مقطوعة من مقيل جحملي
- د. عبدالعزيز علوان
إلى الدكتور نبيل سفيان
الحرب التي ثقبت رصاصاتها صدر النوافذ وكسرت مقذوفاتها أضلاعها، وتساقط على إثرها كسفا من بلاط السقف على قاعة الغرفة، لم تزل شاهدة إثبات على حدوث هذه الحرب و لم تزل تتلمس طريق التمني لعودة الشفاء الى احيائها التي كانت متآلفة مع كل شيء فيها.
الهدوء المنساب في أنفاس الجحملية يمتد طولاً وعرضاً باتساع أفق المدينة تعز، الذي يعزف على أوتار الغبار أوجاع كل أحيائها.
قوست الأمكنة كهولتها المبكرة، فأنى جُلت ببصرك لن تر سوى سقوف نكست رؤوسها الكانت عالية، وأنى عدت ببصرك كرتين إلى نوافذها لن تَطعم من مرآها سوى مدلهم الحسرة والأسى.
لأول مرة أدخل الجحملية منذ الحرب، وقبلها مررت بالطريق إلى مشفى العسكري، وبمشوار عارض وجدتني أطوف بجولة حوض الاشراف وحول مؤسسة المياه.
لم تزل كل هذه الأحياء شاهدة حرب أعجز عن تخيل وقائعها ومواقعها وضحاياها وجراحاتها التي تتوكأ عليها في طريق البقاء المحاصر والعودة المتخلية.
ساعات قضيتها أمد طرفي إلى ما وراء مشفى الثورة، وأنا أصغي لمعزوفة المدينة على أوتار الغبار.
لم ينتصر حتى الآن سوى الخراب، ولم يبق من أحد يتشبث به سوى أولئك النزوح بأشواقهم التي عاشوا واقعيتها ذات يوم، ولم تزل عالقة بذاكرة الأطفال في ألعابهم التي كانوا يعلبونها مع أزقة هذه الأحياء.
ساعات قضيتها بين عالمين فيزيائيين العالم المدرك بأحاسيسه، همساته، لمساته، تذوقه ورائحته، والعالم الغير محسوس بإحتمالية مآلاته ولا واقعيته التي صارت تشكيلات من ميوعة ما بعد الحداثة.
خفيفا كظلي، (أعود ثلاثون عاماً وخمس حروب) حسب محمود درويش، وثمة فارق بيننا، يكمن في الإدراك، فهو مدرك تماماً عودته لتلك الحروب، وأنا لم أدرك أبعاد حرب هذه الحرب.
يستطيع رصاص القناص أن يتنزع حلمة ثدي المرضعة من فم رضيعها، قبل أن يصل إلى سمعها صوت ابنها عبر الهاتف الخلوي من الضفة الأخرى..
تُحرق إغماضة الجفن عيني إذ أحاول النوم، افتحها، فأرى توجع هذه المدينة بكل أحيائها في وريدي، وأصغي إليها، أحس النوافذ شديدة التأوه في دمي، والمآذن تساقط نظرتها بيني وبيني، وأشاهد في سهادي اللئيم، تلك النجوم الكانت معلقة في سمواتها، تزحف في كسل ضامر اللمعان نحو اللا أفق.
- تعز 23/7/22