- طارق السكري
دعوني اليوم أعرض عليكم نبذة من حياتي التي تصلح أن تكون قدوة صالحة في الضياع !بدأت حالة التضييع هذه في مرحلة الإعدادية .. في الثاني الإعدادي
بالضبط .. يوم عشقت فتاة فرفض أبوها تزويجي كنت في السادسة عشرة من العمر
تقريباً!! .. .. صرت أضيع الطريق .. طريق العودة !! أدندن بالشعر طول الوقت .. تلقفني طريق وترميني طريق ولا أصل البيت إلا بأعجوبة ! حدثت معي قصص
كثيرة ، ولو أني جمعت قصص ضياعي في شعاب المخلاف والعدين وصبر لأصبح لديّ
سِفراً من المضحكاتْ !
لماذا أطلق أصدقائي عليَّ : الشبيه بالناقة ؟!!
دعونا نبدأ من العُدَيْن
من العُدَيْن يالله ! يالله بريح جلاب
أرض العدين ؟! وما أدراك ما أرض العدين ؟!
مهوى الشعراء .. ومهبط الحسن والجمال .. تتلقاك الورود بكل طاقاتها الخصبة وانفعالاتها المتوهجة وألوانها الزاهية على الطريق منشدة : ( ياضيفنا لو
زرتنا ) !
لا أدري كيف غفل كتَّاب العربية عن أرض العدين ؟ أرض العدين
إنها قطعة من الشوق .. لا يغادر الشتاء ربوعها .. ينام السحاب بين حشائشها
الخضراء ، فهي مطلولة ندية .. يكاد الهواء العليل فيها من الغضارة والنضارة يصير مطرا ! غطت زهور الروابي عيون الشمس .. فالجو مقمرٌ عطِر ! صوت
العصافير يتسرب إلى عين الماء في رأس الجبل ، فيمتزج به ، فلا تغرف البنات
ماءً فحسب ! إنه كوثر من كوثرِ ! لتكاد القلوب تضيء عندما تشرب ذلك الماء
..هناك سكن طارق السكري السحاب كما قال أيوب طارش …. كنّا قد عدنا إلى
اليمن تلك الفترة فنحن من مواليد السعودية – ضحايا الأزمة – لم تلائمني
مدينة تعز .. فالتحقت بأخي .. كان أخي الكبير عبدالرحمن الدعيس يدرس فيها ، درستُ الثاني الإعدادي في العدين.. وهناك التقيتُ أول كتب الأدب ”
المستطرف من كل فن مستظرف” !!
… الحديث طويل .. دارت الأيام ، وعدت إلى العدين مرة أخرى للدراسة في معهد المعلمين أول ثانوي حيث لم يكن في المخلاف معاهد بعد .
سكنت في منطقة اسمها : الرِّيسْ .. ولكن لسوء حظي توجد منطقتين اسمهما :
الرِّيسْ في العدين !! ريس أيفوع وريس مذخيرة ! المسألة بسيطة جداً .. كانت واحدة تتبع محافظة إب وواحدة تتبع محافظة تعز ! أوه ! هاهي السيارة
الصالون
– السلام عليكم
– وعليكم السلام
– أريد أن أذهب إلى منطقة الريس في العدين .
– على الرحب والسعة تفضل !( قال سائق السيارة الصالون) ! وبدأت رحلة ابن
بطوطة المخلافي !انطلقنا من عصيفرة تعز عصرا , تصعد السيارة بنا جبلا وتهبط بنا واديا .. تشق بنا قلب الظلمات .. حتى إذا انقشعت ظلمة , غشيتنا ظلمة
غيرها, ولا ندري والله! أنحن في أعماق المحيطات التي قال الله عنها( ظلمات
بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ) ؟! أم أننا في غابة من الغابات
المشتجرةِ الأغصان فلا ينفذ إليها ضوء ؟!!
كان القات عاال العال ! وصلنا منطقة الريس الساعة الواحدة ليلا تقريبا وأنا سأقرح من البول ( أجلكم الله ) !
– هيا ياأخي وصلنا الريس . ( قال السائق وهو يتفقد أغراض الركاب )
مباشرة قلت : له غلطان هذه ليست الريس ! ( بعد أن جلتُ بعينيّ في أرجاء المكان) .
– ماذا ؟ أتعلمني أنت عن الريس؟ !
– قلت لك ليست هذه الريس !
