- أحمد السلامي
هناك شاعر يتغنى الصوفيون بقصائده في ثلاث دول عربية وربما أكثر، وبالتحديد في اليمن ومصر والسودان، إنه عبدالرحيم البرعي الذي ينسبه البعض إلى غير موطنه، بينما لقبه (البرعي) يشير إلى بلدته التي هي (بُــرَعْ) من جبال تهامة في اليمن.
الأرجح أن للسودان برعيها، وإن كانوا يخلطون بين قصائده وقصائد البرعي اليماني، وإن شئنا الدقة والقول الأسمى لا القول الفصل، فقد انتمى البرعي لعالم الشعر المحلق في ملكوت التصوف، من مدخل المدائح النبوية والتغزل حتى بالطقوس والعبادات والغوص فيها بكيان من كلمات، أما الجسد فقد جعله سائحا ينقاد وراء من يحب السماع ويصغي بلهفة إلى مناجاة عبدالرحيم لربه:
واسأله مسألة وفضلا إنه
مبسوطتان لسائليه يداه
يقال إنه ذهب إلى الحج، فلما سمعه حجاج من مصر وهو يقرأ من شعره أثناء الطواف، تحلقوا حوله ولم يتركوه، ولما انتهى موسم الحج سافر معهم إلى مصر، وهذا يفسر ذيوع قصائده في مصر واستمرار طباعة ديوانه فيها.
و لا أعرف ما الذي يجعلني كلما شعرت بالضيق ألجأ إلى إنشاد أبيات من شعره، أجد فيها ما يريح النفس وما يقطع حبل التعلل بالعباد، والسمو فوق كل احتياج أو أمل.
ومنذ الطفولة وقع بين يدي ديوان البرعي، بطبعة قاهرية شعبية (مكتبة الفجالة)، ويظهر حرص مصدر الطبعة المصرية المتداولة على الإبقاء عليها متداولة وحاضرة، ربما لكثرة الطلب عليها.
قف بالخضوع وناد ربك يا هو
إن الكريم يجيب من ناداه
تبلغ معه قمة البهجة والانشراح والطرب بالمعنى كلما قلبت صفحة تلو أخرى وأنت تتصفح ديوانه، ليأخذ بيدك إلى عالمه الذي يقربك من دنيا أخرى، دنيا فيها الحب الإلهي علاج لكل شجن ودواء لكل وجل، وها أنا بعيد عن مكتبتي ولست أدري هل هذا المطلع للبرعي أم لجابر رزق، فهما علامتان في هذا اللون من الشعر الذي يجمع بين الجنة والنار، جنة القرب ونار الفراق:
دع ماسوى الله واسأل
مولاك إن الذي أنشاك ما رد سائل
وفي هذه القصيدة من عجيب الغزل الصوفي ما يرتقي إلى التماهي مع الجماد وبث الروح فيه:
ما لي أرى الخصر ينحل
من لمس بعض الأيادي أصبح الخصر ناحل
أتدرون بخصر من يتغزل؟
الجواب في القصيدة نفسها، وفيها حالة نشوة تتملك المستمع، سواء كنت تصغي إليها مغناة بصوت مطرب تصاحبه الآلات الموسيقية، أو بصوت منشد يترنم بها ويجعلك تسرح بخيالك، فلا تعلم أين أنت، ولا ما الذي تريده من الدنيا، وقد جعلها عبدالرحيم محطة عابرة للوقوف على الجمال الذي يشع من الداخل. الجمال الإلهي الذي ينقذك من كل شيء كلما أردت أن تهرب من فوضى الروح إلى النقاء.
كل شيء منكم عليكم دَليل
وَضح الحق واِستَبان السَبيل