- كتب: أحمد السلامي
ما تعيشه اليمن من حرب منذ ما يقرب من عقد، وما خلفته من تداعيات، أثبت كم أن المجتمع بكل فئاته كان مكشوفا للوجع والفقر، وأثبت مدى الاحتياج إلى كيانات نقابية وجمعيات مهنية تقوم بدورها عندما يحدث الانهيار، وقد حدث الانهيار بالفعل، ولكن في غياب كل شيء: الدولة، النقابات، الجمعيات، الاتحادات المهنية، كلها دخلت في سبات الغياب والصمت.
(1)
البداية:
منذ أواخر الثمانينيات وما تلاها، أنهار العمل النقابي في اليمن بفعل فاعل، فقد رسخ في ذهن السلطة في صنعاء أن النقابات والتجمعات العمالية والمهنية على اختلافها، مجرد حواضن سياسية لليسار الذي كانت ترتعب منه، ومن مقولاته، وتصوراته لمفاهيم المواطنة والحرية والعدالة، والمساواة في الوظيفة العامة، على أساس الكفاءة لا الانتماء الجهوي والقرب من السلطة ومن مشائخ النظام الإقطاعيين.
وبذلك خسرت الحركة النقابية اليمنية من خلال الاستهداف المتكرر لكياناتها الشق الحقوقي، والخدمات الاحترافية التي كان يمكن أن تتطور لتقدمها لمنتسبيها كما تفعل كافة النقابات في العالم.
لا بل إن اليمن من البلدان التي (تتقدم إلى الوراء)، فعلى الأقل كانت مدينة عدن قد عرفت التنظيمات والنقابات العمالية منذ الأربعينيات، وكان لها صوتها وتأثيرها السياسي القوي الذي يذكرنا به اليوم الاتحاد الوطني التونسي للشغل.
ولست مختصا ولا مؤرخا ولا متابعا جيدا لكل التفاصيل، ورغم ذلك لا يمكن إنكار الهشاشة الذاتية وضعف التنظيم وعدم وجود وعي بأهمية العمل النقابي ودوره في حفظ حقوق مختلف طبقات العمال وأصحاب المهن الأخرى التي يمثل أصحابها نواة الطبقة الوسطى في المجتمع، مثل الأطباء والصيادلة والمحامين والمعلمين والمهندسين، ويضاف إليهم الصحفيين والأدباء والكتاب.
أما المصانع التي كانت البيئة المثالية لتشكل التجمعات العمالية فقد تم تفكيكها، وأكبر مثال على ذلك مصنع الغزل والنسيج بصنعاء وغيره من المصانع في عدن.
وما تبقى من نقابات تم تدجينها، بل تم إخصاء وإلحاق اتحاد العمال وجعله تابعا لحزب المؤتمر، إضافة إلى غزو مختلف النقابات من داخلها بكوادر موالية عملت على تحييد كل نقابة بهدف تمييع مطالبات الأعضاء وتعطيل أي تطور نقابي طبيعي.
وتضاعف نشاط السلطة في صنعاء بعد الوحدة في اختراق وشق صفوف النقابات وتحويل كل كيان نقابي إلى بوق مؤيد لخطوات الحكومة وإصلاحاتها الفاسدة التي دمرت مختلف الطبقات.
وأتذكر كيف كانت صحيفة صوت العمال بعد قيام الوحدة ذات صوت عال، ومثلها كانت مجلة الحكمة وبيانات اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، الذي ظل صوته عاليا منذ تأسيسه موحدا قبل الوحدة.
لكننا في النهاية خسرنا الصوت العالي والموحد للاتحاد، قبل أن نشهد تطوره ككيان نقابي معني في الأساس بشؤون أعضائه.
(2)
حال اتحاد الأدباء:
لا أنسى كيف أصبح أمر تولي دفن جثمان شاعر، أو جمع تكاليف علاج أديب، أو إنقاذ إعلامي من العمل في مهنة غير مهنته، أصبح من الأحداث التي تتكرر خلال السنوات الفائتة، وذلك ما يحرض على فتح ملف غياب أو تغييب العمل النقابي وأثره الفادح على فئات عديدة.
