- كتب: محيي الدين جرمة
لا أكرر هنا ما كتب عن روايته الأخيرة،”أفندينا”والتي يتعين زمنها بين (1805 – 1854م) إضافة ثبت توقيعات لتواريخ حديثة، عمد خلالها الروائي إلى إتكاء على مصادر ثرة وعميقة البحث في صورة مذكرات، وموثقات عدة لسياقات وأطالس وتواريخ، كضرورة فنية عززت بنية السرد وادوار الشخصيات في المتن، وقوت الزمن الروائي في علاقته برؤية تخييل الراوي وجنوح السارد للإنكفاء، وحيث الاثنان يختلفان في كل من وظيفتي السرد، والحكي،اذ” الراوي”أعمق دورا من وظيفة السارد” كما يشير الى ذلك الخبير ومفكر السرديات المغاربي سعيد يقطين.
قبل هذه الرواية، كانت قد صدرت لمحسن الغمري “ريما ذات يوم”، و”حكاية قبل الموت”، و”وثبات طويلة عالية”، وفي هذا المقاربة القصيرة أجد أنه وبالرغم مما قيل وما كتب من مقاربات ودراسات وازنة حول اعماله الروائية،إلا أن محسن الغمري يمثل تجربة جديدة في رواية” افندينا” آخر عمل صدر له في القاهرة عن دار اروقة للنشر..
تذهب”أفندينا” إلى مرحلة توحي بعصب هام في جذر التحول الحضاري الحديث والنهضة في مصر المحروسة، وهي تدق جرسا لإنتباه المصريين إلى تاريخ الأمن النفسي للمواطن، ففي سياق معاصر، من التاريخ السياسي والحضاري يقترح السرد بنية لخطابه تعج بحركة الأحداث، في ذهاب وعودة معا الى منطقة جديدة في السرد، والحضور..
يطل علينا بطل الرواية ومحور احداثها ليقارب شخصية عباس حلمي باشا الأول، وتماسه متماهيا بحياة وإرث جده محمد علي باشا، الذى درج على نعته بـ”أفندينا” كصفة رسمية للبشوية، لازال تأثيرها عفويا سائدا حتى اللحظة في التداول اللهجي عند قولهم” يافندم” وهي نعت، أو صفة للإحترام والتقدير عند المصريين، وقد سادت منذ نهضة محمد علي، مرورا بحقبة الملك فاروق.
ورغم تكرار نمط الرواية العربية التي وسمت تيماتها بتخييل التاريخ روائيا، عبر موازاته واقعا برؤية المؤلف وشخصياته المتحركة في سياق من السرد وخيوط الحكايات البالغة القصر والطول أحايين، إلا أن رواية الغمري هنا تستحدث مجلى متغايرا لها في الشكل الذي لايتنمط في وجهة نظر الراوي، بقدر ما تسبر اللغة في عمق تغلغلها النفسي لتشخص بجماليات السرد، عند كل اقتراب من الحدث في علاقته بالمكان والشخصية.
كما أن انسجام اللغة في زمن يتعدد حضوره،يتنافذ بالإشارات والايحاء الرمزي مفضيا إلى كشف دواخل الشخصية وانفعالاتها بصورة، لا تترك أثرا للتكلف أو تقرير الصحافة، أو تبدي ملمحا من صميم وظيفة المؤرخ، وانحيازه أو لاحياده غالبا ازاء مرحلة حقبية بعينها.
غير أن حيادية السرد كما في رواية “أفندينا” تجعل من السياق الذي تقاربه فنا لا تاريخا محضا، ليس حتى كما أراده السارد من تقصي وتفلية لشواهد احداث ومتون، بل لما جهدت من خلاله رؤية الكاتب في توجيه الراوي وحرية ان يتحدث بما يريد، ثم ما يشي بخلع اقنعة المؤلف السارد، لتمكين الراوي كشخصية من رهان المضي، لأقصى مدى، في امتياز الحفر ودهشة تماهيه وتعالقاته مع الحدث المروي.
تروم رواية الكاتب محسن الغمري وصل خيوط السرد ببعضها حتى جملة المروي له في النهاية، وقفلته الأخيرة التي جاءات على نحو (أستشعرت الحرج مما تسببته بكلامي لإحراج صديقي، والتنغيص عليه، وأيقنت رغبته في قفل موضوع، لايأتي منه غير مرارة الماضي، والحاضر، فنهضت مستأذنا بالإنصراف، على وعد بلقاء.)
وبالرغم من متن العمل العمل يقع في 399ص، نتتبع بعض سمات الشخصية، واتساقها المضموني، فنجدها تتجلى في خطاب رواي”افندينا”ببساطة عميقة في وضوح الروي، والوقائع، لكن بما يفرض طوقا فنيا من الرموز وتوظيف تقنيات، الحذف، واسلوب التشويق بكثافة تمنح الجملة قصرها المرجو، متقشفة، وماضية في استطراد السرد على لسان الشخصية، بمسميات تتعدد حينا، بين محورية وثانوية، وقد لعبت لغة السرد أدوارا في تقديم الحكاية بسلاسة دون تحذلق على قارئها، وعلى غير معتاد الحال والسياق الماثل في نمط اللغة المستخدمة داخل القصور، وتقرير المصالح في فترة متعينة،اسمتها الرواية بزمن محدد، خلال القرن الثامن عشر من حكم بشوية مصر،
وفي حين تتأبد فوتوغرافيا الزمن كمعضلة أو التباس في الواقع لجهة التاريخ، يبقي الروائي خيارا لادواته في الفن كبطل يحكي ايضا،وشخصية بأنسجة وروح العبارات، والرؤى والأحداث المتعاقبة من قلب وصميم تحولات مضت في نسق الحياة في مصر،حتى تكاد طبيعة المكان، تفارق لغتها، وتجنح إلى سمات دلالية، أقتضتها المقاربة التاريخية، للزمن داخل تخييل الرواية له،واللعب الجانح في التأثير على الزمن من منظور الشخصية الرئيسية ذاتها.
وتميز الرواية، بين فترة مايدور في “استانات” البكوات، وفي سياق من نهوض عرف بمقاييس سياقاته تلك،بواسطة لغة حية تختلف في أحوال تعاطي روائيين مع أنماط تيمات مشابهة لها، كما سبق وأن توقفت رؤى بعض النقاد عند مجلى السرد في تجربة الروائي المصري محسن الغمري.