- علي محسن حميد
تعز هي المدينة التي عشت فيها بعض طفولتي وبعض شبابي، ست منها في المدرسة الأحمدية وقسمها الداخلي قبل الثورة ثم أربع في مدرسة الثورة حتى نيلي الشهادة الثانوية العامة عام 1966م، تحتفظ ذاكراتي بصور وذكريات لأحياء وأموات لاتفارقها.. منها من زملاء الدراسة الشهيد والرفيق إسماعيل الكبسي ورفيقه ورفيقي المرحوم محمد حسين مرغم وعبد الصمد أول مسؤول حزبي، تولى تثقيفي حزبيا وخلق علاقة ليني وبين الكتاب وأحد قادة أول وأكبر مظاهرة سياسية شهدتها تعز في تاريخها، طافت بكل المدينة من قبة المعصور وحتى قصر صالة في 26 سبتمبر لدعم الثورة وتأييدها ثم المرحومين أحمد الحربي وسعيد الجناحي كمسؤلين حزبيين ثانٍ وثالث على التوالي حتى تخرجي من الثانوية العامة.
سعيد الجناحي كان رائدا في النشاط العلني وكان من قادة مظاهرة 26 سبتمبر، وقد سبقت لي الكتابة عنه وعن الشعار الواثق، من انتصار الثورة التي وضعته حركة القوميين العرب بتعز على مساحة كبيرة من الباب الكبير الذي كان يغلق مساء ولايفتح إلا وقت صلاة الفجر، ومن المؤكد أن تلك اليافطة/الموقف/قد كتبت ليلة الثورة، وعلقت عند انبلاج فجر يوم 26، كان نصها “حركة القوميين العرب تفدي الثورة بالدم” وفي تلك الليلة ذهب الكبسي ومرغم إلى الأستاذ سعيد الوصابي، الذي كان يعاني من شلل في جسمه السفلي، وكان يسكن في مكان صغير من لِبن بجانب كاووش عسكر المدرسة الأحمدية ليقولا له سنأتيك غدا الخميس صباحا لسماع إذاعة صنعاء، كان رد الوصابي الفوري هو أن الإذاعة لاتبدأ إلا عصر كل يوم، وبثقة قالا له: غدا سيبدأ بثها في الصباح ولم يحدثاه عن علمهما المسبق بقيام الثورة، لاشك لدي بأن الجناحي كان مسؤل العمل الحزبي الطلابي في تعز قبل الثورة وأنه هو من أبلغهما بموعد قيامها، كما يمكنني الزعم بأنه كان المحرك الخفي لاعتصام طلاب المدرسة الأحمدية في أغسطس 62 تضامنا مع طلاب صنعاء، لأن الكبسي ومرغم كانا هما مع آخرين من قيادات الاعتصام من نلحظ وجودهم ونشاطهم، ومنهم المرحوم علي محمد مصلح الذي كان يطوف بغرف القسم الداخلي ليصبرنا على الجوع مذكرا بحديث شريف “نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع” والحمدلله والشكر لمواطني تعز الذين حالوا بيننا وبين الجوع والعطش، وكانوا يمدوننا في مساء كل يوم بأكثر مما نحتاج من مواد غذائية، لم نتذوق بعضها إلا اثناء الاعتصام (الإضراب أو الانضراب كما كان يسميه البعض)، كان الكبسي هو من كان يتصدر المنصة للتوعية أو للتحدث نيابة عن الطلاب مع نائب الإمام حمود الوشلي الذي زار المدرسة مرتين، في الأولى حذرنا من الأصابع الأجنبية وفي الثانية طلب مغادرتنا للمدرسة، وكان رد الكبسي لن نغادر المدرسة إلا إذا أتى القاضي عبدالرحمن الإرياني، وطلب منا ذلك، وقد كان الجناحي بحسب ما أتذكر، كان هو الأبرز حضورا في المركز