- ضياف البراق
باص يركض وراء باص يركض. وأنا أركض بين المقاعد عشوائيًا كعادتي. لا عملَ لي غير الركض في هذا الفراغ المزحوم بالبشر الفارغين.
ولكنْ متاح لي أن أدخّن كميةً غير محدودة من السجائر السامّة حتى انقراضي من الأرض نهائيًا.
القلق يركض وراءك.
والحيرة تبتلع رأسك..
والضجيج والغبار يغمران طريقك حتى آخره.
وصل الباص فهيّا هُبّ إليه.
عندما أرتمي على مقعد الباص وأنا أعلم بيقين أن القعود ليس حلًا لمشكلتي. والحق أنّي لم أعرف بعد ما مشكلتي بالتحديد. لا يفهم المرء مشكلته إلا عندما يبلغ حافة قبره.
لقد تعبتُ بما يكفي للاستسلام والتحوُّل إلى رماد متطاير. لفرْطِ ما جلستُ على مقاعد الباصات، مُتنقِّلًا من مكان إلى مكان، فها أنا الآن بحاجة عاجلة إلى قسط كبير من الراحة في إحدى المصحات النفسية.
تركض مسافةً طويلةً على قدميك، أو تنتظر باصًا ينتقص إلى راكب فقط. تتخبّط وسط الزحمة وأخيرًا تصعد إلى المقعد المُمِل، تجلس ككلب مذعور من المطر الغزير، فيصرخ المقعد تحتك: ألم يُصِبْكْ اليأس مني يا هذا المسعور الذي يخنقني بمؤخرته دومًا؟!
لا تجِدُ جوابًا شافيًا لجُرحٍ بهذا الحجم. تخرس تمامًا. أو تشعل سيجارة تسعف بها نفسك وأنت تقسم بأنها المرة الأخيرة.
لكنها تتكرر دائمًا. هكذا تموت جُزءًا جزءًا حتى تأتيك نهايتك الوشيكة.
أقعُدُ وتظل مشكلتي واققة.
وعندما أنهض تنضاف مشكلة جديدة إلى مشكلتي الواقفة. النهوض مُنهِك أكثر من القعود، آه يا ليتني لم أقعد على هذا الكرسي المريض الذي يتقيأ دمًا من التعب.
راكب يسعل في وجهي، وراكب آخر يمسح حذاءه بظهرك. تتكلم مع أحدهم عن ضرورة فصل الدين عن السياسة فيتكالبون معه عليك ويهاجمونك بكلامهم التافه والمبتذَل حتى يخنقك الضجر واليأس وتنهار أعصابك. أنت تريد أن تفتح لهم بابًا جديدًا في قمة الحياة وهم يريدون أن يحفروا لك قبرًا تحت أقدامهم الغارقة في الوحل.
ذوو العقول المائعة إذا ناقشتهم قتلوك بشكل أو بآخر. والإنسان ذو العقل السليم يصبح مجنونًا بمجرد أن يركب لمرة واحدة في أي باص من باصات النقل التي تختنق بها شوارعُ هذه المدينة الكبيرة بالجهالات والمآسي.
الشوارع يائسة من الباصات ولكنها لا تجرؤ على التصريح بهذا الخطر الذي يفشو في عروقها باستمرار كالسرطان الخبيث. مشكلتي ومشكلاتكم لا تكبر في الباصات وحسب، وإنما في كل مكان. والمشاكل لا تتسريح على المقاعد حتى وإن كانت فاخرة ومُبهِجة جدًا. المشاكل تزيدنا جنونًا ولُهَاثًا وراء الباصات.
كلنا مساعير أيتها المقاعد القذرة.
أتى باص وذهب آخر.
صرتُ لا أريد أن أفهم شيئًا. ولن أقاوم أي شيء.
المشكلة هي الراكب، أو فيه.
وكل باص هو بحد ذاته مشكلة معقّدة.
باص يمرضك، وباص يصدم جدارَ قلبك حتى يحطمه.
باص يقتلك وباص يدفنك تحت الأسفلت.
صدماتي وعذاباتي من الباصات لو ألقيتُها في بئر بلا قرار لماتت مخنوقةً على الفور.
تذهب عاصفةٌ من البشر والباصات، وتأتي عاصفة أخرى من الباصات والبشر.
