- كتب: أحمد السلامي
تشعرك الكتب الاستثنائية بالامتنان وتدفعك إلى القول: كان على أحدهم أن يكتب هذا العمل. وقد فعلتها غادة الخوري، وكتبت رواية “يوم نامت ليلي” (الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، 2021)، إذ شذبت غابة أحزانها على أمها، وأنجزت عملاً سردياً، سيأخذ مكانه على رف البواكير التي تولد ناضجة، بل ومدهشة.
إنه عمل في مديح الأم واستعادة ما كانت عليه، لأجل توديعها واستبقائها في الآن ذاته حية في الذاكرة. وتمضي الرواية في هذا الاتجاه، لتجعل القارئ يرى في شخصية ليلى كل الأمهات، كما يرى في غادة كل الذين مروا بتجربة الوداع الإجباري للأم، بفعل المرض اللعين. وهنا تتكئ الكاتبة بوعي وشجاعة على درس عظيم في الأدب، مفاده أن كل ما هو حقيقي وصادق بمقدوره أن يصل، وأن يعبر تلك الحدود الفاصلة بين الذات والعالم، ليغدو جوهرياً وإنسانياً ومؤطراً بالعمومية لدى المتلقي.
يستقي سرد غادة الخوري جمالياته في هذا العمل من المواجهة الصريحة مع الشعور الشخصي بالفقدان، والذي سرعان ما يتبرعم في وعي القارئ، ليغدو بالضرورة تعبيراً عن ألم الكائن البشري، وحيرته الأبدية تجاه لغز الموت.
وبسردها المستيقظ لحساسية الكلمات، تحقق الكاتبة تقاطعاً مع التجربة الإنسانية العابرة للجغرافيات والثقافات، ليضاف اشتغالها إلى لائحة الأعمال الأدبية التي تجرأ ت على مقاربة حياة أولئك الذين تتآكل أيامهم الأخيرة وتنطفئ شموع أرواحهم بفعل السرطان. ومعلوم أن فصل المرض في كتب الأدب يتسم بقدر كبير من الرهافة المؤلمة، كما يمتاز بإظهار هشاشة البشر وضعفهم، بقدر ما يبرز جمال الروح الإنسانية في اللحظات الحرجة.
أرادت الكاتبة أن تنجز عملاً سردياً تعيد به استحضار حياة الأم الراحلة، لكنها أنجزت للقارئ في النهاية كتاباً عن كل الأمهات اللواتي يرحلن، ونظل نحلم لو أنهن فقط نائمات، وأننا في انتظار استيقاظهن ليعدن إلينا.
إنه نوع من الكتابة التي تميل دوافعها الأولية ومحفزات الشروع فيها إلى تحقيق خلاص شخصي، وإلى تصفية الحساب مع الفقد والأحزان. لكن النص حين يغادر صاحبه يصبح ملكاً للجمهور ولقواعد التجنيس الأدبي والتلقي والنقد.
وبالرغم من أن الرواية تسرد جانباً من حياة الأم ضمن منولوج داخلي، على هيئة رسالة تستبقي بها الكاتبة والدتها لتخاطبها مباشرة، إلاّ أن النص سرعان ما يمتلك منطقه، ويشرع في بناء معمار حكائي، يدفع القارئ إلى الاندهاش لنجاح الكاتبة في الإفلات من سطوة المنولوج، والانتقال من صيغة مناجاة الأم، إلى إعادة بناء حياتها وحياة بعض المحيطين بها.
ويضعنا السرد بعد ذلك في أجواء زمن ممتد من الكفاح الإنساني القابل للتعيين داخل عائلة لبنانية، كانت ليلى تشكل فيها الدينامو أو المغناطيس الذي يجذب أفرادها. كما تضعنا الرواية في أجواء عائلة كوزموبوليتية، للنساء فيها جذور وهويات متعددة، تمتد من إيطاليا إلى فنزويلا والبرازيل والضيعة اللبنانية وعالم الشرق.