– يافلان ! ما اسم هذه المنطقة ؟( السائق لصديقه )
– ومن لا يعرف هذه المنطقة إنها الريس ! (صديقه مجيبا باستغراب )
– ها ! هل اقتنعت الآن (السواق قائلا بصورة ساخرة ) ؟! كنت في الثامنة عشر من عمري تقريباً .. ولما رآني السائق وصاحبه أنه قد شحب لوني ! أخذته
الشفقة فأخذ يسألني من أنت ؟ وما اسمك ؟ وما بلادك ؟ وماذا تفعل هنا ؟!
كانت الأشجار العملاقة الكثيفة قد تحولت في خيالي إلى أموات خرجوا تلك
الساعة من قبورهم ! في تلك الفترة كانت مواسم الانتخابات النيابية أعتقد
أنها انتخابات 93 أخذني السائق إلى مقر اللجنة الانتخابية .
– ماخبرك ؟
قصصتُ لهم القصة !
– ( صاح الجميع ) أنت تريد ريس أيفوع !! ياللمسكين ! إن بينك وبين ماتصبوهُ بُعدَ المشرقين !
– وما الحل ؟
– الحل أن تنام وتنطلق في الفجر إلى السوق القريب من هنا وتأخذ سيارة ! لم يكن في جيبي من المال شيئا ! ألم أقل لكم أني كنتُ منتّفاً ؟! عندما خرجت
من القرية ووصلت مدينة تعز اشتريت بالمال الذي معي كتابين من تلك المكتبات
التي تفترش الشارع . لأني قلت : خلاص سأصل إلى سكن المدرسين وهناك آكل
وأشرب ! لا أزال أذكر أسماء الكتابين : عقيدة المسلم للغزالي وكتاب آخر :
أهوال القبر وعذابه !
المهم طلع الصباح .. فقررت أن أسافر على قدمي
إلى الرِّيس ! تحولتُ إلى جمل .. أخذتُ أخبط في تلك الوهاد والطرق من
الساعة الثالثة والنصف بعد صلاة الفجر من ليالي الشتاء القارس أخبط خبط
عشواء . ألهمني الله في مصيبتي تلك التسبيح ! تذكرت قول النبي صلى الله
عليه وسلم : من قال حين يصبح أو يمسي : حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات كفاه الله ما أهمه من أمور الدنيا والآخرة
أو كما قال صلى الله عليه وسلم !فوالله ياقوم! لكأني محمولا على أجنحة
بيضاء .. أين التعب ؟ لا تعب ! عبرتُ سوائل من الماء النمير لا تصل إليها
سيارة .. وهي من الجمال مايعجز سحبان في فصاحته ، وامرؤ القيس في شاعريته
على وصف مارأيت ! تسلقت جبالا لو أني في بطولة عالمية لكنتُ البطل المنتظر
في تسلق الجبال ! رأيتُ من الثعابين ما لا يَعقل معها عقل ! سرتُ شِعابا لا يسلكها إلا المجانين ! إن كانت هناك طرقا للسيارات قد مَهَدَتْها مع
الأيام , وإن كانت هناك طرقا للمارّة قد عبّدتها الأقدام ، فإني قد اخترعتُ لهم طرقا جديدة لا تصلح للسيارات ولا لبني آدم حتى ! كنت أفكر وأنا أمشي
لاهثا .. متصبب العرق .. متفتح المناخير .. في حديث من أحاديث المصطفى صلى
الله عليه وسلم في الصحيح : (إن الله زوى لي الأرض … ) ورحتُ أُجدِّفُ في معاني : زوى وطوى , لأن في دعاء السفر المعروف : (اللهم هوّن علينا سفرنا
هذا واطوِ عنا بعده ..) في تلك الأيام لم أكن قد حفظت دعاء السفر بعد !!
الثانية عشرة ظهرا .. نزلتُ كالصقر قمة جبل شاهق ! لو خيروني في اختيار
اسم لهذا الجبل لأطلقت عليه : أبو الجبال على وزن أبو صياح ! أبو الجبال
هذا هو جبل واحد لكنه مثل حيوان الكنغر ! تظنه يمشي وحده وفي كيسه خمسة من
أطفاله ! كان يضم مجموعة من الجبال التي هي دونه في الضخامة والجلال !
