- عبدالكريم الرازحي
قبل أن يغني الفنان الكبير ايوب طارش عبسي أغنيته:
“ياراهدة يازوربي يامدارة
ياملتقى الاموال والتجارة ”
كانت الراهدة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي وحتى السبعينيات ملتقى الأموال والتجارة وملتقى التجار والمسافرين وملتقى الباعة والمشترين وكان فيها أكبر سوق للحمير في اليمن وكانت الحمير تعيش عصرها الذهبي..
ومن سوق الحمير بالراهدة أشترى أبي حمارا جديدا بدلا عن حمارنا الذي سقط في “هيجة الابلاس”
أثناء عودته من ” راس النقيل ” وبعد أن سافر أخي عبدالحكيم إلى عدن أنتقل الحمار إلى أخي محمد وظل الحمار بعهدته وتحت تصرفه وهو المتحكم به وكنت أنا حينها في حالة تربُّص أنتظر اليوم الذي سيغادر فيه القرية ..
ولا أستطيع مهما أوتيت من قوة البيان أن أصف حقيقة مشاعري عندما أنتقل الحمار إلي وأصبح تحت تصرفي
- أما بعد أن ركبته واستويت على ظهره وذهبت به إلى سوق الخميس في حيفان فقد شعرت بسعادة لاحدود لها ومما ضاعف من سعادتي هو إننا الوحيد بين أترابي الذي كنت أمتلك حمارا وأمر من أمام البنات مرورا استثنائيا وكنت أشعر وأنا فوق الحمار باننا أكثر وسامة وأكثر حرية..
- كانت جدتي قد وقفت تعترض على تسليم الحمار لي وكانت حجتها هي أن اتفرغ للدراسة بدلا من التفرغ للحمار كانت قد أخرجتنا من مدرسة السيد وسجلتنا في مدرسة البعث بقرية بني علي وكانت تدفع رسوم المدرسة من مصروفها الشهري الذي يرسله لها جدي علي اسماعيل وعندما تسلمت الحمار قالت لي:
- “ياعبد الكريم ماشنفعكش الحمار شتنفعك دراستك “
وعن نفسي كنت قد كرهت الدراسة والمدرسين وكرهت المدرسة وبدا لي الحمار كأنه المخلِّص وحمار الخلاص..
ثم أن ماجعلنا أكره المدرسة والتحق بالحمار هو أن ذهابي إلى المدرسة لم يكن يلفت انتباه بنات القرية وإنما الذي كان يلفت انتباههن ويحرك مشاعرهن ويثير اعجابهن هو مروري السريع والخاطف والإستثنائي فوق حماري المزين بالصِّرامة والمخطط بالحناء..
وعندما عرفت جدتي عن هروبي من المدرسة راحت تكرر على مسامعي نصائحها بترك الحمار وكنت أنا أحتج بيني ونفسي على كلامها وأصرخ معترضا:
- -” ايش عاد اروح المدرسة اعمل ليش عاد ادرس “
- وكان يخيل إلي أن الحمار هو مستقبلي وأن الأطفال الذين لاحمير لهم هم الذين عليهم أن يذهبوا للمدرسة ويتعلموا ليكون لهم حمير مثلي..
- كنت أشعر وأنا بالمدرسة بأن عقلي يضمر ويصغر ويصير ضحلا ومتبلِّدا وجافا مثل ضفعة بقرة جففتها حرارة الشمس، وكانت نفسيتي تنغلق وتظلم وتغدو خالية من الفرح والبهجة ومن أي شيئ إنساني وكان يساورنا شعور بأننا محبوس في حبس اسمه مدرسة وداخل زنزانة اسمها فصل وأن المدرسين ليسو سوى جلادين وبعد إن كنت أخاف من عصا السيد محمد ناجي صالح في المدرسة الأحمدية صرت بعد انتقالي إلى (مدرسة البعث) بقرية بني علي أخاف من عصا الأستاذ عبدالحافظ ومن عصا الأستاذ عبدالواحد ومن عصا الأستاذ محمد عبدالوهاب وأخاف أكثر من عصا الأستاذ محمد راشد الذي كان يضربنا في الدرس الخاص بجدول الضرب، ويقسم عصاه فوق ظهري ليعلمنا القسمة، وخلال ثلاث سنوات قضيتها في مدرسة البعث لم أتعلم شيئا سوى الخوف من المعلمين..
