- ضياف البراق
المثقف الحقيقي ينحاز فقط للطبقات المسحوقة، وللإنسانية دون حدود، ويبدأ كفاحه من هنا، ويلتزم بهذه المبدئية إلى آخر رمق من حياته، فهو لا يعنيه المجد الشخصي، ولا يسقط في توافه الأمور، وهو لا يكذب ولا يلعب ولا يقحم أنفه في كل شيء، إنه مناضل اجتماعي صادق وكريم وشجاع قريب من الجماهير، وهو لا يبدل مواقفه بدوافع تافهة، أو من أجل مكاسب شخصية، ورصيده الوحيد هو محبة الناس له، ومن هذا الرصيد يستمد قوته، وشهامته، وسلطته الحرة، وعلى هذا الأساس يستمر في نضاله إلى النهاية.
هل البخيتي مثقف حقيقي؟ ما هي إنجازاته المفيدة؟ ما هي مواقفه السياسية الوطنية الشريفة؟ ولماذا لم يكن ناشطًا تنويريًا قبل أن يترك جماعة الحوثيين؟ هل ناضل يومًا من أجل تحقيق مكاسب غير شخصية؟ ألم يكن متطرفًا ومتبجحًا عندما كان قياديًا سياسيًا حوثيًا؟ ثم حين تركهم وغادر البلاد ألم يصبح علمانيًا متطرفًا؟ وكان يكره علي عبدالله صالح، وينتقده بألفاظ قاسية جدا، وهناك حلقة قديمة من برنامج الاتجاه المعاكس يظهر فيها البخيتي بشكل حماسي وشرس ضد الرئيس صالح أيام ثورة الحادي عشر من فبراير، ثم صار البخيتي، ومن خارج الوطن، يمتدح علي صالح، ويهاجم الحوثيين، والثورة الفبرايرية بعد أن كان عضوًا ناشطًا فيها، واستفاد منها للوصول لشهرته الحالية، ومكانته الواسعة كسياسيّ جدلي ناجح في الباركور، وهذه التفاصيل يعرفها كل شخص مُطّلع على الشاشة والصحف..
لم أعد أفهم علي البخيتي؛ فقد كثر جدله، واتّسع جنونه الاستعراضي، وتعددت وجوهه وأشكاله، إنه يتلوَّن باستمرار، ويميل مع كل ريح، كما يُقال، لكنني أشعر إلى مدى عميق، أن هدفه الأعظم، في جميع الأحوال، هو المجد الشخصي. ومن أجل تحقيق هذا الطموح المجنون والرخيص، نراه يسعى من جميع الطرق، ويقع في تناقضات شتى، أو يقترف الأخطاء عن قصد، ولا يخشى مع ذلك أن يُقال ضده أي نقد. فالشخض المدّعي في كل شيء، يستطيع التبرير لأي شيء، كما بمقدوره اللعب على حبال عديدة في وقت واحد. ودائمًا ما نرى البخيتي ينجح في هذا العبث. نحن لا نحسده على شيء، ولا ننافسه على شيء. لسنا ضد أن ينجح الشخص، أي شخص، وإنما ضد أن يكون نجاحه هذا غير شريف، أو يأتي فارغًا من النزاهة والاجتهاد الذاتي. أنا لست ضد البخيتي، بل ضد ألاعيبه المكشوفة.
هو طيّب، كما يبدو، ثم خفيف دم وشجاع ومغامِر، أحب فيه تلك الصفات، وما عدا ذلك فإنني أشك فيه، وأكره فيه ذاك التلون المخيف والقفز من حبل إلى آخر، وتبديل المواقف. لا تستطيع أن تفهم مغزاه الحقيقي، أو أنا وحدي الذي لا يفهم هذا الدوران.
قبل ثورة الحادي عشر من فبراير الشبابية الشعبية اليمنية، لم يكن البخيتي معروفًا وبالتالي لم يكن لديه هذا الجمهور الضخم الذي يردد اسمه في كل مكان. البخيتي، شارك في هذه الثورة، ولعب فيها دورًا إعلاميًا لا بأس به، على حد علمي، ومن خلال دوره ذاك استفاد بشكل كبير كما جرت عادته العجيبة في الاستفادة من كل عاصفة أو موجة أو موضة، وبأقل جهد وخسارة يصل إلى المرمى. وها هو الآن يتنكر لها، ويسخر منها، ناسيًا ما جناه منها. هو عبقري كامل النشاط وسريع التحوُّل في مجال الانتهازية، فقط، ويتقن فن استغلال الفرص الدسمة، واقتطاف الثمرات الناضجة التي لا يستحقها، ضاربا بالنزاهة عرض الحائط. هو يحقق مكاسب كبيرة بتضحيات تافهة جدًا، وأحيانًا يصل إلى أهدافه البعيدة دون أن يقطع تلك المسافة الطويلة. يرسم خطته ويحدد هدفه بدقة وينطلق في القفز، والنط، واللطش، ويحرز النتيجة المطلوبة في زمن قياسي لا يصدقه خيالك. إنه ينجح بامتياز في تحقيق الثراء والشهرة مستفيدًا من جميع الأدوار التي يلعبها. ينشط في الفوضى والصمت، في الغموض والوضوح، وفي كل اتجاه يتحرك، ويرقص، ولا بد أن يكون متطرفًا في كل عراك يخوضه، ولا يدخل أي معركة إلا وقد نال ثمنها مُسبقًا. هو مناضل لنفسه في المقام الأول، ولا يضحّي بأي شيء أو جهد من أجل الصالح العام. مصلحته الشخصية هي أولًّا وهي فوق كل شيء، وما زاد على ذلك فلا بأس إن ذهب إلى مستفيد آخر.
