مع وفاة الملكة إليزابيث الثانية، ملكة بريطانيا العظمى، عادت إلى الأذهان محطات تاريخية بارزة كانت قد شهدتها عدن خلال فترة الوجود البريطاني، من أهمها الزيارة التاريخية التي قامت بها الملكة إليزابيث الثانية في 27 أبريل 1954، إلى مدينة عدن إحدى المستعمرات البريطانية في المنطقة حينها.
وكانت عدن أول بلد عربي تزوره ملكة بريطانيا برفقة زوجها (الأمير) فيليب، دوق إدنبره، عقب تقلدها الحكم، وقد قطعت الملكة للوصول إليها عشرات آلاف الأميال، حيث كانت المدينة تستحق كل ذلك العناء، كونها من أكثر المدن تطوراً فضلاً عن الموقع الجيوسياسي المهم، وهو ما دفع الإمبراطورية حينها إلى التمسك بها 128 عاماً، رغم المقاومة التي تطورت في 14 أكتوبر 1963 وانتهت بمغادرة آخرة جندي بريطاني في نوفمبر 1967.
ونزلت الملكة إليزابيث في الجناح الملكي لفندق “الكريسنت هوتيل” بمنطقة التواهي، حيث يقال أنها تركت فيه بعض مقتنياتها للذكرى، والتي كشفت تقارير صحفية عام 2015 بيعها بثمن بخس في حراج التواهي في عدن بشكل معلن.
وفي تمام التاسعة والنصف توجهت الملكة إلى حديقة الهلال، ومن على سيارتها الـ”لاندروفر” استعرضت وزوجها حرس الشرف المكون من القوات الجوية وقوة محمية عدن والشرطة والحرس الحضرمي والبدوي والصومالي.
واستمرت الزيارة الملكية 24 ساعة، تخللها فعاليات عدة رتبت لها حكومة عدن لمناسبة هذه الزيارة التاريخية، في اليوم التالي، وفي توقيت الوصول ذاته، غادرت الملكة البريطانية اليمن من مطار عدن ومنه إلى طبرق فلندن.
ووفقاً للباحث في الشأن البريطاني المرتبط باليمن بلال غلام “وصلت الملكة إليزابيث في السابعة من صباح 27 أبريل 1954، بعدما رسا اليخت الملكي سبرايس في ميناء المدينة بالتزامن مع مرور السرب الثامن للطيران الملكي البريطاني وسط استقبال من حاكم مستعمرة عدن ومسؤولي المحميات وسلاطين وأمراء السلطنات والمشيخات”.
قبيل المغادرة، بعثت الملكة برقية إلى حاكم عدن قالت فيها “أرجو إيصال تحياتي الحارة إلى كافة أبناء عدن وكل القائمين على شؤون المستعمرة على حسن الضيافة والاستقبال الرائع الذي منحونا إياه، وسنكون شاكرين إن بلغتم شكرنا وتقديرنا لكل المنظمين والقائمين الذين جعلوا منها زيارة تاريخية وناجحة”.
الجدير بالذكر أن صاحبة التاج الملكي وبعد ستون عاماً على تلك الزيارة، حرصت على تذكير الشعب اليمني بتلك المناسبة التي وصفتها بالجملة.. ففي عام 2014 بعثت الملكة برسالة نشرتها صفحة السفارة البريطانية في صنعاء جاء فيها: “في الذكرى الستين لزيارتي لعدن، أبعث بأحر تحياتي للشعب اليمني، لدي ذكريات جميلة من زيارتي ويسرني أن العلاقة الوثيقة بين بلدينا لازالت مستمرة، وأود أن أعرب عن أطيب تمنياتي بالسعادة والأمن والازدهار للشعب اليمني خلال هذه الفترة الانتقالية وما بعدها.. إليزابيث”.
ويروي الراحل حسين محمد السفاري في كتابه (حياة تُملَِحُها الحكايات) بعض تفاصيل زيارة الملكة اليزابيث الثانية إلى عدن فيقول:
في آخر عام لي بمتوسطة بازرعة الخيرية شهدت عدن حدثاً بارزاً وهو زيارة ملكة بريطانيا للمدينة في أواخر شهر أبريل 1954، بقيت المدينة ومحيطها تتحدث عنه لسنوات، وكنت ضمن الطلاب المختارين من المدرسة للمشاركة في استقبالها في الميدان البلدي ” ميدان الحبيشي الآن” ، بعد أن تمت مراسم الاستقبال الكبير قبلها بيومين في مدينة التواهي بالقرب من فندق “كريسنت”، الذي قيل إنه أعيد تهيئته خصيصاً لتنزل فيه برفقة زوجها الذي كانت تقضي معه في تلك الفترة شهر عسل زواجهما، كما أشيع.
أتذكر أنها كانت واقفة في منصة الميدان ترد علينا بالتحيات ونحن نمر أمامها وبأيدينا أعلام المملكة، وبعد ذلك استقلت السيارة المكشوفة وجالت أرجاء الميدان لاستعراض الحشود، وكان المئات من الناس يشاهدون الاحتفال من شرفات ونوافذ وأسطح البنايات المحيطة بالميدان والمطلة عليه، حتى أن أصدقاء لي قالوا أنهم شاهدوه بتلك الطريقة.
انتشرت صور تلك الزيارة ومنها الصورة التي تظهر وهي جالسة في المقعد الخلفي لسيارة مكشوفة سوداء بقبعتها الانيفة وفستانها البسيط وقفازتها اليدوية البيضاء الساحرة، وصورها وهي تكرِّم الواجهات الاجتماعية في المدينة والمحميات، وصورها وهي تزور مستشفى رقم 7 العسكري البريطاني في التواهي ” مستشفى باصهيب” ، وصورها وهي تضع حجر الأساس لمستشفى الملكة في خور مكسر” مستشفى الجمهورية الآن” كانت شابة وجميلة لم تبلغ الثلاثين من عمرها، وبقيت صورها تلك تلهم الكثير من أبناء المدينة، كما احتفظت الكثير من الأسر المعدنية بتلك الصور كتذكارات لتلك الزيارة الخاصة حتى يومنا هذا.. في تلك الزيارة بالغت المؤسسات والدوائر في الاحتفاء بتلك الزيارة، حتى أن بعضها قد طلى واجهاته بالألوان الزيتية.