– أما عندما كنت أذهب مع الحمار إلى أي مكان فأشعر بعقلي ينتعش ويتحرك وبمشاعري تسيل وتتدفق وبدلا من رؤية المدرسين ورؤية العصيان بأيديهم والشرفي عيونهم كنت أرى الشجر والحقول والجبال والوديان وأرى أماكن وقرى جديدة، وناس جُدُد، وأرى السماء والسحب وهي تعبر، وأرى الجهات كلها، وبدلا من الجلوس صامتا في الفصل، وخائفا من العقاب، كنت وانا بصحبة الحمار أتكلم واضحك واغني وأُلَالِي وافعل مايحلو لي من دون خوف، وبعد كل رحلة لي بالحمار
- كنت أرجع وفي جعبتي الكثير من الحكايات والمعلومات وذاكرتي مكتضة بالمشاهدات وبصور الأماكن والقرى والأسواق والدروب التي عبرتها وكان أترابي يتحلقون حولي ويطلبون مني أن أحكي لهم عن مشاهداتي وعن العالم الواقع خلف جبال القرية وعن الناس في القرى التي مررت بها وفي اليوم السابق لرحلة الراهدة قلت لهم:
- -” بكرة شاروح الراهدة”
- وكانوا مستغربين وغير مصدقين وقال بعضهم بأن جدتي لن تسمح لي بالذها ب إلى الراهدة وكان أولئك الذين يدرسون معي في نفس المدرسة يخوفونا ويقولون لي:
- – ” لوكثَّرت بالغياب بايفصلوك “
– قلت: ” موفي لو فصلونا حماري أحسن لي من المدرسة” .
وفي صباح اليوم التالي خرجت أمي وأخواتي لتوديعي كما لوكنت مسافر إلى أمريكا وجاء أترابي ليتأكدوا من صحة كلامي وهل حقا سوف أذهب إلى الراهدة أم هو حلم من أحلام يقظتي وعندما أبصرتنا جدتي من دكتها في سقف دار جدي تفاجأت، وقالت تسأل أمي:- أين شسرح عبدالكريم ؟
- قالت لها أمي: شسرح الراهدة
- وبمجرد أن عرفت جدتي بأننا رايح الراهدة وفي يوم دراسة حتى ثارت ثائرتها وراحت تصرخ فوق أمي وتلومها وتوبخها وتقول لها:
- – كيف تسرِّحي ابنك للراهدة وهو جاهل أنتي بعقلك وإلا مافيش معك عقل !!
قالت لها أمي: مافيش معانا ولا حاجة بالبيت حتى الملح زلج.
وكان هناك إعتقاد بأن البيت الذي يخلو من الملح يدخله الجن ويعيث فيه الشياطين..
قالت جدتي والشرر يتطاير من عيونها: “لك مالح يملحك هيا إرجعي إرجعي ورجعي ابنك”
ولشدة خوف أمي من جدتي طلبت مني العودة واعادة الحمار إلى مكتبه *
وقالت لي جدتي:” موذا حقك الخبر ياعبدالكريم وموشوقك تجري بعد الحمار من جبل لاجبل ومن وادي لاوادي ومن سوق لاسوق وانت معك مدرسة !!” - ولحظتها شعرت بنظرات أترابي تلسعني وكأنهم يقولون لي بأن رحلتي إلى الراهدة ليست سوى حلم من أحلام يقظتي وأمنية من أمنياتي وكنت أنا زعلان من جدتي ليس لانها اعترضت على ذهابي إلى الراهدة اولأنها وقفت توبخنا امام زملائي ولكن لانها كانت تضرب أمي أمامي وأمام أخواتي وحتى أمام أبي ولاتراعي مشاعرنا وكنت أشعر كأنها تكرهها أو كأن أمي ليست بنتها..