أحيانا كان لساني ينطلق بالسؤال فأسأل ، وأحيانا يلتصق بسقف حلقي ! كان
المطلوب مني حسب وصف المارّة ، أن أنزل أسفل الوادي حيث الأنهار والعيون
وأشجار العمب (المانجو) ثم أصعد جبلا آخر موازيا لأبي الجبال .. لو كنتَ
أسفل الوادي ورفعت رأسك عاليا .. لرأيت فارسان عظيمان .. هناك في السماء .. متقابلان وجها لوجه .. يهمّان بالمبارزة ! وهل أبو الجبال هذا جبلا ؟! ألا يوجد في اللغة اسما أكبر ؟!! كان عليّ أن أقف ! ولكن ماذا أقول ؟ بلغ بي
الإنهاك مبلغه فوقفت على حافة جبل .. فقررت أن أقفز إلى هضبة أسفل منها
صغيرة ! هي في الحقيقة هاوية ولكنها كانت تبدو في ذهن الإنسان المتعب صغيرة جداً !
وما عليّ لو قفزتُ ؟ أتظنون أني أمزح ؟! ثنيت قدمي وبدأت أزحف
على صدري رويداً رويداً .. انحنيتُ برأسي قليلا .. متأكدا من ثبات قدمي حتى لا أهوي على رأسي .. وقلبي ! لا أقول تخفق نبضاته، وإنما أقول أصيبت
نبضاته بالهستيريا ! كنتُ كشجرة الصنوبر تميل برأسها منحنيةً للعاصفة
وأقدامها راسخة في الأرض ! رأيتُ أسفل مني صخرة ملساء عظيمة .. يتدحرج
عليها شلال دافق من المياه كأنها تيارٌ من الفضة ! لا أعلم منبعه بالضبط ،
فالجبال متداخلة في بعضها كأنها أشجار غابة ! قلت في نفسي :لم لا أقفز
كأبطال هوليود كونان ورامبو ؟!!! استعنت بالله ! كان في يديّ كتابان كما
قلت لكم ! كتاب عقيدة المسلم باللون البرتقالي ، وكتاب عذاب القبر وأهواله
باللون البنفسجي ! وجاء وقت الانبطاح ! انبطاااااااااااااااح ! فانبطحت
أرضا .. حشرتُ يدي بين الصخور .. ألقيتُ بقدميّ نحو الهوة .. مستعدا للقفز
!أقدامي متدلية الآن ! لا تقف على شيء !نظرت نظرة خاطفة للأسفل .. صوت
الشلال وهو يرتطم بالصخور ، كأن رجع الصوت برقٌ يغمغمُ وراء السحاب الملتفّ ! عندها بدت لي المسافة بعيدة جداً !!
نظرتُ إلى إحدى يديّ .. كتاب
عقيدة المسلم ، وفي يدي الأخرى كتاب أهوال القبر وعذابه ، ما زلت مصراً على التمسك بهما !! وأخذت تتصارع في ذهني وأمام عيني صورتان متناقضتان عجيبتان !
تمثل لي كتاب عقيدة المسلم على هيئة فارس ملثم .. قوي الجنان .. شديد البأس وهو يقول :
أيُّ يوميَّ من الموت أفر ؟
يوم لا يُقدر أو يوم قُدر
يوم لا يقدر لا أحذرهُ
ومن المقدور لا ينجو الحذر
فتأخذني الحماسة .. فأهمُّ بالقفز ، فيتمثل لي الكتاب الآخر عذاب القبر
وأهواله على صورة رجل حكيم .. يرتدي عمامة بيضاء وثوبا أبيض عليه مشلح
ٌأبيض ، يقرطق بمسبحته قائلا : أين ستذهب ياولدي :
هل علمتَ الموتَ
وسكرته , والقبر وضمتَه , ومنكر ونكير , ولفحٍ وسعير ؟! فتأخذني هيبة الموت وجلاله, فأعدل عن قراري واختار السلامة فأهمُّ بالصعود ! فيبرز لي الفارس
الملثم ,وقد أماط اللثام عن وجهه هذه المرة , وهو يقول ملوّحا بيديه في
الهواء :
فصبرا في مجال الموت صبرا ..
