..
إنها مثل شمعة متواضعة يلتهمها ليلٌ طويل الأمد.
هي لغتي الأخرى معظم الأحيان.
لي أصدقاء في كل مكان، لكنهم لا يعرفون هذه الحديقة التقليدية التي تَسكنني، وتحتوي معاناتي، وأنا أغفر لهم هذا الخطأ العادي. بالطبع يمكنكم القول عني إنني إنسان تقليدي بعض الشيء، وذوقي تقليدي دائما، فلستُ مولعًا بضجيج الموضات، ولن أركض عبثًا وراء فقاعات ليس من وراء امتلاكها أي جدوى.
من منظوري الشخصي، لا يوجد خطأ لا يُغتفَر، إنني ألتمس العذر لكل شيء، ونادرًا ما أشعر بالندم على ذلك.
اغفروا لبعضكم البعض، أو ارحلوا إلى الهلاك.
هذه التي أمامكم إنما هي حديقة بسيطة كثيرًا، لكنها تحمل أجمل سمات الحقيقة. وهنالك حدائق عديدة في هذه البلاد لا فائدة من وجودها البتة، لكنني غير ملزم بالكتابة عنها.
أعرف أنني أبالغ كل شيء، خصوصًا عندما أكتب عن نفسي.
لستُ وحدي في هذا، فالناس أو أغلبهم يبالغون عندما يتكلمون عن أنفسهم. والناس يعيشون بالقليل من الصدق، وبالكثير من الكذب، وإلّا كانت حياتهم غير مُحتمَلة بالنسبة إليهم!
الضروري، في هذه اللحظة، هو أن أقول عبارة واحدة مهمة أو يكون لها معنى لا ينفع أحد. ليس لدي أي كلام جديد لأقوله لكم.
لبرهة فقط، إن سمحتم لي، سأعتبر نفسي سقراط، وأقول مثله: أعرف أنني لا أعرف شيئًا.
وأقول كذلك بأنني أعيش مثل بقعة ضوء وحيدة في بلاد كلها ظلام وخراب. واسمحوا لي أن أقول أيضًا بأنكم ضوئي الوحيد، نعم أنتم ضوئي الوحيد أيها الوحيدون مثلي.
منذُ مساءٍ قريب كنتُ أترنّح كعاشق سكران، من دون سبب واضح، وأمرح مع نفسي مثل طائر يسبح في الفضاء المفتوح.
منذ غيمة لم تتشكل بعد من بخار البحيرات، كنتُ غيثًا ينهمر على جميع الجهات، ويرتوي منه الجميع، من غير أن يقولوا له شكرًا أو أي كلمة من قاموس الحب.
المطر الجميل، إذ يهطل عليكم، لا يحتاج منكم إلى امتنان أو اعتذار، وإنما يسعده أن يرى العشب ينبت في أعماقكم القاحلة.
وثمة مطر غزير، وراء هذه الكلمات المُبعثَرة، تشربه أحلامٌ كبيرة لا تتحقق. ومطر آخر، بلا ماء، لكنكم تشربون زخّاته في أحلامكم التي سرعان ما تتحول إلى كوابيس على الضفة الأخرى.
هذه حديقة وليست ثرثرة..
حديقة كائنة بين ضلوع حارة لا كينونة لها. حارة من قطيع بشري لا كان فيما مضى، ولن يكون فيما سيأتي!
- لن يعرفكم الماء أيها التائهون من العطش على ضفاف النهر!
هكذا صرخ الطفل الواقف وحيدًا خلفي، وربما أراد أن يقول لي: - الغبار لا يصير ذهبًا، فلا تحاول!
مدهوشًا، نظرتُ إليه، بنصف استدارة، لكنه كان قد اختفى من موقعه بسرعة عجيبة، وللأسف، لن يعود حتى!
تناسيتُ هذا الموقف المُحزِن، وهذه المرة الأولى التي أنجح فيها في ترويض ذهني وذاكرتي وأصابعي ونبضاني على النسيان السريع. في نهاية المطاف، آفة النسيان ستبتلع كل شيء، حتى هذا النص غير المترابط.
قلتُ: ليتني اختفيتُ من الوجود مثل ذاك الطفل الذكي!
وبعد لحظة صمت، قهقهتُ على فشلي، وسخرتُ من تفاهة اليأس، وضحك معي طفلٌ آخر لم يكن له موضع قدم يقف عليه.
هذه حديقتي وحدي، لأنكم لم تعرفوا قيمتها.