- كانت جدتي نُعم نعمان قد أنجبت لجدي علي اسماعيل ولدين هما: عبدالوهاب ومحمد وبنت وحيدة هي: فاطمة
وكانت فاطمة قد تزوجت أبي بعد ثلاث زيجات وانجبت له خمسة أولاد وأربع بنات وكانت قد صارت هي الأخرى جدة لكن من سوء حظها أنها تزوجت من أبي وظلت في متناول يد جدتي ذلك أن بيت جدي كان لصق بيت أبي وكأنهما دار واحدة وكانت جدتي عندما تغضب من أمي لسبب أو بدون سبب.. تعبر من سقف بيت جدي إلى سقف بيتنا، وبعد أن تضربها وتنجز مهمتها تنسحب عائدة إلى قواعدها ولم يحدث خلال فترة طفولتي التي عشتها في القرية أن دخلت جدتي إلى بيتنا لمهمة أخرى غير مهمة ضرب ابنتها الوحيدة فاطمة بنت علي اسماعيل..
وكنت أستغرب كيف أن أمي تستسلم لها وتتركها تضربها من دون أن تحتج أو تعترض وحتى من دون أن تصرخ، وكأن من حق جدتي أن تضربها أو كأن الضرب مقرر عليها، وأكثر ماكان يثير استغرابي هو أن أبي وهو عاقل القرية كان يقف متفرجا وهي تضرب زوجته وأم أولاده وبناته ولايحرك ساكنا، لكن الحقيقة التي أدركتها في سنوات طفولتي هو أن جميع رجال ونساء وفتيان القرية كانوا يخافون من جدتي ويهابونها ويحسبون لها ألف حساب، وكنت الوحيد لا أخافها ولا أحسب لها أي حساب والسبب انها كانت تحبنا ومن حبها لي لم تكن تجرؤ على الوقوف في طريقي ويومها رفضت أوامرها بالعودة وخبطت الحمار بالحكال في مؤخرته وقلت له بلغته وبصوت مرتفع: - -حَيْ حَيْ
- وانطلق الحمار يجري لكأنه هو الآخر قد ضاق بالجلوس بالمكتب مثلما ضقت انا بالمدرسة..
- وسمعت أمي تصيح وتطلب مني أن أرجع لكن جدتي وقد رأتنا وانا أنطلق لاذت بالصمت، وكنت أعرف بأنها بعد رحيلي سوف تعبر من سطح بيت جدي إلى سطح بيتنا وتضرب امي..
في (نقيل حصمات) صادفت فتاة مجدورة الوجه، جالسة فوق دُقْم وكانت سمينة صدرها بارز وممتلئ
وشعرها مندوش ومتسخ تعبث به الريح
وعندما مررت من جنبها قالت تسألنا:
-اين شتسرح ياب ؟
قالت: الراهدة
قالت: جزع لي معاك مشاط ..
وعرفت بانها سفرجلة الهبلاء وكنت قد سمعت من أخي محمد بأنها تطلب من كل حمَّار يمر بالنقيل أن يشتري لها مشطا لتمشط به شعرها وفي المقابل كان الحمارة يطلبون منها مقابل المشط أن تريهم سُفرجل صدرها..
