- كتب: محمود ياسين
الطريق إلى تهامة
لا تحاول عدَّ المنعطفات حتى لا تتقيأ على الراكب أمامك!..
فالطريق من صنعاء إلى الحديدة يشبه أمعاء بغل!.. وإذا نظرت إلى الخلف فستجد جميع ركاب الباص وقد انقلبت سحنة وجوههم باشمئزاز جماعي، وكأنهم فرغوا من ابتلاع جرعة ملح إنجليزي.. أي طريق لعين هذا؟
ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فقد انهمك اثنان من الركاب في تجاهل مشاعر الغثيان، وراحا يستعرضان ثقافتهما القبلية، إذ لم يكفّا عن حديث الثأر والمحدش والزامل، وكأننا في الطريق إلى جحانة، وليس إلى الحديدة؛ حيث السلام المجاني والبؤس والبحر والدراجات النارية.
جبال تخبئ الخوف، وجن طاعنون في الشر يحملقون من وراء الطبيعة، واخضرار شجيرات متوحشة لا توحي بالعطاء والأمان الأخضر. الباص ينزلق وكأنه يحاول الإفلات من قبضة الجبال.
ومن خميس بني سعد تنبعث روائح الأسواق البدائية، وإيماءات ما بعد صلاة العصر.. ونكهة الجبن البلدي.
هذا هو وادي سردود إذن.. فيه ماء وزرع وموز وجرار ماء وغاسلات ثياب.. لا يجف ماء وادي سردود طوال العام، وهو أحد أهم أودية اليمن التي تصب في البحر الأحمر.. غير أن مردوده لا يكاد يكفي هذه التجمعات الزاهدة البخيلة.
ومن “باب الناقة” بدأت تهامة في التدفق على هيئة عشش وأجساد مشققة، وبدأت رياح البحر ورائحة التعب.
حاولت رؤية جمال عبدالناصر على قمة الجبل الذي يلي “باب الناقة” بقليل.. غير أنني فشلت، مع أنهم أكدوا لي وجود تلك الظاهرة، حيث تتشكل تضاريس القمة على هيئة وجه عبدالناصر.. وما ذنبي أنا ربما يكون الفاعل هو عوامل التعرية والتحولات العنيفة، فتخلى الجبل عن أحلامه القومية وأصبح بلا ملامح.
عادت وجوه الركاب تحاول استعادة ملامحها الطبيعية، إذ بدأت المنعطفات البغيضة في التلاشي، وأفضى بنا الطريق إلى أول حاضرة في تهامة، إنها باجل التي كانت بالنسبة لي تعني المصانع والفول السيئ، وذكريات لزجة لصديقي جمال أنعم.
هذه هي مداخن مصنع الإسمنت الشهير، ومصانع المعلبات في مدينة شحيحة.
ذات زمن سخي، تقاطر عليها كثيرون من أبناء اليمن، بحثاً عن استرخاء غير مكلف وغير مجدٍ.. إذ كانت باجل محطة تجارية في طريق السعودية القديم.. حرض.. جيزان.
في شارع صنعاء أول حكايا باجل الحاضرة الجديدة التي أنشأها الرصيف الأسود، وشيدها الطارئون.. ركام من الإسمنت، لوكندات، ورش، وزيوت، وكسل، ومشروعات كانت، وحياة توقفت بتوقف العربات، وأحلام ظامئة تهاوت على أشلاء الرصيف الملتهب.
منهم من أفلس وانتهى إلى سجين، وآخر “قرح فيوز” أو “قطع جواز”.
أدرك الآن سر التحس المقيم على رأس صديقي.
وكأتي به يطل من فوق كوبري النيل عندما كان يدرس في القاهرة، يطل بأنفه المعقوف، وينشد بصوته القميء:
ما تيمتني في الكنانة غادة
بل تيمتني في تهامة باجل
لم تنسني إياك مصر بحسنها
أبداً ولا شغلتني عنك شواغل
فلأنت في عيني الملاحة كلها
ولأنت في عيني الجمال الكامل
أين الجمال وأين جماله وأين وأين باجل..! ربما تجعل الغربة من الوطن خلاصة الجمال، لكن المقارنة مجحفة بحق قاهرة المعز لدين الله.
