- عبدالكريم الرازحي
مرة وأنا في الراهدة وعمري تسع سنين قال لي عبدالله سيف صاحب المقهاية:
- يابن ثابت مرْوَحْ لاتِرَوِّحْش ارقد لك بالمقهاية وبكرة ربك شحول بمعدني يستأجر الحمار بدل ماترجع للقرية فاضي..
قلت له: شارَوِّح
قال: أين شتروح ياجني مطر غزير جهة الأغابرة والأعروق والأعبوس وسيول شتنزل من الجبال مو قدرك تجزع وادي الشوَّيْفِة والله لا يشلك السيل أنت والحمار !!
ولمدة ساعة وهو يراضي بي ويراجعنا وانا مصمم ارجع القرية وقلت في نفسي:
- لو جلست لا يوم ثاني شجي معدني يكتري حماري ويركب هو فوق الحمار لكن لو رجعت اليوم شااركب انا وشاقول لامي:
- مافيش معادنة ولالقيت معدني
والساعة الثالثة بعد الظهر تحركت من الراهدة، وكنت فرح والسبب اننا أول مرة أرجع من الراهدة وانا راكب ومفتهن وقبل ماادخل وادي الشويفة لقيت ثلاثة حمَّارة في طريقي وكانوا نازلين من “راس النقيل” وسألونا: - من اين انت ياابن ؟
قلت لهم : من”نجد الغلَّيْبَة “
ولم يكونوا يعرفون أين تقع “نجد الغليبة” وقالوا لي : - طريقكم وادي الشويفة!! والامعاكم طريق ثاني !!
قلت لهم: طريقنا وادي الشوَّيْفة
قالوا: هيا ارجع معانا الراهدة ارجع
وأنا اعترضت وقلت لهم: لموا ارجع ؟
قالوا: الوادي سيل دفر وانت جاهل والله لايشلك أنت والحمار مثلما يشل عجورة
قلت بيني وبين نفسي وانا مفجوع: - لو رجعتو الراهدة شقولوا اننا افتجعتو وعبدالله سيف صاحب المقهاية شقول لي:
- قاقلتولك يابن ثابت مروح لاتروحش لكن ماصدقتناش
وبدل مااسمع كلامهم وارجع الراهدة
قلت لهم: - مونا اهبل ششلنا السيل
قالوا: - ماذحين والله إنك أهبل ابن أهبل
قلت لهم: والله ماهبلان الا انتم
قال واحد من الثلاثة: أنت باين عليك بلاتربية نحنا ننصحك لكن انت مش حق نصيحة
ولما قال لي انت بلاتربية قلت له: أنت اللي بلاتربية
قال الثاني: ماعليكم من امه
وانا زعلت لما ذكر أمي وقلت: اللي يسب امي أيري بامه
وهو زعل وعصر حماره ناوي يلحقنا ويضربنا لأننا سبيت أمه
وبعدما شفتوه واجي جنابي نكشت حماري بالحُكَّال والحمار طار وكان خفيف والخرج فاضي وهو لماشاف حماره ماقدرش يلحق حماري رجع وانا فرحت، والحمار يومها أقتلب حصان وكان مثلي فرح وربما أكثر والسبب انه ماكانش في معادنة واصلين للراهدة من عدن لأن المعدني يحمِّل الحمار حمول ثقيل وفوق هذا يركب فوقه والحمار يتعب..
بعدما دخلنا الوادي وشفت السيل قلت بيني ونفسي:
- آذا السيل اللي يفجعونا به !!
وكان السيل مثل الساقية يمشي يمين الوادي وانا والحمار نمشي يسار الوادي هو في طريقه ونحنا في طريقنا لاهو يقرب لاعندنا ولانحنا نقرب لاعنده..
وكنا كلما مشينا السيل يكبر ويعرض ويتمدد ويرتفع وبعدما مشينا حوالى نصف ساعة كان السيل قد توحش و صوته زُوبه يفجع والحمار خايف ومن خوفه كان مستعد يستسلم ويسلم نفسه للسي، وانا مثله كنت خايف لكن كنت أصيح بكل صوتي، وكان في دار بالوادي فيه بنت أكبر مني بسنة أو بسنتين وكانت مليحة مثل القمر وكلما أجزع جنب دارها وانا سارح أو راجع من الراهدة قلبي يدق..
ويومها مع الخوف مادريت أيننا هل قاجزعت من جنب الدار أو عاده، وكنت أسال الحِمار والحمار من الخوف مش هو داري وفجأة سمعت صوت عجوز من سقف الدار ..
-” وايَابْ السيل ششلك اطلع طلع وعرِّض لَوْنَا “
ومن الفرح رحت أخبط الحمار أشتوه يطلع والحمار يرجع والعجوز تصيح وتقول لي:
-” الحمار ماشقدرش يطلع سيِّبه مو علوك منه”
وانا أقول بيني وبين نفسي:
- كيف اسيبه !! وكنت زعلان منه أصيح فوقه وأضربه بالحكال وأقول له وانا ابكي:
- “اطلع ياحمار ششلك السيل.. اطلع انا فدالك”
والعجوز تصيح من سقف الدار وتقول لي:
-” قلتو لك اطلع انت مو علوك من الحمار !! الحمار قَيْ يومه”..
لكن الحمار بعدما شافنا أبكي واضربه واضربه وابكي طلع من الوادي للعارضة، وبعدها سيبتوه بالعارضة ماعاد كان يقدر يطلع أكثر .. لكن كان بمكان آمن وبعيد عن الخطر وأنا طلعت للدار وبعدما وصلت ودخلت الديوان صيحت فوقي العجوز: - “موعلوك من الحمار !! موهو اخوك!! الحمار لوشله السيل شجي حمار بدله !!”
