- ضياف البراق
ما أجملَ أن يكون الإنسان نقيًا من الداخل، فارغًا من جميع كوابيس الحياة. “الفراغ”، هذه الكلمة الشاعرية صرتُ أعشقها كثيرًا، إنها تمنحني الشعورَ العميقَ بالحرية. الباص الممتلئ بالرُكَّاب أكثر ضجيجًا من الباص الفارغ. الضجيج لا يأتي من الخواء، بل يأتي من النفوس الممتلئة بالكراهية والمفاهيم المغلوطة والغرور. الفراغ ضد الغرور. الفراغ ضد البشاعة. الفراغ ضد امتلائي بالأوهام والطموحات وضجة الفِكْر. عندما يمتلئ قلب الإنسان بالنقاء، يغدو فارغًا من الفوضى القبيحة. أنا فارغٌ الآن، ولا أشعر بالتعب ولا بالقلَق. الأنقياء هم الفارغون من ظُلُمات هذا الواقع القبيح. في الفراغ، يسترخي قلبي وينمو كروح الصوفيّ المُختلِف. الفراغ يعني القناعة وعدم الركض وراء الملذّات. الفراغ، بالنسبة إليَّ، هو أن أعيش حياتي في طهارة عميقة، وبعيدًا عن الخوف من أيِّ شيء. لا بُدَّ أن أمشي على الماء، كالمسيح، وأن أكون شجاعًا دومًا مثل سقراط. الثقيلون يغرقون في المستنقعات.
لا يُتعسِني الفراغ بل يُسعِدني. حين أشعر بالفراغ، أشعر معه بالسلام الداخلي. سوف أعيش فارغًا كالنقاء. وفي زمن الحرب، طبعًا، ليس من السهل على الإنسان أن يعيش بنقاء، أو يتجنّب المخاطر. بالرغم من ذلك، سأحيا نقيًا. هناك من يُقلِقُهم الفراغُ، ويُمزِّقُ نفوسَهم. أنا على العكس من هؤلاء، أتشبّث بالفراغ كي لا أغرَقَ مثلهم في عبثية الظلام. حين نبلغ مرحلةَ النقاء، عندئذٍ نكون قد خرجنا فعلًا من الفوضى الثقيلة. الفراغ هو روحي الخفيفة الطاهرة. أنا خارج الحياة وخارج الموت في وقت واحد. ثم، هل من الحكمة أو الجمال أن يتحول المرء إلى سلة للنفايات؟
جاهل من ينتمي، جاهل من ينحاز، جاهل من يطمح، جاهل من يسعى وراء السراب، جاهل من يبني سياجًا حول نفسه..
فهذه أوهام وسجون لا ينخدع بها إلا عديم الوعي، أو الإنسان الذي لا يملك الحكمة.
وهي التي تدفع المرء إلى البؤس والتعصُّب والتطرُّف والانغلاق والبُعد عن نور الوجود فيصبح معزولًا كُليًا عن عالَم الجمال..
عِش بلا انتماءات، بلا تحيُّزات، بلا طموحات، ارمِ عنك هذه الأمراض القاتلة، كُنْ طاهِرًا ولا محدودًا، واعتلِ صهوة المحبة، فهذه هي الحرية الصحيحة..
من الرائع أن يقفز الإنسان في الفراغ، أن يخرج من الأقفاص التي تجعله بلا روح، وأن يتطهّر من تلك الشهوات والأفكار التي تحيله وحشًا أو ظلامًا، فكم هو جميل الفراغ الذي نشعر فيه ومعه بالسلام الداخلي، والحيويّة الروحية، وصفاء البال، والتواضع، وعدم الكراهية..
والفراغ، يقول الحكيم أوشو، ليس أمرًا سلبيًا عند البوذيين، إنما هو أمر إيجابي، إنه يعني الانعتاق من القيود، الخروج من العبثية، إنه يعني الامتلاء بالجمال والهدوء من خلال الانغماس في التأمُّل..
وها أنا أمشي في الفراغ، وأعيش في الفراغ، ولستُ فارغًا تمامًا. الفراغ أكثر اتّساعًا من هذا العالَم الذي يخنقني!
- نص من كتابي (النافذة لا تعني شيئًا).