- كتب: فارس العلي
توحيد الزمن مركب أساسي في عمليات تشكل هوية الجماعة الإنسانية، ومفهوم “اللحظة” مفصلي في سياقها. في عهود الإمبراطوريات، كانت عمليات توحيد الزمن للجماعات المختلفة أمراً مستحيلا، بسبب غياب التقنيات التي تكسر عامل الجغرافيا، وهكذا ظلت الإثنيات والجماعات تكتلات صلبة، بالإضافة إلى غياب المفاهيم والأفكار التي في وسعها تشكيل مشترك اجتماعي، يجعل الجماعات تعيش “لحظة” واحدة، ومع بداية العصر الحديث، ظهرت ثلاثة أمور مفصلية: المطبعة، الدولة الوطنية والقطار.
ومع ظهور الدولة الوطنية، أصبح هناك حكومة مركزية وجيش وطني ومؤسسات قانونية تحاول تغطية كامل جغرافيا الجماعات التي تصبح بعد ذلك، في نقلة تاريخية، “مجتمعا”، وعمليات توحيد الزمن الاجتماعي هذه هي التي جعلت من الثورة كما نفهمها، اليوم، أمراً ممكناً، فالمجتمع يتمكن، بفعل ممارسات السلطة وبنيتها الحديثة، من تنظيم إيقاعه، وتخيل لحظة واحدة مشتركة، فيثور على السلطة، لأنها لا تعيش زمنه! وقل الأمر نفسه عن رؤية الأطراف المركز.. ولهذا، يمكن القول إن الثورة منتج حديث، لا من حيث صفتها البنيوية رفضاً للظلم، فهذا أمر قديم، بل من حيث إيقاعها وشمولها الشرائح الاجتماعية.
خلق لحظة واحدة للمجتمع ليست دوماً عملية جيدة، فحين يغيب جدل المجتمع والنظام في هذه العملية، لصالح النظام، نكون أمام إحدى أوضح علامات الأنظمة الفاشية، فهي لا تترك أي فرصة للمجتمع، لكي يشارك فيها ، إلا في أضيق الحدود، وعن طريق النظام وطبقا لرؤيته، وهذا أحد الأسباب التي تقود المجتمع بعد الثورة على الأنظمة الفاشية، بتأثير من عوامل تاريخية واجتماعية متشابكة، إلى مرحلة تشظي الزمن، فتظهر جماعات طائفية، تحاول إيجاد سردية تاريخية خاصة بالطائفة أولا، وثانياً إيجاد لحظة واحدة. ولكن، ليس للمجتمع بأكمله، بل للطائفة في بلدان أخرى، فتكتب الكتب وتطلق الخطب وتنشأ تيارات سياسية وينتشر خطاب ديني يتغلغل في بنية التدين الشعبي، يتحدث عن مؤامرات ومظلوميات تتجاوز الجغرافيا لتشمل الطائفة أينما حلت، وهكذا تتخلق الهوية الطائفية الجديدة، ويتشظى الزمن الاجتماعي.
مع ثورة الاتصالات الحديثة، كان ظهور وسائل التواصل الاجتماعي الافتراضية مهماً، فهي، من ناحية أولى، تجعل لحظة الأفراد واحدة بكل يسر، وبما توفره من عنصر تفاعلي مباشر. إنها كحيز تفاعلي، تميزت عن كل التطورات التقنية/الاجتماعية السابقة، ويمكن القول إن وسائل التواصل الاجتماعي تعتبر أعظم كسر لحواجز المكان حتى الآن، ما جعل آلاف من الشباب العربي تخرج، في وقت واحد، في 2011 بدون لقاء فيزيائي مسبق، مع التحفظ على عمليات الأسطرة التي تكرس لهذه الجزئية، واختزال تفاعلات المجتمع فيها، لكنها تفتح المجال لتوحيد زمن البشر، وليس المجتمع الواحد أو الأمة الواحدة فقط، وإن كان الأمر مجرد إمكانية نظرية يحاول المعتنقون فكرة العولمة عقيدة، إثباتها عمليا، بتسطيح شديد للتاريخ وتعقيدات العالم، متناسين أن توحيد الزمن يحتاج عناصر أخرى متشابكة أهم بكثير من الحيز التفاعلي بين الأفراد أو التبادل التجاري بين الدول.
المواطنة أهم تمظهر حديث لفكرة توحيد الزمن الاجتماعي بإنتاج لحظة مشتركة، وبدونها لا يكون لكل العمليات التي تقوم بها الدولة، في هذا السياق، أي ثبات وإمكانات صمود، فبمجرد تصدّع النظام وسقوطه، يطل الزمن المتشظي برأسه على الواقع، وما الهروب إلى الهويات الطائفية، والنزعات العنصرية، والحروب الأهلية إلا تشظ للزمن، ويصبح لكل “جماعة” زمنها الخاص والمنفصل، ويصبح المواطن مجرد “آخر”، فهي جميعا تطعن الهوية الثقافية في مقتل، ويصعب بعدها إرجاع المجتمع إلى لحظة واحدة مشتركة، لأن تفجرات الزمن والهوية تترافق مع تطور للمظلوميات، والتحدي الكبير أمام الطلائع الاجتماعية العربية تجاوز هذه اللحظات الصعبة التي يعيشها العالم العربي، وعدم الذهاب إلى “الأفكار” الكارثية تحت ضغط الواقع.
على هذه الطلائع أن تتجاوز أفكار الأنظمة الفاشية عن الزمن الاجتماعي، وتجاوز تشظية الزمن على أيدي مسيسي الطوائف والأعراق والسلالات، والسعي إلى لحظة اجتماعية مشتركة، تنتجها دولة مواطنين ديمقراطية، وهوية قائمة على مشترك ثقافي، وأحلام ومشاريع اجتماعية/قومية عادلة.