و يبدو أن سفرجلة لاحظت يومها بأننا أصغر من الحمّارة الذين تعودت على رؤيتهم فراحت تسالنا عن الحمار وهل هوحماري ام حمار شخص آخر وبعد ان اجبت على اسئلتها قالت لي :
- من اين انت؟
- قلت لها : من” نجد الغليبة “
- قالت وهي تضحك :
- انتم غليبة غلبتم الحمار وخليتمو يطلع يبلس
- قلت لها : “نحنا غليبة غلبناكم انتم من تحتنا ونحنا من فوقكم”
- وعندها تغيرت صورتها ونزلت من فوق الدقم وعَسَجَتنا من فوق الحمار، وفجأة وجدت نفسي في الأرض وهي بارك فوقي وانا تحتها اصيح وأكاد اختنق من شدة ثقلها وثقل سفرجل صدرها..
- –
- وسمعت أمها صوتي وقالت لها من سقف البيت:
- – “ياسفرجلة حرام عليك الإبن جاهل”
- قالت لها سفرجلة:
- “يما آذا غلابي زنوة اتسَيْفِه عليا
- قالت امها: موقال لك
قالت سفرجلة: “زعام هو فوقي واني تحته “
قلت لأمها: “كذابة ماقلتوش اكّه”
قالت امها: - “الغليبة ياسفرجلة كلهم زنوات”
- ورفضت سفرجلة أن تنهض من فوقي وقالت:
- – والله مااقوم من فوقك إلا بعدما تقول لي:
- منو غلب الثاني؟ اني غلبتوك ؟والا انت ياغلابي يازنوة غلبتني؟
- قلت: انتي غلبتينا ..
- قالت: “ومنو ذحين فوق الثاني ؟ اني فوقك والا انت ياغلابي يازنوة فوقي؟
- قلت: “انتي فوقي وانا تحتك”
- ونهضت سفرجلة من فوقي وهي مزهوة بنفسها وبانتصارها علي، وبعد أن أبتعدت عنها وعن صخرتها، أكتشفت قملة كانت قد سقطت من شعرها الملغم بالقمل وشعرتُ بالإشمئزاز ، ثم مالبثت أن اكتشفت قملة أخرى وثالثة، وأول ماوصلت الوادي خلوت بنفسي وخدرت ملابسي وتعرططت ..
- ورحت وانا عرطوط ابحث عما تبقى من قمل سفرجلة ..
- عند ما وصلت الى نهاية النقيل وبداية الوادي كان أول مالفت انتباهي وأثار دهشتي عند وصولي وادي الشويفة هو الوادي نفسه، كانت تلك أول مرة أنزل فيها من قريتي نجد الغليبة إلى وادي الشويفة وأول مرة أرى واديا بذلك الاتساع، كان الوادي فسيحا عريضا ومنبسطا كأنه مضمار سباق وسرعان مارحت أحث حماري واطلب منه أن يعدو ويجري ويسرع، وكنت كلما رأيت حمّارة قادمين من القرى المحيطة بالوادي رحت اضغط عليه واستخدم العنف معه، وكنت ازعل منه واغضب كلما ابصرت حمارا يمر من جنبه ويسبقه ومن شدة غضبي عليه رحت اضربه بالحكال واقسو عليه وأغضب منه وألعنه وأشتمه وكان الحمّارة يستهجنون سلوكي مع الحمار والبعض يحتج على ضربي له ويصرخ في وجهي قائلا:
- – حرام عليك لموتضربه؟
- وكنت أقول لهم: حمار مايفهم بدل مايسبق الحمير يخلي الحمير تسبقه..