ومع خروجك من باجل لن تعدم صوتاً يردد المثل الشهير “لا يدخل باجل إلا تاجر أو فاجر أو عاصي والديه”. أدري الآن أي هؤلاء، كان صديقي..
ولن تعدم أمنية اللحاق بالشمس ومشاركتها نشوة الاسترخاء على وسائد البحر..
يمتد الطريق غرباً وعلى جانبيه تسيح الإقطاعيات ببذخ.. مساحات شاسعة وأسلاك وحدود بين مستثمرين ورجال أعمال ورجال دولة.
بعضهم حصل على إقطاعيته كهدية أو مكافأة ما قبل نهاية الخدمة، وآخر بوضع اليد.. أو اشتراها من أولئك الذين وقعوا في فخ بنك التسليف وأقساطه المرهقة، فباعوها بثمن بخس.
هذا التجمع البائس إلى يمينك اسمه “القطيع”. أهم معالم القطيع هو مصنع الكندا دراي، كأحد أقدم مصانع المياه الغازية في اليمن.
حاول نسيان الإقطاعيات والكندا دراي، فها هي “المراوعة” مدينة العلماء والشعراء والمساجد، التي أصبحت الآن مدينة القات الشامي واللحم المندي والأوبئة المستوطنة وأصداء مواويل “امكتحل”.
وامكتحل ليس خرافة ولا فلكلور، لا شاعر بلاط، ولا صعلوك فاتك.
هو موال طويل وحزين على هيئة فنان أعمى يقود فرقة عمياء متجولة، أحدهم يعزف على الناي، وآخر يضرب على الدف، في حين يقود “امكتحل” فرقته على إيقاع “تنكته” الشهيرة.. الأعمى الرابع يحمل الكرتونة التي تتجمع في قاعها قروش “السميعة”.
وهكذا كان صوت امكتحل يشرخ قلب الجدب والتجهم، وتردد الذاكرة موالاً كسيراً:
“سبأة جداية أدو.. وامخلف جدى امزهرة”.
ما أروع أشجانه المكحتلية وأمانيه تجاه حبيبته “أم إيده”، يتمنى أن يكون قلادة على صدرها أو حماراً تركب عليه:
“يا ليتني دبلولو.. شدير بصدر أم إيده
يا ليتني جحبور. تركب أليا أم إيده”.
صدمة البحر
وكالعادة، وصلت متأخراً أحدق ببلاهة (ذات الشعور الذي يدهمك عندما تصل مدينة ساحيلة لا ينتظرك فيها أحد).
تصدمك الحديدة بلامبالاتها تجاه تشريفك الكريم.. بنكهة البؤس وعطن الحياة التي أكلتها ملوحة البحر.. بحشود متسولي المحطات، وبحشرجات الدراجات النارية.. أنا الآن أمام فرع البنك المركزي، ولا تسألني عن شوارع الحديدة وأحيائها، فأنا متعب ووحيد، وقد نسيت ما يثبت هويتي في صنعاء.. لا أحد سوى البحر ينتظرك في الحديدة.
يسمون هذه المنطقة “الكورنيش”.. ليس فيها شيء غير الفلل وأنا والبحر.
تشعر أن الفلل تهمس.. تمارس ترفها بهدوء من يخشى تطفل المتسولين.. كأن فيها أصحاب الجنة “إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين”، هذه هي الحياة: ثري ومتسول وبينهما غريب يبحث عن سبب وجيه لقدومه.
البحر في المساء يوحي بدنو الأجل، وفرجينيا وولف كانت محقة تماماً، ولذلك انتحرت: “بالفعل: إنه همس الموت أمام دمدمة البحر الأبدية..”.
تشعر بخوف لذيذ، يجتاحك الفقد، وتذكر الأحبة الذين ماتوا، والأحبة الذين سيموتون.. توغل بعيداً لترى الغرقى والزوارق الحائرة المنهكة.. تتذكر الأمير الذي ابتلعه البحر وهو يحاول إنقاذ صديقه “البدر بن الإمام يحيى حميد الدين”.
