- كتب: مصطفى ناجي
تاخرت في إغلاق هذه الفقرة كثيرا وقلت في نفسي لقد فات الوقت.
لكن بقي في جعبتي ثلاث حكايات من آخر زيارتين لي إلى تركيا في إطار تحضيري شهادة الدكتوراه التي لم انته منها بعد، وأنا في زياراتي إلى تركيا لم أخرج عن إسطنبول ويجدر بي أن أقول حكاياتي عن إسطنبول.. لكن إسطنبول تغنيك عمن سواها فهي عالم في عالم أو عوالم شتى في عالم تركيا الكبير.
وأذكر هذه الحكايات أو المواقف لتميزها عن غيرها من المواقف التي شهدتها وتعرضت لها في تلك البلاد، من ضياع في وجهة الطريق أو خطأ في رقم الباص أو تأخير عن الموعد أو عجز عن التفاهم أو أكل بسابس عن طريق الخطاً والتهور وغيرها من الحكايات المسلّية.
وإسطنبول كمدن كثيرة كبيرة في هذه الأرض، كل خطوة تخطوها هي مشروع حكاية الأهم أن يكون لديك فضول وعينك مفتوحة على كل قادم ولديك الاستعداد للوقوع في موقف والا يخذلك حذرك الشديد كغريب وحيد من الالتفات والتقاط العجيب المتكرر من الحياة.
أما الموقف الأول فقد كان عشية سفري عائدا إلى باريس، قضيت النهار اتنقل في الجزء الغربي من ضواحي المدنية المترامية الأطراف، وكلمة مترامية الأطراف هنا ليست مجازا مبتذلا إنما هي مترامية الأطراف فعلاً.
وعند العصر انتهيت من موعدي وكنت في البارحة قد ضربت موعدا آخر وسط المدينة عند الساعة السادسة مساء، وبما أنى تسكعت وتهت ولم اتحرز لتأكيد موعد المغرب قررت تأكيده عند العصر.
لكني لم أتلق ردا على رسائلي التي أبعث بها إلى الشخص هو الآخر قادم من خارج تركيا ولا يستعمل إلا الواتساب، فقلت سأواصل السير ولعلّ من انتظره أو ينتظرني يرد علي في غضون الساعتين اللازمتين للوصول في المواصلات العامة.
وصلت وقد تنقلت بين وسائل مواصلات عديدة أخرها الترامواي، وقبل المحطة الأخير من الترامواي في كاباتاش على كورنيش البسفور التي يلزمني بعدها الصعود على الاقدام مسافة مرهقة حتى أصل إلى ميدان تقسيم استمعت إلى عائلة مغربية تتحدث الفرنسية، كنّ ثلاث نساء فارعات الطول وعريضات المنكبين ومعهن طفلين، يبدون أم وابنتها وخالتها، قالت البنت الشابة لأمها بالفرنسية: هل أنت متأكدة أنه يلزمنا فحص بي سي آر وإلا لن نستطيع الخروج من تركيا بالطيارة؟
فارقتني نفسي وقرعت الكلمات في رأسي قرع الأجراس، أنا أيضا سفري بالطائرة غداً صباحا وليس بمعييتي فحص الـ بي سي ار الخاص بالخلو من فيروس كورونا.
أهرع من صيدلية إلى أخرى أبحث عن مكان للقيام بالفحص حتى وصلت إلى لوحة مكتوب عليها بلغات عديدة منها العربية: “هنا نعمل فحص بي سي ار”. إلى جوار اللوحة يقف شاب نحيل يتصفح هاتفه.
-مرحبا أستاز. تفزل!
-أريد عمل فحص بي سي ار.
-ولا يهمك تعا بعدي.
صعدت وإذا بنا في مكتب في الدور الثاني لسوريين.. خالٍ من أي أثاث عدا كراسي وطاولات.
أمام هذا الفراغ والهدوء المريب سألت الشاب:
-هل أنت من يعمل الفحص؟
- لا.. راح تيجي الممرضة لهون.
المهم عملت الفحص وخرجت مسرعاً قبيل المغرب أبحث عن مكان يبيع معسلا فاخرا أجلبه لصديق طلب مني.
ركبت الباص العمومي إلى أكسراي وكان الباص ذي الدورين في بداية منطلقه ليس فيه إلا ركاب قلائل.. جلست في المنتصف على أربعة كراسي متقابلة، في المحطة القامة صعدت عجوز قصيرة ترتدي كمامات.. كانت الأجواء مشحونة بمخاوف كورونا والشتاء لم ينته بعد..