- وصاح حمّار عجوز:
- “ما دام والحمار يمشي مافي داعي تضربه”
- وعن نفسي كنت أريد من حماري أكثر من المشي أريد منه أن يجري ويواصل الجري ويسبق جميع الحمير ويوصل الراهدة قبلهم كلهم، وكان في اعتقادي بأن الحمار وهو في الوادي وفي مكان سهل منبسط ليس فيه طلوع ولانزول بمقدوره ان يجري ويواصل الجري الى مالانهاية ولن يتعب لكن حماري الذي هبط من سقوف الجبال ومر بالنقيل كان قد تعب وتعب مني ومن اوامري له بأن يسرع ومن غضبي عليه ومن ضربي له ولوانه ينطق ويتكلم لقال لي كلاما أقسى من كلام عصا السيد محمد ناجي
- وحتى انا كنت قد تعبت من الركوب ومن طول الرحلة وتعبت من ضربه وشحَّجْتُ من الصراخ فوقه ومن لومه وتوبيخه ولشدة ماكنا تعبانين وعطشانين وبحاجة الى الراحة قدت حماري الى تحت شجرة خِصَّال كبيرة وجلسنا تحتها واستظلينا بظلها وكان الحمار حزين وزعلان ومنكس راسه للأرض ولسان حاله يقول لي :
- – “مش انت حمَّار ولاتصلح لقيادتي وجدتك اخبر بك”
- ولحظتها انتبهت واسترجعت الطريقة التي عاملته بها منذ وصولنا الوادي ورحمته وحزنت عليه وتألمت لأجله ورثيت لحاله وشعرت بالذنب وبالندم ورحت اعتذر له وأقبل راسه وامشط بأصابعي شعر رقبته وأقول له معتذرا والدموع تنطف من عيوني:
– – سامحنا ياحماري انا داري انك زعلان مني لاننا ضربتك واهنتك امام الحمير”
- وشعرت من نظرته لي كأنه يقول لي :
– عند أول حقف من تلك الاحقاف المليئة بمياه المطر وقبل أن أبدأ بالشرب تركت حماري يشرب قبلي، وبعد أن شرب وارتوى جثوت على ركبتيَّ واحنيت راسي وبدأت أشرب من نفس الحقف الذي شرب منه حماري وصاحت بي صبية كانت تغسل الملابس في الحقف المجاور:
- -“ياب لا تشربش من حقف الخضر”
- قلت : من اين اشرب؟
- قالت : “اشرب من ماء البير البير ذكُّو ” واشارت إلى جهة البئر في الأسفل ..
- قلت لها وكنت قد شربت وارتويت :
- – واذا الماء موبه خينا وسخ !!
- قالت: “لا ، مش هو وسخ” وانفجرت تضحك وانتقل ضحكها بالعدوى إلى بقية الصبايا ..
- قلت لها وقد خفت من ضحكهن :
- “موبو الماء؟ قولي لي خينا مسحور!!
- لكنها لم تقل لي إن كان الماء مسحور ام غير مسحور وانما راحت تواصل الضحك وتعبث بأعصابي،
قلت وانا منزعج من ضحكها ومن ضحك بقية الصبايا:
-“سالتك بالله تقولي لي موبو الما ء!! “
وبدلا من أن ترد على سؤالي ألتفتت ناحية الصبايا وقالت لهن وهي مستمرة في الضحك: - “قولين له يابَنَوِّتْ” ..
لكن الصبايا رحن يواصلن ضحكهن ويقلن لها : “قولي له انتي نحنا نستحي”
وعندها زعلت منها وركبت فوق حماري وانا زعلان وبعد ان ابتعدت عن احقاف الخضر رايت بنت مليحة تجنِّن واول مارايتها سمعت قلبي يدق ويرجف ويصيح وانا افتجعت قلت بيني وبين نفسي:
– لمو قلبي يدق ؟ ولمو يرجف؟ ولمو يصيح ؟ خينا من الماء اللي شربته!!
- وبدل ما امشي في طريقي وقفت أتفرج على البنت وهي سارح جهة البير والجرة فوق راسها أكبر منها وبعدما جزعت من جنبي دوخت بي وطيرت بعقلي وكنت مثل المسحور التفت لاجهتها وهي لاتحس بي ولاتلتفت لاعندي وقلت بيني وبين نفسي:
- – اتنِّي لها لوماترجع خينا بالرجعة شتلفت !!
