- كتب: طاهر شمسان
عندما نتحدث عن الدولة الحديثة فلا بدَّ أننا نميزها عن الدولة القديمة السابقة عليها في الزمن والمختلفة عنها في النوع. ولأن الفوارق النوعية بين الدولتين تعد بالعشرات فسوف نكتفي بفارق جوهري واحد:
تعاني الدولة القديمة من مشكلة مزمنة ملازمة لها بنيويا في كل أطوار حياتها، وتكمن هذه المشكلة في التناقض القائم باستمرار بين طبيعتها المحافظة والطبيعة المتغيرة للسياسة. والطبيعة المحافظة للدولة القديمة كامنة في بنيتها من حيث أنها مكوَّنة من تراتب مؤسسات ذات طابع سلطوي معززة بقوانين لحمايتها، وجماعات مصالح. وعلى النقيض من الطبيعة المحافظة للدولة القديمة تتسم السياسة بطبيعة متغيرة ملازمة لها بشكل دائم، وهذا لأن السياسة في الأساس صناعة مجتمعية، فالناس في كل مجتمع هم الذين يحددون احتياجاتهم الحياتية قياسا إلى مستوى تطور مجتمعهم، والنخب المجتمعية تلتقط احتياجات الناس وتحولها إلى برامج سياسية ذات طابع مطلبي تتقدم بها إلى رأس الدولة وأصحاب القرار فيها، وبسبب الطبيعة المحافظة للدولة القديمة فإن هذه المطالب إما أن تُقبل جزئيا أو تُرفض كليا على النحو الذي كان يفعله الإمام يحي حميد الدين ومن بعده ابنه الإمام أحمد مع مطالب حركة الأحرار في اليمن في القرن الماضي، وهو ما فعله أيضا الرئيس علي عبد الله صالح مع المطالب التي تقدمت بها أحزاب اللقاء المشترك قبل أقل من عقدين لإحداث إصلاحات جوهرية في النظام السياسي تسمح بشراكة حقيقية في السلطة والثروة.
إن مفاعيل التناقض بين الطبيعة المحافظة للدولة القديمة والطبيعة المتغيرة للسياسة تتصاعد بشكل تدريجي على مدى زمن معين يطول أو يقصر لتصل إلى مرحلة حرجة يحصل فيها الصدام بين قوى المحافظة على صعيد الدولة وقوى التغيير على صعيد السياسة، وهذا الصدام هو ما يسمى عادة في الأدب السياسي بالثورة التي تحتمل النجاح في حالات معينة وتحتمل الفشل في حالات أخرى. وكانت ثورة 26 سبتمبر 1962 مثالا للنجاح قبل أن تنقلب عليها القوى التقليدية من داخل الجمهورية وباسمها، بينما كانت ثورة الأحرار الدستوريين عام 1948 مثالا للفشل، وقل مثل هذا عن ثورة 2011 التي أطاحت بسلطة الرئيس علي صالح وبمشروع التوريث الذي أراده لكنها سُرقتْ لتؤول أوضاع اليمن إلى ماهي عليه اليوم.
إن الثورة عندما تفشل تُصَنَّفُ كجريمة كبرى ويُصَنَّفُ الثوار كمجرمين خرجوا على النظام العام وأقلقوا السكينة العامة وعادة يعلقون على أعواد المشانق. أما إذا نجحت الثورة فتصنف على أنها ملحمة تاريخية والثوار يصنفون كأبطال استثنائيين ويكون اعتلاء سدة الحكم بالنسبة لهم استحقاقا ثوريا لا يجرؤ أحد أن ينافسهم عليه. وما أن يجلس الثوار على سدة الحكم يشرعون فورا في تنفيذ البرنامج الذي ثاروا من أجله الأمر الذي يضيف إلى شرعيتهم الثورية شرعية الإنجاز. وأثناء تنفيذ برنامج الثورة يتقلص التناقض بين الطبيعة المحافظة للدولة القديمة والطبيعة المتغيرة للسياسة إلى المستوى الصفري وتحدث انفراجة قد تستمر لعقود وأثناءها تغمر الجماهير حكامها بالحب.
لكن مهما طالت الانفراجة بين الطبيعة المحافظة للدولة القديمة والطبيعة المتغيرة للسياسة فلابد لها من نهاية تتراكم شروطها تدريجيا إلى أن يتشكل وضع ثوري جديد يفضي إلى لحظة صدام أخرى، وهذا بسبب الطبيعة المتغيرة للسياسية الناجمة عن الطبيعة المتغيرة لاحتياجات الناس ومطالبهم التي لا تتوقف. فالإنجازات التي تحققت تخلق عند الناس احتياجات ومطالب جديد تلتقطها نخب جديدة وتحولها إلى برامج سياسية تخاطب بها الممسكين بسلطة الدولة الذين في العادة يبدون قدرا كبيرا من الرفض والتصلب الناجم عن الطبيعة المحافظة للدولة، وبسبب هذا الرفض وهذا التصلب ينشأ وضع ثوري جديد، وهذه عملية تتكرر بشكل دوري في حلقة مفرغة يجد معها الجيل السابق من الثوار نفسه في حالة مواجهة عنفية مع الجيل الجديد تأخذ أحيانا شكل حروب أهلية تتسم بالمحدودية أو الشمول وتتعرض خلالها الكثير من مقدرات البلاد للدمار. ولهذا قيل عن الدولة القديمة أنها دولة غير تنموية.