إنها حكاية تُروى للأم النائمة في العالم الآخر، تعلف بها الكاتبة النسيان حتى لا يستيقظ، وتذكرنا بالوظيفة السحرية الأزلية للسرد كما خلدتها الأعمال الشاهقة، إذ يبدو للحكي فيها مهمة أخرى أبعد من بناء الأحداث، كما هو الحال في ألف ليلة وليلة كمثال خالد، حيث كانت شهرزاد تعلف الملك شهريار بالحكايات الناقصة التي لا بد لها من الاكتمال. وحكاية “يوم نامت ليلى” ليست سوى الثمن لتأجيل النسيان، لا بل محوه نهائياً.
وما من كاتب لا يطمح في أن يحقق له عمله الأدبي حلم الخلود. إلا أن الكاتبة كانت مهجوسة في هذا العمل بإعادة تركيب حياة الأم ليلى والجدة روسا والخالة جوزفين، فأنجزت رواية تبدو كما لو أنها رسالة طويلة، مكتوبة بتقشف لغوي، في مقاطع لا تخلو من شعرية موازية للشعور بألم الفقدان.
وإذا كانت الجدة روسا قد اطمأنت على خلودها في صوت ليلى، فإن غادة الكاتبة أرادت أن تطمئن على خلود الجميع في ذاكرة ليلى، فراحت تروي لها وهي في نومتها الأخيرة ما أمكن من أحداث الحياة التي مضت. ولتعزيز رغبتها في تخليد والدتها ومقاومة النسيان والإصرار على منح السرد حياة واقعية، جعلت الكاتبة صورة ليلى تتصدر غلاف العمل، وأعقبت النص بصور فوتوغرافية، تعمدت أن تستبقي بها ليلى في كافة مراحل عمرها، من الطفولة إلى مرحلة الأمومة، من دون أن تظهر لها صورة في شيخوختها وأيامها الأخيرة حتى لا تهيمن على ذاكرتها.
وثمة معنى مضمر في ثنايا السرد، إذ تفصح الكاتبة ضمنياً عن مفهومها للنسيان، وأنه يمكن أن يصبح أحياناً عقاباً وتجاهلاً مستحقاً، بينما لا يليق التذكر ومحو النسيان إلا بمن نحبهم. وقد أرادت أن تؤطر حياة الأم ومنطقها وكبرياءها وسموها فوق الآلام داخل لوحة روائية، في استعادة ذكية للحياة ومقاومة للبعد الفعلي للموت، بوصفه ليس غياباً للجسد فحسب، بل وللمعنى.
تمنح الرواية للقارئ ما يبحث عنه من معمار حكائي، يمكن العثور عليه في السيرة الضمنية الغائمة بوضوح خفي لشخصية الجدة روسا، التي تستحق عوالمها رواية مستقلة. لكن الكاتبة كانت معنية أكثر بإعادة خلق الأم الغائبة في الحضور الأبهى والأكمل، وبوصفها النائمة التي كانت تستيقظ في طفولة ابنتها، الرافضة لموتها، بدءاً من عنوان العمل: “يوم نامت..”
لقد فعلتها غادة الخوري، ونجحت في إعادة بناء ألبوم العائلة بالكلمات، وفي القلب منه ليلى الأم، التي لأجلها تعزف موسيقى الحكايات كلها، ولا يحضر الآخرون إلا بوصفهم ينتمون إلى متن ذكرياتها وعوالمها. وهذا ما يبرر استعادة الكاتبة لحياة روسا وجوزفين المدهشتين أيضاً، وإلى جانبهما بعض الوجوه والأمكنة والطقوس. كما لو أنها تسند حياة أمها بحيوات أخرى، لعلها تنهض من جديد. تماماً كما يربط أحدنا ساق وردة ذابلة بأخريات، ثم يحاول سقيهن. وبالكتابة سقت المؤلفة حيوات متشابكة الأغصان، لتزهر بأشواقها ومسراتها وآلامها كذلك في وجدان القارئ.