- كتب: عبدالباري طاهر
تعود بداية “مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر” في مشروعها الفكري الخاص، والثقافي العام، ومشروعها في النشر إلى العام 2007. وجدير بالذكر أن مطلع القرن الحادي والعشرين هو بداية الانعطافة الكبرى للخلاص من الدكتاتوريات العربية، وأفول نجم الانقلابات العسكرية، والشرعيات الثورية، وبزوغ نجم الربيع العربي الذي بدأ من تونس في 17 ديسمبر 2010، وامتدت رياحه إلى ميدان التحرير في مصر25 يناير 2011، وامتد إلى عموم الأرض العربية من الماء إلى الماء.
يترافق وضع اللبنات الأولى لهذه المؤسسة الريادية، مع تراخي القبضة الشمولية، وظهور التيارات المدنية والديمقراطية الداعية إلى الحرية، والعدل، والتحديث، والمواطنة.
البداية الباكرة كانت على شكل منتدى وموقع الكتروني أُسمِيَ حينها “فنون الثقافية”، واحتوى على أكثر من عشرين منتدىً يهتم بجوانب متعددة في الفكر، والأدب، والفنون، والسياسة، وتتناول المنتديات الشعر، والسرد، والنقد، والصحافة، والترجمة، والفن، كما أن نشاط الأندية انفتح على أنواع وألوان الإبداع الأدبي في أدق التفاصيل؛ وصولاً إلى بهاء الأماكن، وأدب الرحلات.
استضافت المنتديات- خلال أنشطتها- العديد من المفكرين، والمثقفين، والأدباء، والباحثين، من مختلف الدولة العربية، ومنهم المفكر عبد الوهاب المسيري صاحب “موسوعة اليهود واليهودية”، وأجرت أروقة عدة حوارات معهم صدرت في كتب عدة.
يذكر القائمون على المنتديات أن هذه الأنشطة لم تستمر سوى عام واحد، تحولت بعدها أو أنشئت مؤسسة “أروقة للدراسة والترجمة والنشر” منذ نهايات العام 2008.
أصبحت المؤسسة تنشط في مسارين، الأول: إصدار الدراسات، والأبحاث، والترجمة، والنشر لألوان وأنواع الإبداع الأدبي والثقافي في التاريخ، والسياسة، والفنون، وقد نشرت المؤسسة أكثر من ألف وخمسمئة عنوان في هذه المجالات.
المسار الثاني: إقامة الندوات، والمحاضرات، والنقاشات الفكرية والأدبيةـ، والمهرجانات، والمؤتمرات، بالإضافة إلى الاشتراك في المعارض العربية والدولية. لقد عملت المؤسسة الثقافية المدنية كمعادل موضوعي للوطن اليمني، وبديلاً عن غياب وزارات ومؤسسات الثقافة، ومراكز البحث، ودور النشر، خصوصًا بعد أن ألغت الحرب الحياة برمتها، وقضت على الهامش الضيق للحريات، والتفتح المحدود جدًا لحرية الرأي، والبحث، والنشر.
عملت المؤسسة الثقافية الرائدة حول مجالات فكرية وأدبية متنوعة ومتعددة، ومنها موضوع ما بعد الحداثة؛ حيث طرحت ما كتبه المفكر المصري إيهاب حسين بـ”تجاوز ما بعد الحداثة”، وجرت نقاشات عديدة حوله، ونجم عن النقاش “ملتقى النص الجديد”- “ما بعد قصيدة النثر”، وتوسع ليصبح “ما بعد الحداثة”.
أقيم المتلقي في القاهرة، بالتعاون مع اتحاد كتاب مصر، ورأس الملتقى المفكر سيد ياسين، وحضر الملتقى أكثر من ستين مفكرًا، وأديبًا، وفنانًا، وشاعرًا، وأقيمت دورة ثانية للملتقى بالتعاون مع المجلس الأعلى للثقافة في مصر، ورأسها عالم الاجتماع أحمد أبو زيد، ودورة ثالثة رأسها الدكتور نبيل علي، والمفكر الأمريكي راؤول ايشلمان، وقد تمت ترجمة أحد كتبه بالتزامن مع الملتقى كإصدار خاص بالدورة.
