قصة قصيرة
- رستم عبدالله
وضعت الحرب أوزارها أخيرا بعد عقد من الزمن،عاد رفيق وأسرته لمدينتهم ومنزلهم بعد سنين قضوها في النزوح، لم يكن يشطح ولا حتى في أوسع خيالاته أن تمتد وتطول الحرب الضروس كل هذه الأعوام المديدة.
كان يتأمل المدينة بشغف ولهفة، لقد تغيرت كثيرا، وطمست معالمها، لم يستطع تذكر كثيرا من الأماكن، حاول هو وزوجته فلم يفلحا، وكأن عطب أصاب مركز التذكر والاسترجاع لديهما، وكأنهما قرويان ساذجان يرتادان المدينة لأول مرة في حياتهما، ما هذا الذي يحصل لهما؟! ألهذه الدرجة عبثت الحرب بعقولهما!! حتى المغترب الذي يبتعد عن وطنه عشرات السنين يعود وذاكرته حديدية يتذكر. كل الأماكن والوجوه التي عايشها يوما ما، ماذا صنعت الحرب، وكيف تمكنت من فرمتت أدمغتهم؟! مع هذا تبقت في الذاكرة تفاصيل صغيرة، ترسم له معالم طريق العودة للمنزل -وطنه الصغير -.
عند أحد التقاطعات
التفت رفيق لسائق التاكسي الذي يجلس بجواره
قائلا له:-لو سمحت انعطف يسارا.
هز السائق رأسه بتفهم، ولوى المقبض بقوة،
في الخلف كانت زوجته واولاده يتطلعون عبر زجاج السيارة لحجم الدمار و الخراب الذي حل بالمدينة، وهم مشدوهين، ومستغربين من هول مايشاهدون، ومن الهدوء والسكينة اللذين يغشيان المدينة، وكيف أصبحت الشوارع، والأماكن مسطحات كثيفة من الخضرة. المدينة الصاخبة التي كانت عند نزوحهم تضج بالحياة والضوضاء والازدحام صارت على النقيض تماما، شوارع متسخة وخالية،تكاد تكون فارغة، المحلات موصدة بالكاد كل نصف كيلومتر تجد محلا مفتوحا، المارة بالشوارع قلة لاتكاد تذكر، كانت مدينة أشباح بما تحمله الكلمة من معنى.
وصلوا لحارتهم،
- على جنب لو تكرمت، هنا من فضلك. نطقها رفيق بفتور، وهو ينفح السائق أجرته.
حملق رفيق وأسرته في الدمار والخراب الذي حل بالحارة كان السكون يلف المكان، بدا الضيق والكرب يخنقهم باكرا، تبخرت فرحة اللهفة والشوق التي ظلت تنخرهم طويلا في بلاد النزوح، توقفت بغتة عقارب الحنين التي ظلت تتك في أعماقهم بحرقة، طوال عشر سنوات.
تأملوا في نوافذ المباني الجرداء علهم يجدوا نفسا يتحرك خلفها،لكن الصمت الوبيد كان هو الجاثم على تلك المباني،
انعطفوا يسارا بما يحملونه من متاع، غابوا في زقاق ضيق، لفحتهم برودة ووحشة،استقبلهم في نهايته باب عمارتهم الأسود المهيب،صفع مآقيهم بقوة بمنظره مترنحا على الجدار وهو أيل للسقوط، تصاعد وجيبهم، صعدوا السلالم في وجل،لم تعد هناك أبواب للشقق، ولانوافذ فقط تجاويف توحي أنها كانت هناك ذات يوم، كانت شقتهم خالية الوفاض، عدا بعض الأغراض التي لاتمثل قيمة بقيت على حالها، كسرير صدىء ،ودولاب خشبي قضم الفئران معظمه، وكان برازهم الذي غطى المكان كفحم مبشور يزكم أنوفهم ويثير الاشمئزاز.
التفتت زوجة رفيق إليه، وهي تبكي بحرقة، شقا عمرنا وزهرة أحلامنا ضاع،ليتنا لم نعد، وليت الحرب اللعينة ما انتهت على الأقل كنا بقينا على أمل أن أشياءنا الجميلة مازالت!!
صوت سيارة تقترب، تغطي على صوت رفيق وهو يتحدث: كل شيء سيعوض – يا جميلة- الحمدلله إننا مازلنا والأولاد بخير،
الأولاد يتأملون أمهم، وهي تنتحب بحزن وأسى، يقتربون منها واجمين لمواساتها، تحتضنهم بخوف وحنان..
يهم رفيق بقول كلمة ما أح…..
يقاطعه صوت صراخ صادر من بئر السلم،
يهرع للأسفل يجد جارتهم وبناتها الواصلين للتو هي الأخرى في صراخ وعويل لسرقة منزلهم،
يلعن بصوت عال اللصوص، ويدعو عليهم بالهلاك والدمار.
مر يوم ثقيل عليهم وكأنه دهر، انتظروا عودة مزيد من النازحين دون جدوى، لقد غسل الناس أيديهم من المدينة، منذ زمن بعيد ،عندما تواطئوا جميعا وهجروها دون مبرر، وتركوها مرتعا للعيارين واللصوص،
كأن الحرب كانت فرصة لا تعوض لهروبهم المريب لم تعد تغريهم، لم يربطهم بها،حب وحنين، ذاك الكلف الشديد الذي كان يعشش في الأحشاء مات،وأعاصير الشوق التي كانت تعصف في الروح غارت..
عرف الآن لماذا لم يعد الناس من أماكن نزوحهم التي صنعوا لهم دُنا جديدة فيها، وتأقلموا فيها، ونسجوا ذكريات وحياة أخرى، أصبحت مدينتهم مفرغة تماما لقد هجرها تجارها، وأطباؤها، صناعها، حرفيوها ، وأدمغتها،لم يكن يربطهم بها رباط عشق مقدس منذ الأول لمرابع الصبا، ومسقط الرأس، وهوى الأيام والأحلام بل رباط مصلحة، أينما وجدت مصلحتي فذاك بلدي.
أضمحلت المدينة تماما، واندثرت، وصارت أطلالا وبقايا مدينة، ويقال أن لعناتها صارت تطارد أبناءها المارقين الذين ولوها جحودهم في أحلامهم..