- وبقيت مكاني وسط الوادي أنتظر عودتها من عند البئر وبعدما رجعت ومرت من جنبي حسيت وجع بقلبي، وجلست أبصرها من فوق الحمار والحمار واقف مثل التمثال ولاحركة وكانت هي تطلع جهة الدار وروحي تطلع معها وبعدما زلّت وغطفت غدّرت الدنيا في وجهي وكنت اشتي أبكي لكن بالليل بعدما رجعت من الراهدة سمعتنا اختي وانا أبكي والصباح كلمت امي وجدتي وجدتي صاحت وقالت جازمة بأن (جنية النقيل ) خطفت عقلي، والقت باللوم على أمي واتهمتها بأنها السبب لأنها سمحت لي بالذهاب إلى الراهدة..
و (جنية النقيل) هو الاسم الآخر للجنية “صياد” وكان هناك اعتقاد بأن الجنية صياد تظهر ليلا في (نقيل حُصْمَات) ولم يكن عند جدتي أدنى شك بأنها ظهرت لي وخطفت عقلي وكانت ماتنفك تقول:
- ” الإبن من بعد سرحة الراهدة حسُّه ماهلُّوْشْ “
- وكانت على حق فقد كنت اسرح واشرد واغيب اكون في القرية وعقلي يهيم في الوادي
- وطلبت جدتي من امي عدم السماح لي بالذهاب إلى الراهدة مرة ثانية لكننا ذهبت غصبا عن الجميع وكان عذري هو ان الجنية صياد خطفت عقلي وتركتنا بلاعقل
- ولأكثر من شهر وجدتي تصيح وتواصل اتهامها لأمي وامي تدافع عن نفسها وتقول لها:
-“موتشيني اعمل له!! أقتله !! - ومع أن ايجار الحمار يذهب إلى جيب أمي تشتري به حاجات البيت، إلا انها لم تكن تطلب مني الذهاب للراهدة وانما أنا الذي كنت أطلب وألح وأصر على الذهاب بحجج مختلفة وكل غرضي أن ابصرتلك البُنَيّة التي خطفت قلبي وعقلي وكان الحب اقصر طريق للكذب، وصرت أكذب على أمي واكلمها ..
- عن معادنة وصلوا من عدن ويرغبون في استئجار حمارنا وكانت أمي المسكينة تصدقنا لكني كنت أعود ليلا من الراهدة وانا متعب وحماري أكثر تعبا مني وعندما تسألنا امي عن المعادنة ولماذا لم يكتروا حمارنا اختلق لها أي عذر، وكانت الراهدة قد غدت مكتي وقبلتي وكل يوم حج وعمرة وذات يوم وانا في مقهاية عبدالله سيف سمعت أحد الحمَّارة، وكان من الصلو واسمه حمود الصلوي يتحدث عن” احقاف الخضر”
- ويقول بأن الذي يشرب من احقاف الخضر يتلبسه شيطان الحب والعشق ويصبح مجنونا
- وعندما قلت له بأننا شربت من احقاف الخضر لم يصدق وقال لي:
- ” مش باين علوك انك شربت الذي يشرب يقتلب حسه ويزيغ عقله ويرتبش ويتجنن”
- قلت : والله اننا شربت
- وبعد أن حلفت قال لي:
- – انت عادك جاهل مش انت داري مو هو الحب!! ومو هو العشق !!
- قلت: انا داري بالحب واحب بنت بالوادي
- وسألنا عن اسم البنت :
- قلت: مودرّانا
- وراح يسخر مني ومن حبي ويقول لي متهكما أمام الحمارة:
- – مودرانا !! مودرانا !! كيف مودرَّوك وانت تقول انك تحب وانك عاشق!!
- قال لي عبدالله سيف صاحب المقهاية:
- خينا ياعبد الكريم تحب صياد الجنية !!
وضحك الحمارة من كلامه و شعرت انا بالخجل والخزي ومن يومها كنت كلما وصلت الراهدة ودخلت المقهاية
ضحكوا وقالوا : - “وصل عاشق صياد نفِّسُّوا لُه “
-* المكتب: هو المكان الذي يقيم فيه الحمار.