فما نيل الخلود بمتسطاع ِ
فأرى في لهجته نبرة صدق !وتسكن الأصوات من حولي فلا أسمع شيئا !فأقول لقد
نطق بالحق !لذا أجابته الكائنات خاشعة ، فأهمّ بالقفز ! فيبادرني الشيخ
الجليل : يابني تمهل .. يابني تمهل ! والله لقد ارتحلت الدنيا عنى مدبرة ،
وأقبلت الآخرة إليّ مقبلة ، وما أبغي غشك ! فاسمع من ناصح أمين :
إن
القبر له أهوال .. إن أطبق عليك فليس ثمة منقذ سوى عملك ! أنت مازلت صغيرا ! هل تضمن لك عملا يدرأ عنك النار ؟! فأحس ضيقا في صدري وأقول لعل هذه علامة على صدق هذا الشيخ ! ولا أزال بينهما على هذا الحال من التجاذب والتنافر
..مرة أصعد ومرة أنزل .. أصعد أنزل ، كأنني الطائر القلق ! حتى آثرت
السلامة فصعدتُ .. تدحرجت بعض الحصى وذرات التراب نحو الجرف .. ولم أسمع
لها صوتا .. فعلمتُ أن الله قد أنقذني بنصائح الشيخ ! وما هي إلا لحظات حتى أقبلت راعية صغيرة ترعى أغنامها ,فرميت الفارس الملثم والشيخ الجليل وراء
ظهري ,وانطلقت كسهم من ضوء إلى طريق الأقدام حتى نزلت الوادي .. نزلتُ
الوادي أخيرا .. ولكن ! بقيت آخر مرحلة وأصل إلى مطلوبي من ( الريس ) هبطت
سائلة بين جبلين عظيمين من جبال الدنيا .. سائلة تنبع عيون الماء فيها من
الأرض كالنوافير .. الصخور الملساء المندفعة من الجبال قد تناثرت في كل
مكان جراء السيول .. اتخذ الناس لهم حقولا ومزارع على جوانب السائلة بعد أن أعملوا فيها قليلا من الردم ، مما جعلها ترتفع قليلا عن مجرى السيل !
أشجار العمب (المانجو) في كل مكان .. أشجار البن تعبق بالروائح الزكية ..
اتخذ البنات من الصخور المتناثرة حبل غسيل .. فأخذن ينشرن الملابس على
ظهورها في صخب من الأحاديث الناعمة وأهازيج الفلاحين وحفيف الأشجار!كان ذلك الوادي من جنان الله يسمى (بني ورد) لو كان الجو رجلا لرأيته مترنّحا
كالسكران من عبق الوادي !!
شرعتُ في طريقي صاعدا قمة الجبل بعد أن
استجممتُ وشربت من تلك العيون الفوّارة .. فكأني نشطتُ من عقال ! لم يأخذ
تسلق الجبل مني جهدا كبيرا ، لأني وجدتُ رفيقا يريد ما أريد من الريس ..
وصلتُ منطقة تسمى (الحقل).. في منطقة الحقل هذه ، كان فيها مجموعة من
المدرسين من أرض المخلاف وشرعب ، وكان من ضمن المدرسين أولائك ابن خالتي
صديقي ورفيق عمري فواز الدعيس ! وابن خالتي مجمد منصر والأستاذ مصطفى علي
سرحان .. وآخروان .. أدباء كبار ، وصلتُ تقريبا الساعة الثانية ظهرا ،
وقصصتُ عليهم القصة ! طبعا لم يعرف أحدٌ من المدرسين الحدودَ التي جئتُ
منها ! وما أدراهم بحدود السماء ؟!فكان أن استعانوا بأهل الخبرة من سكان
المنطقة التي يدرسون فيها ، فلما علم أهل المنطقة بالأمر ، فغروا أفواههم
من الهول ! في ذلك اليوم .. لقبني الناس : الشبيهُ بالناقة !
أيام مرت كالأحلام !
اليوم وأنا على صفحتي في الفيسبوك التقيت على الخاص الأستاذ مصطفى علي
سرحان بعد غياب أكثر من خمسة وعشرين سنة ! فأخذنا نتذاكر المعلقات التي كنا نرويها تلك الأيام
فقال الأستاذ مصطفى على البديهة
سقاها الله من أيام :
رعى الله تلك البقاع الملاحْ
وذاك الجمال وعبْق الصباحْ
فتحمست .. فقلت فوراً :
وجيرانْ “في الحقل” خيلٌ عتاقٌ
بسطن الهوى في الذُّرا والبطاحْ
وطيرٌ إذا ما اصطبحنا .. أقامَ
يزوِّدنا بالمُدامِ الصُّراح
ووديان ” وردٍ ” وينبوع نهرٍ
يسلسل فوق الصخور الرياحْ
كأنّ “بسائلةِ الوردِ” روحٌ
من اللهِ يحضننا بانشراحْ
مكثنا نصلي بمحرابها
كأنّا على سدرةٍ للأقاحْ
تجلّى لنا الشعرُ في عرشهِا
وصرنا حِماهُ الذي لا يُباح