الثقافي للحركة في عقبة العرضي وعندما زار السيد رالف بانش (أمريكي) مساعد أمين عام الأمم المتحدة في فبراير 1963 اليمن الجديد للاستقصاء عن حجم التأييد الشعبي للجمهورية، كان الجناحي في المركز هو الأبرز حضورا، وكأنه كان مكلفا من الحركة بقيادة النشاطات العلنية، في المركز كتب أمامنا أستاذ لغة انجليزية قصير القامة وكامل الأناقة عدة يافطات بالانجليزية كتب عليها .Long live the Republic، الأستاذ كان من القادمين من عدن بعد الثورة، حمل متظاهرون اليافطات إلى مطار تعز لاستقبال بانش بها وقد ذهبنا على الأقدام، لاشك أن بانش فوجئ بها لأنه لم ير مثلها في مطار صنعاء، وقد نقل عنه قوله أن هذا البلد كان يجب أن يثور قبل سنوات طويلة.. قناعته هذا أوصلها إلى الرئيس الامريكي جون كنيدي الذي وجد أنه لامناص من الاعتراف بالجمهورية، وقد تم ذلك في 19 ديسمبر 62، ومن النشاطات العلنية تنظيم الحركة أو الجناحي محاضرة في تعز للأستاذ الراحل يحي عبدالرحمن الإرياني، حضرها جمع غفير وفيها طلب الإرياني دعم الثورة دعما حقيقيا بالمال مهما كانت قلته وأن نقطة مع أخرى مع أخرى يمكن أن تخلق محيطا، ومن منا لايتذكر صورة للجناحي وهو وآخرين في المنصة مع المشير السلال وهذا يعزز ماكتب عن دوره الوطني والحزبي في تعز.
لي مع الجناحي حكاية صغيرة، إذ في إحدى الإجازات الدراسية قررت عدم قضاءها في النادرة والبقاء في تعز والعمل شاقيا لسد متطلبات معيشتي لأن التغذية في القسم الداخلي كانت تتوقف قبل وبعد الثورة في الإجازة، عملت شاقيا في مدرسة كانت تبنى فوق ميدان الشهداء وكان مقاولها …. سلام … ، وعند ذهابي لأخذ أجري الأسبوعي خُصم منه ثمن مفرس كُسرت ذراعه الخشبية عن غير عمد، وقد أحتجيت لأني لم أتعمد ذلك، ولكن الموظف أصر وهو معذور لأن الكشف لايتضمن أجري كاملا، أحدثت جلبة في المكان وصحت بأعلى صوتي هذا استغلال.. الجناحي الذي كان موجودا وعلى علاقة وظيفية بمقاول المدرسة التي مولها الاتحاد السوفيتي، أتى إلي وقال لي: من علمك هذا الكلام فقلت له أنت، بدون أن أفصح له أنه كان المسؤل الحزبي علي، ووقتها لم يتعرف علي لأن مظهري ووجهي وشعري، كان مغطى بالتراب الذي أخفى ملامحي ولم يكن منه إلا أن أمر بصرف أجري الأسبوعي كاملا، ومن نافلة القول أنه أسهم إسهاما كبيرا مع أحمد الحربي في حشد الطلاب والجماهير في تعز في أكتوبر 65، وبخلق إئتلاف وطني للتعبير في مظاهرة كانت كبيرة عن رفض اتفاق جدة بين الرئيس عبد الناصر والملك فيصل التي اعتبرها الجمهوريون الحقيقيون ومنهم السلال تفريطا بالجمهورية، أنقطعت علاقتي بالجناحي إلى أن رأيته قبل عشر سنوات تقريبا في منزل المرحوم أحمد علي السلامي مع الأستاذ محمد عبدالسلام منصور، وكان بيده مسودة كتابه عن حصار صنعاء، رحم الله الفقيد الذي لم ينس قضية وطنه رغم نسيانه من قبل بعض رفاقه وحزبه.