في المساء يفقد المسافرون مرافئهم، ويستعصي البحر على الترويض.. من السخف ساعتها الحديث عن أشياء مثل “عروس البحر الأحمر، يمخرون عباب البحر، السمك اللذيذ، الميناء والبضائع والأرصفة، الحاويات، طيور النورس، القبطان”. في المساء يعود البحر إلى ما قبل 10 آلاف عام، كائناً عملاقاً غامضاً يعاني الأرق..
وممارسة الأرق في أحد فنادق الحديدة، تعني 5000 ريال، وبطاقة شخصية، وكلاهما مستحيل.. والنوم على الساحل مجازفة غير مأمونة.. إذن، تسكع في انتظار معجزة.
وحيداً على الرصيف
أما هؤلاء الذين استباحهم الرصيف، فحكاية أخرى، ينامون كيفما اتفق، لأن ليس لهم مأوى، وينبغي أن يناموا.. أحدهم بنى لنفسه بيتاً بلا سقف، يتكون من البلوك التالف والكراتين التي تحتفظ بأشهر الماركات العالمية.. ألتقط الصور والعجوز يستعد للنوم على الرصيف بجسده المعروف، ونظرة الاستسلام المريع في عينيه التعبتين، ولد وحده، وتألم وحده، ونام على الرصيف وحده، وكذلك سيموت وحده، كما فعل أحد جيرانه قبل شهور، إذ طلع الصباح على عجوز ميت في حضن الرصيف، لم يعرفوا له اسماً ولا وطناً، مات بغير هوية، ولم يعد من يهيل عليه التراب، بينما ظل البحر يهدر، والسفن تفرغ الحاويات، والدراجات النارية تزعق، وأتى المساء فاحتل عجوز آخر ناصية الرصيف في انتظار موت اعتيادي.
لا أدري عن أي مكتب كان يتحدث ذلك الشاب.. قال إنه سيأخذني إلى المكتب لأنني ألتقط صوراً فوتوغرافية تسيء لسمعة الوطن.. نظرته باردة كغيره من رجال الأمن الخاص الذين يرتدون ملابس مدنية. أحدق فيه وأنا أتذكر قصيدة “المخبر” ليوسف الشحاري، التي كتبها في الستينيات.
قلت كلاماً كثيراً من ضمنه “مهنتي، نوافذ، بؤساء”.. والخلاصة أنه بهذلني وانطلق بدراجته النارية مسرعاً كمن تذكر موعداً هاماً.
أنا لا أبكي لأنه قهرني.. لكن لأنني مثلهم بلا مأوى، أو ربما بسبب ضغوط نفسية وهزائم قديمة حولتها الحديدة إلى موقف إنساني.
سيكولوجيا الحديدة
أهل الحديدة طيبون بؤساء مسالمون، يحيون يومهم بعيداً عن احتمالات الغد، وأشياء أخرى جئت بها من صنعاء، وتأكد لي أن الأحكام المسبقة على الأشياء ليست عادة سيئة دائماً.. فالحديدة رغم لامبالاتها إزاء الوافدين، إلا أنها تفعل ذلك بيأس الفقير الذي لم يعد يأبه للآخرين. وعلى كلٍّ، فالحديدة تشبه أطفال العالم الثالث تماماً في بؤسهم ولامبالاتهم.. في قدرتهم على إثارة المشاعر الإنسانية.
شاي بالحليب، فول، فتة، صيد.. هكذا عشاء رطب يشبه المباني الرطبة والأجساد المهدودة.
تسمع كلمات ما أنزل الله بها من سلطان، كلمات فيها وهن وطيبة قلب.. ومن بين طلاسم كثيرة سمعت اسمي واسم “نوافذ” من خلال حديث شابين يبدو عليهما مظهر خريجي معاهد التعليم العالي للمعلمين.
سمعت ذلك بوضوح، ورغم أنني كاتب مغمور، فقد تذكرت ما قاله تشيخوف عن الأسماء المعروفة التي اخترعوها لتحيا بعيداً عن أصحابها، فها أنا مقهور ووحيد لا أملك فعل شيء سوى “زيد واحد شاهي حليب”، بينما يتجول اسمي في الحديدة خالي البال كسائح من الدرجة الثانية.