باصات غزيرة مثل قنوات اليوتيوب.
هنا باصات بائسة تأكلك مثل الصدأ الذي يأكلها.
الركاب لا يتوقفون عن التدافُع إلى بطون الباصات. كل البشر مجانين ولا ييأسون من الحركة والهُراء.
يتدفقون إليها فتقول لهم: هل من مزيد!
أجل، الباصات لا تقول شيئًا عدا تلك العبارة الغبية والجشعة.
ولا يعني الأمر أنني لا أثق بمقاعد تلك الباصات التي أصابها المشي الطويل بالروماتيزم والعجز عن احترام الرّكاب.
كل الباصات هي الآن بحاجة شديدة إلى الراحة والاعتذار للشوارع. أمّا الركاب فلا أحد يعتذر لهم ولا شيء يساعدهم.
أول راكب يعاني مثل آخر راكب.
لماذا كل راكب يكذب على الراكب الملاصِق له؟ لا أدري. طبعًا أعرف أنني كذّاب أكثر منهم.
ويزداد الكذب كلما زادت سرعة الباص.
إذا تاب كل واحد من هؤلاء عن الكذب والطمَع، عندها سينتهي كل هذا البؤس المُرعِب الذي يغمر البلاد.
لا أحب الباصات التي يسوقها أشخاص أفظاظ من حارتنا لا يفهمون شيئًا ويسألونني في كل شيء، ويدقِّقِون حتى في أبشع التفاصيل تفاهةً.
ولا أحب الجلوس على مقعد لا يمسح دمعي المتدفق عندما أبكي بغزارة كما بكيت اليوم.
عندما أنهار في مقعدي من الضجة الحادّة الكئيبة، والباص يمضي مُهَروِلًا غيرَ مكترثٍ لحالتي. لا أحد يلتفت إليك عندما تنهار. لكن من السهل والمألوف أن يتعاطف بعضهم معك من باب الشفقة التي تُمثِّل درجة قاسية من الإهانة.
من وراء زجاج الباص سترى على جانبي الشارع وجوه المتسوّلين والضائعين والجنائز الماشية محفوفةً بالحشود الهائجة. هذا المشهد المسرحي الذي يلازم ذهنك على طول الخط، متجليًا لنظرك بألوانه المختلفة وحركاته المتكرِّرة، يبعث في نفسك الأمل، ويُضْحِكك من الأعماق، ويزيدك عشقًا للمزيد من الحياة.
الضجيج يتضاعف والباصات أيضًا. هذه الحركة اللعينة تدهس حياتنا وتفسدها كل يوم. نحن تلك الحشرات التي تعيش في تجاويف القمامات المكدَّسة من سنين. أبذأ من سائقي الباصات لم ترَ عينيْ قط. اللعنة على المحترمين منهم. واللعنة عليَّ أنا الممتلئ بالأمل، بالرغم من كل هذا الطوفان العبثي التراجيدي الساحِق الماحِق.
عندما أكتب قصيدة جيّدة ولا أجد لها مقعدًا واحدًا في الباص فأضطر إلى تمزيقها وجرحي يضحك ساخرًا مني.
تخرُج من الباص مُحطَّمًا، كمن يخرج من معتقل سياسي انكسرَ فيه نصفُ عمره، أو من كهف شديد الظلام والصمت.
تصل إلى سكنك أو مقر عملك وأنت مجرد كومة من الحطام اللزِج. تفترش تعبك تستلقي عليه ثم تبدأ تتنفّس بشكل لا بأس به وبعد مرور برهة تجد نفسك مشنوقًا في باص لا تعرفه ولكنه مزحوم بالركاب ويمضي بسرعة نحو العدم.
ها أنت تتخبط من شارع إلى شارع، نازلًا من حلقوم ذاك الباص السيء إلى معدة هذا الباص الأسوأ.
هذا هو صراعك المجنون حتى مع حظك التافه. إنك تركض حافيًا فوق حبل طويل من المسامير. إنه ضياعك الدائم بين غيوم الدخان الخانقة. يا باص قِفْ. يا باص امشِ. وينتهي عمرك وأنت تبحث عن المقعد المُريح ولكن عبثًا.
وباصات المستقبَل لا مكان لها إلّا فوق سطح الهواء.
باي أيها المساعير.. باي أيها اللاهثون إلى العدَم!