أفسحت لها المكان وانزحت إلى جوار الزجاج.
مع كل محطة، يتوافد العابرون ويزدحم المكان، صعدت فتاتان في العشرين أو أقل قليلا سافرتين رشيقتي القد وجلستا أمامنا، كانتا يتصفحن هواتفهن كما هي عادة البشر هذه الأيام، يتقهقن بغنج، إحداهن مرخية الكمامة عن فمها والأخرى بلا كمامة.. أبدت العجوز تبرماً ورمقت الفتاتين بعين غضوب وزجرتهما بالتركية ما فهمته أنه طلب ارتداء الكمامات.
يتوافد الناس وهم من كل لون وحجم. بينهم أفارقه وعرب.. هذا يتصل بصوت عال وذاك يشاهد مقاطع فيديو توكتوك وذاك يتحدث والأخر يسعل.
والعجوز متربصة تقتنص فرصة صعود أحدهم بلا كمامة فتسارع إلى نهره.. فجأة التفت نحوي وعادت بنظرها إلى الفتاتين وقالت لهما كلاما لا أفهمهم.. إلا أن إحداهن وهي القصيرة طولا والاقصر عمرا والتي كانت ما تزال تحمل بقلبها قليلا من الغيض على العجوز أخبرتني ناقلة ما قالته العجوز: هي تكرهك.
قالتها بإنجليزية ركيكة. تعجبت. واستفتسرت: تكرهني! لماذا؟
أردفت الفتاة: لأنك أجنبي ولا تتكلم التركية؟
طلبتُ من الفتاة أن تنقل إليها أني هنا لزيارة قصيرة وغدا ساترك هذه الديار، ولو أتيح لي الوقت لتعلمت اللغة.. شدّدت عليها أن تخبرها أني مسافر غدا وساترك لها بلادها.
تواصل حديث السيدة مع الفتيات والتقطتُ بعض الكلمات العربية من قبيل جيلاني وكلمات أخرى أعدتً تكرارها على مسامع العجوز فاندهشت وقالت لي بالعربي: بتحكي عربي؟
قلت لها نعم.
قلت وانت مسلم.. لو مسلم يكون أحسن، ومع الحديث القصير السريع أخبرتني أنها تركية كردية تتحدث العربية، وأن تركيا فيها بشر كثر من كل حدب وصوب..
كانت تركية تتحدث اللغة العربية وتكره الأجانب.
قلت لها محطة نزلوني هنا، ولن تريني غداً.
ودعتني بحفظ الله.
كنت أعرف أن هناك موجة تحريض واشتباك غير حميد بالعرب والأجانب عموما مع بعض الأتراك لكني لمسته.
وعندما عدت إلى باريس وصلتني رسالة في اليوم التالي من الشخص الذي كانا بيننا موعد يخبرني أنه وصل من منطقة حارة لكنه أصطدم ببرد اسطنبول المفاجئ وأصيب بنزلة برد حادة.. تمنية له الشفاء وامل لقاء قريب.
…
أما الوقف الثاني وهو موقف نقيض فقد كنت في الضاحية الغربية، حيث التقيت صديقا في أحد المقاهي وقضينا وقتا نتكلم في كل الاتجاهات، وكان علي أن أغادر كي التحق بأصدقاء في مكان أبعد يتحلقون ليلاً حول قناني الشيشة في محل سيتي جاردن إذا لم تخني الذاكرة.
هناك كنت أعيش مزاج الطالب محدود الدخل، وأتعمد أخذ المواصلات العامة.. المكان بعيد والطريق في تلك اللحظة؛ لحظة خروج الموظفين، مزدحمة ولا فرق في الوقت بين أن تاخذ تاكسي أو تركب الباص.. ولكن المواصلات العامة إليه ليست متواترة وعلي أن ألحق الباص الذي سيمر بعد دقائق قليلة.. مع مروق الباص المرتقب أمامنا في الضفة الأخرى من الشارع، سارعنا إلى تسديد الحساب وخرجت راكضا بكل ما أوتيت من قوة من ضفة الشارع إلى الضفة المقابلة أومي بيدي للباص كي يقف.. وقبل أن ألمس الباص انطلق، أدركت حينها أنه يلزمني الانتظار خمس وثلاثين دقيقة حتى يأتي الباص التالي.
أمام خيبتي تلك وعرقي تحت ثيابي المتركمة على جسدي بعد أن ركضت بسرعة لفتت انتباه الناس.. عاد سائق سيارة بي أم دبل يو بيضاء – كانت السيارة تخرج من مجمع سكني توقفت عند المدخل لتسمح للباص بالمرور ثم واصلت سيرها- إلى الوراء قليلا ويطلب مني أن أصعد.