وتلك هي سيكولوجيا الحديدة.. وعدواها النفسية.. إذ تتفنن هذه المدينة في تفجير آدمية الوافدين إليها.. تحولك الحديدة إلى حزن.. تتذكر كل الإهانات التي لحقت بك منذ زمن.. تقصيرك تجاه زوجتك وأطفالك.. مخاوفك ونقاط ضعفك، كل ما من شأنه دفعك إلى الانحياز إلى كل ما هو ضعيف ويتيم.
وكأن المدينة قد يئست من أبنائها الذين فقدوا القدرة على الإنحياز.. وأمسوا كاليوجاويين لا يغضبون، ولا يحبون، ولا يكرهون، ولا يخافون الغد، كما أنهم غير آسفين إزاء الماضي، فلا تجد الحديدة سوى الوافدين لتمارس عليهم ضغط شحناتها العاطفية، وتحيلهم إلى بلهاء في بؤرة الألم.. إلى أن أتى عبر الهاتف صوت مفضل إسماعيل غالب.. الذي انتشلني من متاعبي بروحه المرحة الكريمة.. ما أروع مفضل.. فقد نسيت بصحبته كل متاعب المساء. ومفضل مذيع سابق، وشاعر ومثقف موسوعي.
حساب التاريخ
تقع الحديدة على بعد 226كم غرباً من صنعاء. وهي طفلة بحساب عمر التاريخ، فنشأتها تعود إلى القرن الثامن الهجري، حسب “الموسوعة اليمنية”.
بدأت كمنطقة صيد، ويقال إن اسمها جاء من اسم امرأة كانت تعد القهوة والعشاء للصيادين.
في العام 1455؛ بدأت تستقبل السفن أيام مطاردة الجراكسة للسفن البرتغالية، دفاعاً عن سواحل البحر، في عهد عامر بن عبدالوهاب الطاهري، وقد غزاها المصريون في عهد الجركسي قنصوة الغوري.
ثم اتخذها الأتراك قاعدة للانطلاق إلى بقية مدن اليمن، إبان العودة الثانية لهم، في عام 1872، وما لبثوا أن بنوا أول رصيف لاستقبال السفن عام 1881.
تعرضت أكثر من مرة لنيران مدافع الإمبراطوريات المتصارعة على البحر الأحمر، فقد قصفتها مدافع الأسطول الإيطالي في العام 1911، مناصرة للأدارسة.
وكذلك فعلت المدافع البريطانية بأحياء الحديدة في الفترة ما بين 1915 و1919.
وفي عام 1923 تسلمها محمد الإدريسي من البريطانيين، وما لبث الإمام يحيى حميد الدين أن انتزعها منه في نفس العام، لتدخلها القوات السعودية في العام 1934، كنتيجة للحرب اليمنية السعودية.. مستغلة الخلاف وعلاقة الشك بين إمام صنعاء من جهة، وهادي الهيج (رجل تهامة القوي في تلك الأيام)، وأحمد فتيني (قائد الزرانيق)، من جهة أخرى، اللذين تخليا عن الحديدة نكاية بالإمام.
لم أحاول تملق الحديدة التي لم أجد فيها ما يدهش.. صباح قلق رطب يتململ على أرصفة شارع صنعاء الذي يشبه شوارع صنعاء في بقية المدن اليمنية، محلات تجارية وجولات ومتسولون ودراجات نارية.. أحياناً تتجمع الدراجات بأعداد هائلة في انتظار إشارة المرور، وما إن تعطيهم الضوء الأخضر حتى تزعق عشرات الدراجات بتوقيت واحد يصم الآذان.. وفي ذات الجولة يتكاثر المتسولون، وتتداخل زعقات الدراجات بتوسلات العجائز بالرطوبة، فتتحول الجولة إلى بؤرة استفزاز لا ترحم.