لقد رأينا أثناء الربيع العربي كيف وقف قائد ثورة الفاتح من سبتمبر في ليبيا ضد ثورة الشعب الليبي وكيف أفضت مقاومته إلى حرب ودمار، ومثل هذا حدث في اليمن مع علي عبد الله صالح الذي كان يعتبر نفسه من أبطال الثورة اليمنية. وهذا كله بسبب الطبيعة المحافظة للدولة القديمة وتناقضها مع الطبيعة المتغيرة للسياسة. فمهما طال زمن الاستقرار وانتعشت التنمية فلابد من يوم يأتي فيه الدمار والخراب مادامت الدولة قديمة.
إن إزالة التناقض بين الطبيعة المحافظة للدولة القديمة والطبيعة المتغيرة للسياسة هو الأمر الجوهري والحاسم للانتقال من الدولة القديمة إلى الدولة الحديثة، وبدون إزالة هذا التناقض ستظل أعراض الدولة القديمة قائمة مهما كانت المسافة المقطوعة على طريق التحديث.
المجال العام والمجال الخاص:
الخطوة الجوهرية الأولى لإزالة التناقض بين الطبيعة المحافظة للدولة القديمة والطبيعة المتغيرة للسياسة هي التمييز بين المجالين العام والخاص ووضع حدود صارمة بينهما بحيث لا يتغول الأول على الثاني ولا يخترق الثاني الأول، وبدون هذا التمييز وهذا الفصل بين المجالين تصبح الدولة الحديثة من الأحلام التي لا تقبل التحقيق.
أولاً: المجال العام:
يتكون المجال العام من: الجيش؛ الأمن والشرطة وسلطات الضبط القضائي؛ القضاء؛ الجهاز البيروقراطي للدولة (الخدمة المدنية)؛ التعليم بكل مستوياته ومكوناته؛ العلاقات الخارجية والسلك الدبلوماسي ..الخ. وعند النظر إلى هذه المكونات يبدو واضحا أنها تمثل العام المشترك بين كل مواطني الدولة، وأنها جميعا قابلة للحياد المؤسسي المنضبط لمروحة متكاملة من الإجراءات والقوانين التي تحتم على هذا المجال أن يلتزم بما يلي:
1- الحياد المؤسسي من خلال الوقوف على مسافة واحدة من كل المواطنين دون أي تمييز على أساس الجنس أو العرق أو اللون أو اللغة أو محل الميلاد أو المعتقد الفكري أو الديني ..الخ.
2- النظر إلى كل فرد في المجتمع على أنه مواطن له حقوق وعليه واجبات يحددها الدستور ويفصِّلُها القانون ولا يهتم بما هو غير ذلك.
3- إقامة علاقة قانونية مباشرة مع كل فرد في المجتمع باعتباره مواطنا وحسب.
4- عدم المفاضلة بين المواطنين إلا على أساس المعارف والخبرات والمهارات التي يحوزها هذا المواطن أو ذاك والتي على أساسها تقاس أهليته واستحقاقاته.
ثانيا: مكونات المجال الخاص:
يتكون المجال الخاص من: المواطن الفرد؛ الأسرة؛ النقابات والاتحادات المهنية؛ الأحزاب السياسية؛ المعبد والكنيسة والمسجد (المؤسسة الدنية). وعند النظر إلى مكونات هذا المجال فإن أول ما نلاحظه هو تحيزاتها وعدم قابليتها للحياد المؤسسي. فالمواطن الفرد له تحيزات وله تفضيلات، وقل مثل هذا عن الأسرة وعن النقابات التي تتحيز لأعضائها والأحزاب السياسية التي تتحيز لبرامجها وأيديولوجياتها. أما الأديان فهي الأكثر تحيزا بين مكونات المجال الخاص وجميعها لا يقبل الآخر المغاير في الدين أو في المذهب داخل الدين الواحد، وجميعها يرفض الدخول معه في أي نقاش حول مسلماته، فما بالك بموقفها من الملاحدة واللادينيين واللاأدرية.