وسبق أن كتبت أكثر من مرة، أن ابتهاجنا بالبيانات التي كان اتحاد الأدباء يصدرها لم يكن مكتملا، بسبب عدم مراعاة الأولويات النقابية، إذ كنا نريد أن يبقى صوت الاتحاد عاليا وحاضرا في كل المواقف السياسية، لكن في الوقت نفسه كان يجب على قيادة الاتحاد الوعي بدوره النقابي ومسؤوليته تجاه الاهتمام بشؤون الأعضاء وتأمينهم اجتماعيا وصحيا.
أدمن الاتحاد إصدار تلك البيانات عديمة القيمة وعديمة الجدوى بالنسبة للأعضاء، إذ لم تكن تحقق لهم شيئا باستثناء تسجيل قيادة الاتحاد حضورها في الساحة وإثبات مواكبتها وتحفظها على الانحرافات، بينما كانت تنشغل وتنحرف كل يوم عن ابتكار مهام وآليات نقابية تفلح في إنقاذ حياة أديب دون الحاجة إلى استعطاف السلطة.
رسخ مؤسسو الاتحاد الأوائل لثقافة البيانات واحتفالات التأبين التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وأصبح مقياس النجاح بالنسبة لمن جاء بعدهم، مواصلة المسيرة نفسها: إصدارات بيانات النعي المتكررة وإحياء احتفاليات الرثاء التي تمتدح الأدباء الراحلين وتثني على إبداعاتهم بعد موتهم، بعد أن يكونوا قد مروا بحالة العجز عن السفر للعلاج أو دفع الإيجار!
وبالتالي كان يجب على اتحاد الأدباء (وغيره) أن يتطور إلى كيان نقابي حديث يستفيد من لائحة الخدمات التي تقدمتها كل النقابات في العالم، وبدلاً من مناشدة الجهات الرسمية لإسعاف أديب أو مداواة كاتب أو دفن جثمان شاعر، من شأن اتحاد الأدباء والكتاب إذا ما أصبح نقابة مهنية فاعلة أن يسهم مباشرة في رعاية الأعضاء والاهتمام بأوضاعهم الصحية واحتياجاتهم الإنسانية، وليس مطلوباً منه أكثر من ذلك.
وبعد أن يصل إلى هذا المستوى لا مانع من أن يصدر بيانات ومواقف سياسية تخدم الحقيقة والمنطق وتستهدف تعزيز الرشد السياسي لدى صانع القرار وتستنكر الانحرافات والتزوير وكل ما يؤدي إلى الإضرار بمصالح المجتمع.
وفي الواقع وبالنظر إلى معرفتي الدقيقة بأحوال كثير من أعضاء اتحاد الأدباء على مدى ما يزيد عن 3 عقود، أرى أن مهمته الأساسية (في حال نجحنا في إنعاشه وبعثه إلى الحياة من جديد) ليست طباعة الكتب والمنشورات ولا تمويل الرحلات الخارجية لقياداته، ولا حتى تنظيم المهرجانات الأدبية، فهذه كلها مهام تأتي لاحقا بعد أن يرسخ الاتحاد دوره النقابي الأساسي الذي أشرت إليه، وبعد أن يؤسس تقاليد للرعاية والاهتمام بأعضائه.
وأقول جادا وصادقا لا ساخرا: يمكن إيفاد قيادات الاتحاد التي ستفوز مستقبلا بمقاعد الأمانة العامة إلى أقرب نقابة عمالية، مثل نقابة سائقي النقل أو سيارات الأجرة، ليتعلموا منهم الوظيفة الأساسية التي ينبغي أن تنشغل بها أية نقابة في الدنيا، غير إصدار البيانات، وغير تمويل تذاكر السفر لتمثيل الاتحاد في مؤتمرات لا قيمة ثقافية أو نقابية لها!