ليس مفكرا ولا تنويريا حقيقيا، ولا أفهم وجهه من قفاه أو لسانه من كوعه. هو تاجر وصياد فُرَص وليس مناضلًا سياسيًا أو مثقفًا نضاليًا. لو استطاع أن يكون إلهًا لفعل. ولو دخل مع مايكل جاكسون في منافسة في الرقص، لهزمه على نحو غير متوقع. حقيقته أنه جريء بلا حد، ولا يبالي بالخجل والحياء والنزاهة، ومن هنا هو سريع الوصول إلى القمم الزائفة أو المجد الفارغ. البخيتي هو يساري يملك قصرًا في الأردن، وأرصدة غير قليلة في البنوك الأجنبية! سريع الحركة ويطوي المنعطفات دون صعوبة مثل دراجة السباق الحديثة جدًّا. البخيتي لا ينام ولا يجد الوقت لذلك. يتقافز، يركب الأمواج الرائجة في السوق، يغيّر جلده ولسانه وملامح وجهه وشكله إذا لزم الأمر أو لم يلزم، فالأهمّ هو نوع الجائزة أو حجم المبلغ، الأهم، بمعنى أدق، هو الوصول إلى الذهب. يقول إن هدفه هو تحرير عقول الناس، والصحيح هو تبليط البحر، أو تحويل الماء إلى رمل. هو لا يخدم التنوير العربي ولكنه يضعه في دائرة الشك؛ فهو يغازل حكومة إسرائيل، ويُمجِّد كل ما هو غربي، ويصرخ في العرب أن يتحرّروا أو يتحللوا من مكوِّنات هويّتهم، أو من كل ما يُبقيهم متماسكين وصامدين، نفسيًا واجتماعيًا، في وجه الأخطار الداخلية والخارجية في آن معًا.
قال إنه لا يغير مبادئه وإنما يغير آراءه فحسب، وإن كان لا يستقر على رأي محدد فلأنه مُعارِض دائم للسلطات. لكن دوران هذا المعارض الدائم، وجريانه المتلوِّن يثبتان العكس. ثم ما هي مبادئه؟ الجواب لستُ مطالَبًا به، بل هو متروك لمن أراد أن يفكر.
إن أسهل شيء على المرء هو أن يلعب دور المُخرِّب، أو إتقان حرفة الشر، فالنبوغ في الشر لا يتطلب تلك الشروط الصعبة التي تقف عائقًا أمام فاعل الخير، أو المصلح الاجتماعي. على أي صعيد، تكون عملية الهدم أكثر سهولة من عملية البناء. فرسم اللوحة الفنية ليس سهلًا مثل تمزيقها. ثم إنه من غير المعقول أن البخيتي استطاع أن يصنع كل هذه الشهرة، وهذه الثروة، خلال هذه السنوات القليلة فقط، من دون أن يدعمه آخرون كبار من وراء الستائر غير المرئية. لقد أصبح البخيتي السياسيَّ اليمنيَّ الأكثرَ شهرةً، والأسعد حَظًّا، والأثقل وزنًا في الداخل والخارج، هذا ما نراه على شاشات الإعلام العربية البارزة، وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي.
يبالغ علي البخيتي في خطابه التنويري غير المتزن ضد التراث الديني، والإسلامي خصوصًا، وفي سخريته من تلك التفاصيل اللامعقولة ذات الطابع اللاهوتي. النقد حق نعم، ولكنه يمارس نوعًا من النقد المستهتر، وأحيانًا نوعًا من الضجيج الساخر المُنفلِت من المسؤولية التي من دونها لا يُكتب النجاح لأي نقد كان، وانظروا إليه؛ إنه يندفع بحماس شديد كي يثبتَ لنا أنه بالتأكيد قد أصبح تنويريًا حقيقيًا، وأنه لن يعود إلى رجعيّته القديمة، يا له من متقلِّب جريء على الدوام، ويريد أن يكون كلَّ شيء. أنا مع التنوير المتزن، وأرفض “الفَشْرة” الفكرية الهوجاء. أمّا الأفكار التي يقولها أو يكتبها فهي ليست جديدة، وليست من إبداعه الخاص، بل لم تعد شهية في شيء.
لدى هذا الرجل مقدرة هائلة على إثارة الضجيج، ولديه أيضًا جرأة غير محدودة على أن يصير أي شيء في أية لحظة. إنه لا يهدأ أبدًا، ولا يكفُّ عن استعراضه الجدلي المستمر؛ لإغاظة خصومه واستفزازهم أكثر. التنوير لا يكون بهذا الشكل النرجسي المفرط. التنوير كالفن، له ضوابط وشروط محددة ودقيقة. لا ينجح التنوير إذا كان بهذه الطريقة العبثية. لكن البخيتي يريد أن يركبها من الرأس! وهو، في الحقيقة، لا يستطيع أن يفعل غير ذلك.
وهو كذلك في المعترك السياسي، لا يهدأ، المبالغة واللعب منهجه، اللف والدوران أسلوبه، يراوغ، لا يخسر أهدافه، بل يربح في كل الظروف والأحوال، يتخبط ولكنه يصل بدقة إلى مراده. والخلاصة أن هذا الرجل المثير للجدل، غير نزيه، أو يفتقر إلى الكثير من شروط وأخلاقيات التنوير والعمل السياسي البنّاء، ولا رجاء ولا جدوى منه، ولا يمكن أن يظل مثيرًا أو مقبولًا إلى النهاية، تلك هي الخسارة الأشد إيلامًا بالنسبة إلى شخص مهووس بالأضواء!