واللافت أن معظم الدراجات النارية في الحديدة مرقمة، ومن ماركة واحدة.. وإلى جوارها تمر عربات الحمير.. والعربة التي يجرها الحمار.. ذات جدوى اقتصادية متميزة.. إذ تجد الحمار يجر عربة بأربع عجلات، وحمولة سيارة نصف نقل. وعموماً فأسعار المواصلات في الحديدة رخيصة، وفي متناول الجميع، فالسائق في الحديدة يشكرك مقابل مبلغ زهيد، ولا يتبرم إطلاقاً.
ولا أحد يتبرم في الحديدة إلا أنا.. نادراً ما يتشاجر السائقون في الزحام، أو الموالعة في سوق القات.. الناس هنا مسالمون رطبون، وأعمارهم طويلة.. تجد سيارة وقحة وقد خنقت الشارع الضيق، وتراكمت السيارات الأخرى من الجانبين، ولا أحد يحتج أو يشتم.
سوق الهنود
أفضى بنا هذا الممر الضيق إلى سوق الهنود.. وسوق الهنود كغيره من أسواق المدن القديمة، دكاكين ضيقة، وأطفال مشاغبون، وكهول مملحون يعدون الأطعمة على الأواني الفخارية، ورائحة التوابل التي تزكم الأنوف أكثر مما تسيل اللعاب. ربما استوطن أول مهاجر هندي هذا السوق، مؤسساً لهجرة متقطعة نقلت معها شره التوابل، والتصالح مع الواقع، والسلبية الهندية العريقة.
وفي العام 1952، تعرضت حارة الهنود لامتحان قاسٍ للغاية.. فقد ابتلع البحر معظم منازلهم في ظرف ساعات، ولم يتبرم أحد.
الناس هنا راضون، يمضون يومهم على أساس مبدأ السلامة واللحظة والآن، وهم خير من يمثل قول الشاعر:
ما مضى فات والمؤمل غيب
ولك الساعة التي أنت فيها
بساطة في التعامل، وبساطة في الملابس والأحلام.. تلمح البساطة التهامية في اللهجة والتعامل والملامح والدراجات ومغاسل الملابس التي تتبع ذات الأسلوب البدائي، حيث تمتد حبال الغسيل على جوانب الأزقة، حاملة “المقاطب” والفنائل البيضاء الطيبة.
أجمل ما في الحديدة هي حديقة الشعب التي تقع في قلب المدينة.. مساحة خضراء طرية في قلب العطش الرطب.. “هل هناك عطش رطب؟!”.
تمثل حديقة الشعب ملتقى ومفراً واسترخاء مجانياً، وغالباً ما تحرص وسائل الإعلام على إبراز حديقة الشعب كصورة نموذجية للحديدة.
أدور في شوارع المدينة، ولا أدري من أين تبدأ خريطتها، ولا أين تنتهي.
فها أنا في “باب مشرف” أزاحم الباعة المتجولين وعربات الحمير، في محاولة لالتقاط صورة لكشك خشبي يصدح بأحدث التسجيلات الإسلامية (خطب، محاضرات… الخ). أنا بالطبع لم أستأذن من الشاب قبل التقاط صورته داخل الكشك، فكان ذلك كافياً للدخول معه في اعتذارات مطولة، ذلك أنه يرى في الصورة تجسيداً أو تمثيلاً “حرام”!
الحادثة عادية، غير أن الملفت فيها أن الشاب تعامل معي بطريقة بعيدة تماماً عن أدب العلم ووقار التدين وسماحته.. كان فيه غلظة لم أرها في أي تهامي.
أدور في أزقة “المطراق” بحثاً عن الدهشة وأصداء التاريخ، فلم أجد شيئاً.. ثمة عجوز يعرض علينا قائمة بأسعار “المقاطب” التي يصنعها بيديه كمهنة تهامية عريقة.. ومن 2000 إلى 7000 ريال تتراوح الأرقام بين الألوان الكلاسيكية وإغراء العودة بمقطب تهامي..
و”المطراق” سوق قديم ربما جاءت تسميته من ضجيج المطارق، أو طرق الأحذية على الأعقاب.. على حد اعتقاد “الشميري”؛ دليلي السياحي في الحديدة، الذي كان يفسر الأسماء بطريقة جميلة.