وقالت وهي تؤشر جهة الوادي:
” آذا وادي الشويفة سيله سيل وويله ويل وامك دعت لك والا كان السيل ششلك”
ولما شفت السيل بالوادي من طاقة الديوان افتجعت وقلت بيني وبين نفسي: - “لوكانت العجوز ماشفتناش كنت شاموت”
وشعرت لحظتها بحاجة للبكاء.. لكن البنت المليحة اللي قلبي يدق كلما جزعت من جنب الدار دخلت ومعاها مطيبة ملانتها حقين وجمبها صلعة ونسمت الحقين والصلعة دجاهي وجلست جنب جدتها وانا خلاص كان قلبي يدق بقوة ودقاته تزيد وتتسارع وكنت آكل العاس واهسِّف بالحقين واتفرج للبنت والبنت لما أشوف لاعندها تستحي وشفتوها تخافس جدتها بكلام ومن رد جدتها عرفت ما هو الكلام الذي قالته !!
كانت قد سألتها إن كنت سأنام عندهم أم سوف أعود إلى قريتي!!
وقالت لها جدتها كأنها تستغرب من سؤالها: - “كيف شروِّح والوادي سيل وقو مغرب!! شرقد اونا والصبح شبكر”
وعندما أخبرتها جدتها بأننا بانام عندهم شفتي فرحت وانا فرحت، لكن كنت فرح وفي نفس الوقت كان فيبي خوف وكنت خايف أبول فوق الفراش والبنت تكرهنا
وبعد ماكملت آكل العاس والحقين سالتنا العجوز وقالت لي:
-من اين انت ؟ وابن من انت؟ واين قريتك؟ ولمو امك تخلوك تسرح الراهدة وانت جاهل؟
واستفزتنا بقولها اننا جاهل وقلت لها: - مش انا جاهل قدنا بالصف الثالث
وسألتنا البنت وقالت لي: - مو هو الصبل الثالث ؟
قلت لها: الصف الثالث موش الصبل الثالث
قالت: مو هو الصف الثالث ؟
قلت: الصف الثالث بالمدرسة
قالت: مو هي المدرسة ؟
وسألتُ جدتها: مافيش عندكم بالوادي مدرسة ؟
قالت جدتها: مو هي المدرسة ؟
قلت لها: مكان يقرُّوابه العيال
قالت: هااا معلامة حق الفقيه
قلت: لا المدرسة ثاني فيها صفوف صف أول وصف ثاني وصف ثالث وصف رابع وفيها كراسي وسبورة وطباشير وفيها طلبة ومدرسين..
ورأيت البنت مستغربة وفي نفس الوقت تبدو مستحية وتشعر بالخجل لجهلها بكل هذه المفردات وبعد أن نهضت جدتها لصلاة المغرب سألتنا عن معنى الكلمات التي نطقت بها: مدرسة صف كراسي طلبة سبورة طباشير مدرسين ورحت اشرح لها وعندما عرفت بأننا اقرأ واكتب .. شعرت كأنها تتحسر على نفسها وأثناء ما كانت جدتها تصلي أقتربت مني وقالت لي: - مواسمك؟
قلت: عبدالكريم
قالت: تعرف تقرأ وتكتب من صدق !!
قلت لها: أعرف
قالت: لوانت صدق تعرف تقرأ وتكتب علمني كيف أكتب اسمي ..
قلت لها: مافيش معي قلم ولا دفتر ووعدتها في المرة القادمة سوف أشتري لها دفتر وقلم وأعلمها لكنها كانت مستعجلة وتريد أن تتعلم كتابة اسمها..
وسألتها إن كان في بيتهم لوح!! وخرجت تجري ورجعت ومعها لوح وبعد أن أحضرت اللوح طلبت منها أن تحضر سود وبعدما أحضرت قطعة من الفحم قلت لها:
- مواسمك؟
قالت: اسمي شمس
وبعد ما ذكرت الاسم علمتها كيف تكتب حروف اسمها متفرقة ثم كيف تكتبها مترابطة، وعندما عادت جدتها من صلاة المغرب ورأتنا أعلم حفيدتها كيف تكتب اسمها فرحت، وسمعتها تدعي لي من قلبها، وفي الوقت بين صلاة المغرب وصلاة العشاء.. جلست شمس تتدرب على كتابة اسمها وكتبته عدة مرات.. وعندما كتبته غيب صاحت من الفرح، وخرجت تبشر أمها وجدتها، وبعد إن دخلت جدتها وشاهدت حفيدتها تكتب اسمها صيحت لبنتها وكان اسمها قمر، وطلبت منها أن تحضر لترى بعينيها المعجزة التي حدثت في بيتها، وحضرت قمر أم شمس، وكانت قمر من صدق ومن شدة فرحتها راحت تحبب بنتها وتحببنا وتحملق مندهشة في الكلمات المكتوبة بقطعة الفحم عرض اللوح..
وسمعت العجوز تطلب من أم شمس أن تذبح الديك للفقيه اللي علم بنتها العلم كله في ليلة: - اذبحي الديك للفقي ياقمر والله إنه يستاهل علم شمس العلم كله..
وكدت أحتج واقول للجدة بأنني لست فقيها..
لكن البنت شمس أعفتنا من التوضيح وقالت لجدتها: - ياجدة عبدالكريم مدرس مش هو فقي.