القطيع يغرَق في رَمْلِ العادات والخرافات، ويرجم قطرات المطر بالحجارة.
ومنذُ دمعة، احتضنتُ هذا القطيع، حنوتُ عليه وانحنيتُ له، غافرًا له جميع ذنوبه التي اقترفها بحقي، أمس واليوم وغدًا.
كسرتُ كبريائي، وغفرتُ لنفسي بغفراني لهم.
ومنذ أغنية، عصفتْ بي ريحٌ لعينة، ولم يرقص معي غير شبحي. رقصتُ أنا وشبحي على إيقاع هذه الريح المزمجرة الرهيبة، رقصنا ضد هذه الريح، فتلاشتْ قليلًا.
عاصفةٌ أخرى مُباغِتة ارتطمتْ بها ظلالي الشاردة عني، فتكسّرتْ روحي، روحي الخفيفة كريشة منزوعة من جناح حمامة.
من انكسارات هذه الروح الطيّبة تتكوّن الحكمة، وتنبع الأضواء الأبدية. وبالطبع، لستُ حكيمًا، ولا أطمح إلى امتلاك الحكمة، ربما شيء قليل من الهدوء النفسي، وحسب، يغنيني عن كل شيء.
لا قيمة للحكمة التي تنعدم معها راحة البال.
انتهى مساءٌ وأتى صباحٌ جديد ولمْ ينهض القطيع من الحفرة.
لا يزال هنا، رغم كل ذلك، بصيصٌ من نور.
وصباح اليوم، كنتُ سأحكي لجارتي العزيزة فصلًا مثيرًا من رواية طويلة ولكنها اكتأبتْ فقطعتْ عليَّ هذه الفكرة الرائعة.
وجارتي، كعادتها، إنسانة عظيمة، بلطفها ونقائها وفهمها البسيط، ولهذا تراها لا تكترث أبدًا لما أعرفه عن العظيم سقراط، ولا تعير سمعها لجنوني الشعري الجميل الذي أسكبه على قلبها.
هي تعتقد أنها أكثر منكَ حكمةً وعُمقًا، فلا تزعل منها يا سقراط، واحتسِ قهوتك بهدوء تام.
ومضت لحظة صمت أخرى..
واستيقظتُ فجأةً من حلمي، فرأيتُ جارتي تغلق بابها على نفسها، وذهبتُ أنا إلى شأني الخاص.
لا جارةَ لي يا أهلَ الحقيقةْ
لا حلمَ هنا ولا حديقةْ!
لا أملك في هذه الدنيا سوى خيط من نور، أستنير به، وأعيش من أجل إشاعته بين هؤلاء الذين لا يرون شيئًا حتى في عز النهار.
ضوء صغير جدا، ولا شيء آخر. وجميع شؤوني صغيرة.
والآن حلَّ علينا سواد المساء، ونسيتُ أن أزور شخصًا مريضًا يتألم منذ البارحة بسبب قُرْحة ملعونة بدأت تنخر معدته.
كان ذلك الشخص نفسه لا يزورني عندما يطرحني المرض على الفراش، ولا يسأل عن حالي بين وقت وآخر، ولهذا أحببتُهُ أكثرَ من نفسي!
أعتقد أنني قد أصبحتُ بحاجة ماسة لمزيد من الأصدقاء الذين يشبهون هذا الصديق الممعود.
هبني يا الله أصدقاء لا يمرضون كي لا أكلف نفسي عناء زيارتهم؛ فأنا كائن كسول بالفطرة، أتعب من كل شيء، وأنفي لا يطيق روائح الأدوية الكريهة، وغالبًا لا أقوم بأدنى واجباتي تجاه حياتي الخاصة المحدودة.
أغلقتُ على نفسي بابَ غرفتي الكائنة في الطابق الثاني، وذهبتُ إلى الجحيم. وفي هذه اللحظة، كانت جارتي قد لزمت الصمت المطلَق، وذابت بكاملها وراء ستارة شُبّاكها الحزين.
ها أنا الآن مستمتِعٌ بوجودي بمفردي، أكره الضوضاء كرهًا جارفًا، لكنني عندما أصحو من هذا النوم القصير المتقطع، سأتجول ساعة على الأقل في هذه الشوارع الضيّقة، وأسير مثل كل الناس بلا أي هدف، وقلبي يبتسم للفراغ.
هذه حديقتي وليست مقبرتكم، فاخرجوا منها أيها الموتى!