- بسام المسعودي
كانت الأرض صلدة
ثم فلجها آباؤنا الأولون
فأثمرت أحزاناً للآن تتمادى في جعلنا في بؤس شديد ونحن من قال:
(نحن أولو قوةٍ وأولو بأسٍ شديد)
نسجوا الرمل داخل صدروهم
بوجوه ملطخة بدماء الأرض
وجوهاً كالحة
تفضحها رعدة أفواهها
وجثّة ظلالهم
تجرها الأحصنة المغدورة
تبحث عن قبر لماء عيونهم
يجرون أحزانهم للمقايضة بسعال فرح
في بلاد لها تاريخ مُختصر
ما بين سدها القديم
وأسفار أهلها المصابون بمتلازمة الحرب
والحب.
كانت نسوة القرى
يجمعن هسيس الريح من الجبل
وحين تجمع الصبح حول مواقدهن
أحرقن أصابعهن
وبِعْنَ للإنطفاء قصة الصرير والغيمة
حتى بدت على مناجل الجدات علامات الصدأ
حينها هجر الرجال القرى إلى مدينة عدن مدججين بأغنية
(يا نجم يا سامر فوق المصلىٰ
كُل معه محبوبه وأنا لي الله)¹
وعادوا حاملين
على شغافهم
(ارجع لحولك كم دعك تسقي
ورد الربيع من له سواك يجني)²
منذ طفولتنا
ونحن نعيش في قرى بعيدة
داخل بيوت شائخة
تتسربِ المياهِ من سقوفها
والكثير من غناءِ البلل
داخل حجراتها البائسةِ المليئة برائحة التراب،
قرانا موصوفة بحياة باردة
وصلتها الأشياء الدافئة من مدن بعيدة وجبالها الشرسة لم ترحم بيوتها
ملأتها بآلام الضجر والريح.
لسنا بذلك الغموض الذي
يسعد الجفاف ولا مراوغين بما فيه الكفاية
كي يفلت منا المجاز
وتسقط عنا أغاني الماء،
فماضينا مختلف،مغاير لمواعيد وصولنا
أمام أبواب بيوتنا القديمة
مغاير لصوت مفاتيحها
حين كانت تغلقها أمهاتنا
كانت المقابض خشبية
وكنا نلبس ثيابًا رثة
ثياباً تخون قربنا من الكساء والفُرجة.
يخشخش الوقت داخل أرواحنا
حتى يتوقف المطر
ونسلو بالوحل – نحن ابناء الويل والمناجاة – بأوارق من فئة الحظ السيء
فلم نجد الأوقات اللطيفة
لنمسدها على المذبحة المنصوبة
عند مداخل القرى
فالوجع وجعنا والوقت كالسيف قالها أباؤنا الأولون.
لقد غير نظرتنا لموعد المطر
ذاتِ الكمياتِ التي تعين حقولنا على النهوض
كميات صالحة
لأن تُقدّمْ لعطشنا
وللحيوانات التي تحب أن تشرب من مجرى أوجاعنا
فصارت أيامنا الفارغة
تتكاثر
يتقاطر منها الحزن ذاهبًا
إلى سوادِ أعيننا
ولم ندرك أن كل هذا الحزن سيخف
حين امتلأت مطابخنا بشعث الدقيق وأواني الأكل التي لا تثق بمستقبل شبعنا
لا تثق إلا بجوعنا الذي يعرفه الله.
لقد تحولت أيامنا ذات حلم عابر إلى خوذات تلبسها رؤوسنا
ثم نركض
ككائنات غريبة
تحاول العبور مع المطر إلى سقف الحياة
والأيام التي تسير بنا نحو المستقبل الغائم مجرد أحلام ضاعت معانيها منذ صباح لم تشرق شمسه.
نحن الجالسون في الشوارع الضيقة
على المقاهي القديمة
أهل الحال الضيق
فرحون بالسكينة
لا أذان لجدران الأمكنة
ولا عيون كي نتفسح بنظراتها
ندع كل شيء ينهمر
ُالأمل العاصف
مكبات لركضنا
وللظنون الذّاوية حول أرواحنا
ولافتات عَن أقدار النضال والحرب
زخات الأمل تَرُش المكان
نحن الجالسون نعلق الرايات الخاسرة وقدور طعامنا صدئة،
الفرح أقسى ما وقع على أمكنتنا
يخرج من الأرض الموات
يمزجنا بالرغبة بالحياة ويحرّك
جذورنا الخاملة بفصل السلام المحسوس داخل أحزاننا.
هلِ الَموتُ
يَنبضُ تَحت قُمصان أجسادنا؟
هل نحنُ من شَرِبَ نَّخب التاريخ تكريماً لكلّ الحكايا
هل نحنُ خطوات عاثرة أمام الصدفة من السلام
أم أنّنا طريق طويل لكل هذا الدمار؟
نحنُ قصّةٌ مريبةٌ،مُستكشِفةٌ وحقيقية،
نحنُ حزنٌ عميقٌ،مقاساته لا تتجاوز غمامة الأيّام،
نحنُ فرحٌ وبكاء امتزجا
ببساطة وإخلاص لجدنا ومنزله الطيني
وحين مات ورثنا عنه القدرة
على أن نجد قوت يومنا وماءً صالحاً للشرب ومأوىً منهك في وطن
ينام في العراء وحيداً.
تنادينا الحياة:
تعالوا أيها القرويون
المتعبون
الغائبون
الحالمون بالحياة والبراءة
تعالوا لمائدة الويل
فها هى مرايا أيامكم شائخة (تطفح بالشقوق)
وفى مطابخكم مآسي ووجل قديم
لا يترككم تعيشون
لأجل قليل من الأيام الآسنة ولا مجد يجعل قراكم
عالية
تعانق السلام العابر على بلاد كلما غفت الحرب فيها أيقظتها حكمة أهلها.
- 1- مطلع أغنية والمُصّلىٰ اسم لجبل.
- 2 – مقطع من أغنية يمنية.





