- عبدالرحيم الخصار
دخل أمجد ناصر إلى أرض الشعر من بابه المفجع، واختار أن يبدأ من حيث ينتهي
الآخرون. لقد كان الموت خطوتَه الأولى في هذه الأرض التي عادة ما يلِجُها
الشعراء بحماس الشباب وتوهج المشاعر، مدجّجين بالآمال التي يعقدونها على
الكتابة نفسها، ومن ثمة على امتداداتها في الحياة. أمجد ناصر بدأ بالموت.
هذا ما تقوله الأسطر الأولى من النص الذي كان عنوانا لمجموعته الشعرية
الأولى «مديح لمقهى آخر»:
«بوسعك،
أنت الذي لا يكلّ من الارتهان
بوسعك أن ترحل الآن:
لا وجهة
لا حقائبَ
لا ماء في جرة العُمر
لا زوجة في الثياب النظيفة
لا مطر في المسالك
لا نجمة في الفضاء الذي يكسرُ الظَهر
منذ انحسار الرضا
صحيح!
ولكنه كفن واحد ثم ترتاح».
قد يخيّل إلى قارئ هذه الأسطر أن كاتبها يقف على الأدراج الأخيرة في سلم
الحياة، بعد أن استبد به تعب الصعود. لكنها كلمات شاعر في بداياته، ودون
الرابعة والعشرين من عمره. لذلك يتوقع القارئ منه أن يجعل الموت موضوعا
مرجأ، على الأقل في عمله الشعري الأول. يبدو أن الشاعر قد عقد صداقة مبكرة
مع الموت، كأنما تشرّب باكرا فكرة فرويد المرعبة: «كل أشكال الحياة هدفها
الموت». مهمة الشاعر في الغالب هي ألا يساير القارئ بالضرورة، بل أن يباغته ويكسر أفق تلقيه، لكن لماذا الموت في «الكتابة الأولى»؟ ولماذا يختار
الشاعر أن يدخل منازل الشعر من الأبواب والردهات الأكثر عتمة؟ لا يتأخر
علينا أمجد ناصر في الجواب. فبعد أسطر قليلة من «مديح لمقهى آخر» نجده،
يبرّر في النص ذاته، هذا الاختيار:
«أي القصائد لم تبتدئ بالأنا واليباس؟
وأي الرياح التي لا تهبُّ على غرّتي؟
لم تكن رغبة في عبور الضبابات والمطر
المتساقط في العين ولكنه الجسد المتواثب يحملني
للنشيد أو الانتحار».
تطلّ علينا هذه الأنا اليائسة في معظم كتابات أمجد ناصر، لكننا أمام يأس
موضوعي، تقف وراءه ذات غير منبهرة بالضوء العابر، ذاتٌ ألِفت الترحال،
وصارت لديها الأماكن شبيهة ببعضها. يأس لا ينتظر صاحبه تعاطفًا ما، فهو يرى أنه منقاد إليه لدوافع وجودية، وليس أمامه سوى التماهي به.
هذه
المشاعر الفجائعية التي استبدت بالشاعر منذ بداياته، ليس لها، حسب نصه، سوى طريقين، وعليه أن يحسم باكرا مسعاه: إما أن يعمل على تصريفها في الكتابة
«النشيد»، أو يستسلم لها حتى تنفجر بداخله (الانتحار). لكنّ الكتابة في
نهاية المطاف ليست سوى وجه آخر للانتحار، إنها انتحار بالتقسيط، على الأرجح هي تأجيل للموت.
غير أن الموت لا يحضر في نصوص الشاعر كفزّاعة في حقل
الحياة، أو كضيف ثقيل غير مرحب به، بل كصديق قريب، وصنو للحياة. وهنا
يتقاطع الشاعر مع قناعة جيم موريسون الذي غادر الحياة قبل الثلاثين،
القناعة التي جاءت على صيغة تساؤل: «أليس هذا أمرا غريبا؟ الناس يخشون
الموت أكثر من الحياة، مع أنّ الحياة تؤذينا أكثر».
ما يراه كثيرون
ذهابا مبكرا من لدن الشاعر إلى الموت، أراه ذهابا مبكرا إلى الشعر. أليس
الموت اختبارا ومحكا حقيقيا للكتابة الشعرية؟ بعد أربعين عاما على صدور
عمله الأول «مديح لمقهى آخر» يعود أمجد ناصر في عمله الشعري الأحدث «مملكة
آدم» 2019 إلى إعادة طرح سؤاله القديم عن الموت بصيغة أخرى:
«كم يدا للموت؟
كم ذراعا؟
كم قدما؟
كم قرنَ استشعار
ليستطيع التنقل
بين وجوهٍ لا أسماء لها
وأسماء لا وجوه لها؟
على أي توقيت يشتغل؟
هل يملك ساعة منبّه؟».
إذا كان حضور الموت مرتبطا، في الكتاب الأول، بتبرير أسبابه وسياقاته، فهو حاضر، في الكتاب الأخير، كأسئلة دقيقة حول شكله وتوقيته وتفاصيله. كأن
الشاعر خرج من ذلك الضباب الوجودي الذي تفرضه سطوة الموت، ليحوله إلى كائن
يمكن لمسُه وتحسُّسُ هيئته.
في «مملكة آدم» ينصرف أمجد ناصر إلى وصف
مشاهد قيامية يكتشف فيها الشاعر جسده في العالم الآخر، بعد صحوه من الموت.
وهو ينقل ظلام العالم السفلي الذي كان يعيش فيه إلى مخلوقات العالم الآخر،
لا يفرط في أسئلته التي يريد أن يجد لها معنى. على الرغم من تعاقب الأهوال، يذهب الشاعر بالقلق إلى أقصاه، ويرفع هناك لافتة احتجاج مذهولا من «ماءٍ
ينزّ من كتف جبل» و»هرولة الأشجار عاريةً أمام الجميع». في ما يشبه نشيدا
من النوستالجيا الجارحة، يستدعي الشاعر أمّه الراحلة، كي تنوحَ على الموتى
الذين تراكموا في هذه القيامة المريبة، القيامة التي تحضر شعريا كما لو
أنها نهاية حرب:
«موتى يدفعون موتى، ظانّين أن هناك ملجأ من هذه القيامة الغادرة التي فاجأتهم في ثياب النوم».
يُفرد الشاعر الأجزاء الأخيرة من «مملكة آدم» لنقل مشاهد من الجحيم، حيث
يتعذب أولئك الذين غاصت أقدامهم في الخطايا، حين كانوا على الأرض، حتى
الشعراء لم يسلموا من العقاب، لاسيما أولئك الذين سرقوا أعمال غيرهم،
والذين «سدّوا الطريق على الشعراء الشباب». المشاهد التي يحفل بها الكتاب
تتمازج فيها القسوة مع الكوميديا السوداء، ويبدو أن الشاعر استند في نقل
تلك المشاهد إلى مرجعين أشار إليهما في نصّه الملحمي، هما دانتي والمعرّي.
غير أن ثمة مرجعا آخر هو الجحيم الأرضي الذي عاشه الكاتب. فهذه الحياة
الراهنة الطافحة بالسيريالية تتجاوز أحيانا حدود الخيال والافتراض. في
النهاية، يحسّ قارئ تجربة أمجد ناصر، قديمها وجديدها، أنه إذا كان هناك
عنصر في هذا الكون بمقدوره الانتصار على الموت، فهو الشعر.