أين ذهب ناس المطراق، وتحف وهدايا المطراق.. إذ لا شيء سوى الملل في المطراق، بالإضافة إلى طرقات شبشب متهالك يرزح تحت وطأة عجوز في أواخر الستينيات، تتسول في المطراق.
كل شيء يتآكل
ومن ضيق المطراق إلى رحابة البحر، تتكرر الأصوات والوجوه حتى ينتشلك البحر بأفقه وقدرته على العطاء.
إنها مهنة أهل الحديدة.. الصيد وما يترتب عليه من صناعة الزوارق وشباك الصيد.. ها أنت في “المحوات”؛ تجد رائحة الحديدة التي كنت تشمها منذ طفولتك.. نكهة السمك التي اختلطت برائحة الخشب المتهالك.. ضجيج البيع والشراء يختلط بأصوات المطارق والمثاقب في حوض صناعة الزوارق البدائية.
هنا تولد الزوارق، وهنا تموت وتبعث من جديد.. ومن هنا تبدأ صباحات الصياد، وتنتهي أمسياته.. مقابل السمك والزرقة اللانهائية يلتهم البحر الزورق والإنسان.. حتى الحديد يتهشم في الحديدة.. كل شيء.. كل شيء.
المباني والأرصفة والإسفلت والسيارات والظهيرة.. كل شيء يتآكل.. أما مستشفى العلفي فقد قضم الإهمال والملوحة جزءاً كبيراً منه، بينما ظل أهل الحديدة يعملون ويمرضون في بقية أجزائه الآيلة للسقوط.
في هذا المستشفى، وفي العام 1960، قام 3 من ضباط الجيش، بمحاولة اغتيال الإمام أحمد حميد الدين، وتمكنوا على الأقل من إقصائه عن جبروته وسطوته.
(محمد العلفي، عبدالله اللقية، محسن الهندوانة)
لو كان الملازم العلفي يعرف أنهم سيطلقون اسمه عن خرابة، فلربما غيّر خطته، واستبدل المستشفى بقلعة الإمام.
الحديدة تزحف بسرعة باتجاه الحداثة العمرانية.. شوارعها نظيفة إلى حدٍّ ما، وبالتحديد في منطقة الكورنيش، حيث تقف الفلل مصفوفة أمام البحر بشكل مستقيم استعراضي، وكأنها تستعد لاستقبال رئيس دولة.
هذا الحي يعادل الحي السياسي في صنعاء، ففيه استراحات رجال الأعمال وفللهم، ومقار بعض الشركات.. في هذا الحي نظافة وذوق وحرص أرستقراطي بغيض.
جحيم السلخانة
كي تعي جيداً ما فعلته حرب الخليج الثانية، أنصحك بالذهاب إلى الشمال الشرقي من مدينة الحديدة.. هناك ستغرق في “السلخانة”.. والسلخانة ليست حياً شعبياً ولا مدينة جديدة، وهي بالطبع ليست قرية، وليست حزام صفيح.. هي خليط من كل ما هو مؤسف. تجمع للناس والزنك والبؤس والأتربة والقهر.
الجميع ينظرون بفضول إلى السيارة التي تمخر بنا أتربة شارع صدام.. وشارع صدام طويل، وعلى جانبيه تتزاحم بيوت الزنك وإطارات السيارات والشعارات الحزبية والأطفال ذوو العيون البريئة والأجساد المشققة.
اجتاح صدام الكويت، واختلط النفط بالدبابات بالتحالفات، ودفع هؤلاء ثمن الحرب دفعة واحدة.
عادوا من الخليج ومن السعودية بثيابهم وبأطفالهم وفقرهم ولامبالاتهم، وتجمعوا في “السلخانة”، وخلّدوا الرجل الذي لم اسمه في الكارثة، وأطلقوا اسمه على شارعهم الوحيد.
يصهرهم الزنك في الصيف، وينامون مع المجاري والوحل في الشتاء.. لقد سلختهم “السلخانة” من كبرياءئهم وشعورهم بالآدمية والمواطنة.. وفي بيئة كهذه تسقط الحدود بين قيم الخير والشر.