كانت ثمرة الملتقيات الثلاثة حول الحداثة وما بعدها، والحوارات العميقة عدة إصدارات، هي أهم سلاسل النشر التي اختصت بها أروقة، وقد تضمنت موضوعات نظريات جديدة ظهرت بعد العام 2000، ومنها مباحث غاية في الأهمية في الفكر عامة، وفي التربية والسياسة، والاقتصاد، والإعلام، والأدب. وأجرت أروقة نقاشات عديدة حول الترجمة، وما ترجم إلى العربية تحديدًا، وهناك الكثير لم يترجم، ويحتاج بعضها إلى إعادة ترجمة.
نجم عن هذه النقاشات عدة إصدارات عن الفكر التقدمي، وحول ماركس، ولينين، والماركسية. لاحظت المؤسسة بعد 2014 أن الحرب في اليمن قد أضرت بالحياة الأدبية الثقافية، بل والحياة برمتها؛ فعملت على تكثيف الإصدارات اليمنية، إضافة إلى وصل الإنسان اليمني بالمؤسسات التي تدعم الإبداع، وتعمل على تقديم الكتاب اليمني، مع المساعدة في الحصول على عائدات النشر، والعمل على توفير دعوات المبدعين للفعاليات خارج اليمن، والحصول على عروض في مجالات ثقافية، وإرسال الكتب إلى النقاد العرب، وتكليف بعض المبدعين اليمنيين بكتابة بعض الموضوعات، وتكليف باحثين لإعداد دراسات عن القضايا شديدة الأهمية، مثل قضية السفينة صافر.
تواجه المؤسسة الرائدة التي تضطلع بدور رائع، وتعوض الغياب اليمني الرسمي في الوقت الراهن- ظروفًا غاية في القسوة يدفعها للعجز عن القيام بالمهام والمسئوليات الكبيرة التي تصدت لها، في ظل غياب الدعم من الجهات اليمنية، وعدم التفاعل مع المشروع من قبل الأطراف المعنية في الوطن، كما تواجه المؤسسة عجزًا ماليًا، وفي ظل إغلاق أبواب الحياة الأدبية والثقافية، وردم منابع الفكر والإبداع، وتعطيل دور الطباعة والنشر، وانعزال اليمن بالحصار الشامل عن العالم ومحيطها العربي- أصبحت أروقة هي الرئة النقية والوحيدة التي يتنفس منها المبدعون اليمنيون، والباحثون والمثقفون هواءً صحيًا ونقيًا، ويستطيعون قراءة أنفسهم، والتواصل مع الآخر.
استطاعت أروقة- المؤسسة الثقافية المدنية ذات الإمكانات المحدودة، والقدرات البسيطة القائمة على الجهد الذاتي، استطاعت هذه المؤسسة الفقيرة الموارد، والمحرومة من الدعم- أن تضطلع بدور لا يقل أهميةً عن دور “دار الهمداني” في اليمن الديمقراطية، والتي كانت هي الأخرى محدودة الموارد، وتضارع أيضًا الدور الذي قامت به وزارة الإعلام في الـ ج. ع. ي. اليمنية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي في مشروع “المئة كتاب”، أو مشروع الهيئة العامة للكتاب في عهد الرئيس صالح، رغم الإمكانات الباذخة.
لا ينبغي التقليل من دور دار الهمداني في جنوب الوطن، أو وزارة الإعلام، أو الهيئة العامة للكتاب في الـ ج. ع. ي، ولكن ما يميز دور مؤسسة أروقة أنها مؤسسة مدنية قائمة على جهد متطوعين يبذلون جل جهدهم ووقتهم في نشر الثقافة الوطنية، وإحياء التراث والتاريخ اليمني، ويفتحون قنوات للتواصل مع الوطن العربي والعالم، نيابة عن بلدهم اليمني المحاصر والمحروب شمالاً وجنوبًا.