الفصل بين المجال العام والمجال الخاص:
ولإزالة التناقض بين الطبيعة المحافظة للدولة القديمة والطبيعة المتغيرة للسياسة قامت الدولة الحديثة على وضع حدود صارمة بين المجالين العام والخاص بحيث لا يستطيع المجال العام بما لديه من القوة والسلطة أن يتغول على المجال الخاص، وبالمقابل لا يستطيع هذا المكون أو ذاك من مكونات المجال الخاص بما هو عليه من تحيزات وتفضيلات أن يخترق المجال العام أو يصادره لصالحه. والحدود الصارمة بين المجالين العام والخاص ليست أسلاكا شائكة ولا هي أسوار اسمنتية وإنما ترسانة متكاملة من القوانين والترتيبات والإجراءات المؤسسية المسنودة بوعي مجتمعي ورأي عام مستنير وممانع لأي خروج على الدستور والقوانين.
العلمانية والديمقراطية في الدولة الحديثة:
لا تكون الدولة حديثة مالم تكن علمانية وديمقراطية في وقت واحد، فالعلاقة بين الديمقراطية والعلمانية في الدولة الحديثة علاقة ضرورية كالعلاقة بين أضلاع المثلث وزواياه. إن العلمانية بغير الديمقراطية تجرد الدولة من حداثتها وتتحول من منظومة إجراءات مؤسسية لضمان حيادية المجال العام إلى عقيدة استبدادية مهيمنة على هذا المجال ومتغولة على المجال الخاص. وفي المقابل بدون العلمانية تفقد الديمقراطية قيمتها وجدواها وتتحول من منظومة إجراءات مؤسسية تحمي المجال الخاص وتنظم تنافسه على السلطة إلى دعاية لخدمة القوى المهيمنة على المجال العام.
العلمانية للمجال العام والديمقراطية للمجال الخاص:
من العلاقة بين العلمانية والديمقراطية واضح أن فضاء اشتغال العلمانية هو المجال العام ووظيفتها ضمان حيادية هذا المجال بمنع أي اختراق له قد يأتي من المجال الخاص، بينما فضاء اشتغال الديمقراطية هو المجال الخاص ووظيفتها أولاً أن تحمي هذا المجال من أي تغول قد يأتي من المجال العام وثانيا تنظيم التداول السلمي للسلطة بين الأحزاب التي تمارس فاعليتها أساسا داخل المجال الخاص وتتنافس على السلطة من داخل هذا المجال.
العلمانية موقف من الدولة وليس موقفاً من الدين:
بناء على ما تقدم أصبح واضحا أن العلمانية هي موقف من الدولة وليست موقفا من الدين وأن الدولة الحديثة القائمة على الجمع بين العلمانية والديمقراطية لم تلغِ الدين -وليس بمقدورها أن تلغيه- وإنما حيَّزته وحددت فضاء اشتغاله الطبيعي داخل المجال الخاص. والقوى التي ترفض العلمانية هي عمليا ترفض حيادية المجال العام وتريد أن تهيمن عليه لعلمها أنها بدون هذه الهيمنة لا تستطيع أن تتغول على المجال الخاص.
إن عبارة “احتكار الدولة للسلاح” هي مجرد خدعة -وخدعة كبرى- مالم يكن المجال العام مُعَلْمَناً ومالم يكن المجال الخاص ديمقراطيا، والدولة المؤهلة لاحتكار السلاح هي فقط الدولة الحديثة القائمة على المزاوجة بين العلمانية والديمقراطية، وما عدا ذلك فإن من يحتكر السلاح ليس الدولة وإنما القوى المهيمنة على المجال العام للدولة، سواء كانت هذه الهيمنة للعسكر أو لتحالف قوى تقليدية أو لحزب اليمين أو لحزب اليسار أو لحزب الوسط.. لكن الأمر يكون في غاية الخطورة إذا هيمن على المجال العام حزب ديني لأنه في هذه الحالة سيحتكر السلاح واستخدام القوة باسم الله وسيصبح الاختلاف معه اختلافا مع الله.
ملاحظات ختامية:
1- مفهوم المجال العام ومفهوم المجال الخاص لا وجود لهما على الإطلاق في مخرجات الحوار الوطني مع أنهما مفهومان محوريان بدونهما يتعذر وضع خارطة طريق لدولة حديثة. ولهذا جاءت مخرجات ذلك الحوار على شكل توصيات للاستئناس بها في صياغة الدستور، علما أن أجمل الدساتير في العالم وأكثرها ديمقراطية لا يمكن أن تعطينا دولة حديثة مالم نمتلك خارطة طريق لبناء مؤسسات هذه الدولة على قاعدة التراضي والتوافق الوطني.
2- بدون صلاح الدولة وصلاح مؤسساتها تتعذر سيادة القانون.
3- صلاح الدولة ليس من بين اهتمامات المتحاربين في المشهد اليمني الراهن.
4- ستظل الدولة الحديثة هدفا بعيد المنال دون تحالف مدني واسع يبدأ اليوم قبل الغد متسلحا بخارطة طريق واضحة ومتضمنة لكل التفاصيل.