كان يتكلم بالتركية وأنا لا أفقه شيئا مما يقول لكن حركة يده تعني أصعد، هو يتحدث بالتركية وأنا بإنجليزيتي.. فتحتً الباب الأمامي وصعدت أجلس على كرسي وثير وأمامي خمس نظارات شمسية أنيقة متعددة الألوان زاهية.. أغلقت الباب فانطلق مسرعا حتى ضارع الباص أمام الدوار المزدحم وهو يقول لي انزل وقل للسائق يفتح الباب..
أنا أعرف أن في فرنسا لا يفتح سائقو الباص الباص الباب بعد أن ينطلق من المحطة..
أقنعني بإصراره وبصوته المتحمس. شكرته وألتففت على الباص وطرقت باب الباص ففتح لي وهكذا لحقت موعدي ووصلت أحكي لأصدقائي ما حدث فقالوا أنه ربما الحادثة الأولى لشخص هنا.. فالصورة العامة عن الأتراك إنهم متجهمون منعزلون..
بالنسبة لي الحياة فيها كل صنف ونوع من البشر.
أما الثالث وكان في الزيارة الأخيرة فهو أظرف من السابقين..
ألتقيت صديقي شكيب عند محكة توبهانه، وكنا إذا ألتقينا نفعل لنحكي نكات مختلفة وغير مكتملة نشرب أكوابا بلا حساب من الشاهي.. هو يريد شاهي وأنا أريد قهوة، ذهبنا نبحث عن مقها وكنا على مقربة من إحدى تفرعات شارع الاستقلال الهابطة نحو الميناء، الحي أقرب إلى ما يكون سياحيا أو مقرا خاصا بعلمانيي إسطنبول، ففيه البارات أكثر من أي شيء آخر، وحولها محلات التاتو ومطاعم أوروبية الطابع.
الوقت قبيل المغرب، البارت تستعد لاستقطاب شاربو البيرة والمشروبات الكحولية ونحن نبحث عن قلص شاي مزبوط وقلص قهوة سادة.
لم نجد مقهى فارغا، بعد عناء وتردد في الخيارات وجدنا كشكشا صغيرا وحوله مقاعد مكفهرة بلا عناية ترتيب لا يجلس عليها أحد وليس فيها نادل ينتظر.
أخذنا مقاعدنا مرقيهن من المشي.. جلسنا فحضر رجل متوسط العمر بشارب، نظر بتأنٍ نحونا ينتظر طلبنا، فلقنا له واحد شاهي وواحد قهوة، غاب دقيقة فعاد إلينا مسؤول الكشك الذي يجلس جلسة كباشا زمانه ويشرب نرجيلة وليس شيشة.
نظر في عيوننا قليلا وسال كرة أخرى: شاي وقهوة؟
قلنا: نعم. شاي وقهوة.
أستفسر: شاي وقهوة
وجوانا مكرر : نعم. شاهي وقهوة. شاهي تركي وقهوة تركي سادة.
تسمر أمامنا برهة يتفحص وجهوننا علها تقول له شيئا مختلفا أو تجيبه الإجابة الشافية، ثم طرح سؤاله علينا: شاهي شاي؟
ونحن نجيب : نعم. شاي. شاي.
هز رأسه.. وغاب دقائق وعاد الينا بالشاي والقهوة، وضعهما أمامنا ببطء.. وهو يتفحص عيوننا علنا نصحح له المعلومة أو نقول ليس هذا ما نريد..
شكرناه وشربنا الشهي والقهوة ولم نفتح أفواهنا للحديث، كنا اثنين وحديدين وحولنا كراسي خاوية متهدلة الأغطية يتساقط عليها ضوء باهت من قناديل معلقة قبيل المغرب.
أنتهينا من شرب ما طلبنا وحاسبناه حسابا مضاعفا وما يزال وجهه يصدر نحونا أسئلة غامضة.
أنصرفنا نضحك على الموقف وعلى التأويلات الممكنة التي جادت بها عقولنا لحظة الصمت والمخاوف التي صعدت إلى الرؤوس مع مزاج الشاهي والقهوة.
توافقنا على إننا كنا في المكان الخطأ، فالرجل ربما كان يبيع أشياء أخرى تحت ستار المقهى وهذا الأرجح فهو ينتظر زبائن من نوع خاص في مكان يتوافد إليه مستهلكو الممنوعات العديدة.