- محمد عبدالوهاب الشيباني
أن يُذكر اسمه منفرداً بدون تفخيم في أحاديث البُسطاء من الناس في المنطقة التي أنتمي إليها، فتعرف تلقائياً أنه المقصود بعينه، خصوصاً إذا أرتبط الأمر بموضوع الاستجابة الإنسانية التي دلفت إلى كل بيت بماله، وليس لصاحبها من مطمع في هؤلاء الفقراء، سوى أن يرى ابتسامة الجميع حاضرة، وحياتهم أكثر طمأنينة.. مطلقاً لم يطمع في أصواتهم، لأنه لم يكن ذات يوم مرشحاً سياسياً، مثلما لم يطمع في ثنائهم بوصف الأخيرة مدخلاً للشهرة عند عشرات ممن نعرف من أغنياء الناس، لأن الرجل، ببساطة، ليس بحاجة إلى ذلك.
وإن ذُكر بملفوظ الأستاذ دون إلحاق اسمه إلى تبجيل اللقب فتعرف أيضاً أنه المقصود، خصوصاً إذا تم تناوله في سياق أحاديث المئات من أبناء الفلاحين والعمال والموظفين الفقراء الذين شملهم بالرعاية وحولهم إلى أسماء إدارية مهمة في عوالم الوظيفة الناجحة التي دخلوها شباناً عاديين، وأنصاف متعلمين، فصاروا اليوم فاعلين اجتماعيين ورجال أعمال في بيئة شديدة البساطة والتنوع الاقتصادي والاجتماعي.
منذ أكثر من ثلاثة عقود وأنا أسمع به وعنه… أسمع عن مجموعة شركات “العالمية” التي باتت تستوعب مئات العاملين من أبناء المنطقة التي أنتمي إليها، وبقية مناطق اليمن، في وظائف لم تقهم شر العوز والحاجة فقط، بل ونقلت أوضاع أُسرهم إلى ما هو نعيم، قياساً إلى ما كان سيكون حالها، لو كان أبناؤها عاطلين أو عاملين في وظائف هامشية في مؤسسات حكومية أو خاصة أو في مهن منمطة يمارسها أهل المنطقة (مطاعم ومخابز)… أسمع عن “مؤسسة الخير للتنمية الاجتماعية”، ومشاريعها التعليمية والتدريبية والطبية والإنسانية والاجتماعية في القرى والأرياف الفقيرة، مع مشاركة المؤسسة في الوقت نفسه في أكبر المحافل والمنتديات المحلية والدولية التي تهتم بالأعمال والمبادرات المجتمعية المتميزة، وذلك بهدف تبادل التجارب ونقل صورة واقعية عن هموم وتطلعات اليمن في الجانبين التعليمي والإنساني… وعن المعهد الذي يحمل ذات الاسم، والذي سهّل للطلاب المميزين من الفقراء والمعدمين والمهمشين مواصلة التعليم والحصول على منح جامعية… اسمع عن مشاريع حماية الأراضي في الأودية وعن صيانة وتحسين الطرقات، وعن منح المعلمين الشهرية ومكافآت التفوق للطلاب… وعن تجهيزات المستشفيات… و الأهم، أني اسمع كل ذلك وأكثر من أصدقائي المحترمين جدا عن الرجل المحترم جدا جدا أيضاً…
كان لي خال حكّاء يحدثني عنه كصديق وفي ويحدثني عن أبيه سعيد محمد قريبه في النسب، الذي كان يعمل “طَبَلاً” لنقل رسائل الناس وحوائجهم من عدن إلى قرانا والعكس، حين كانت عدن ملاذ الناس والجنة التي حولتهم إلى سرديين كبار عن فتنتها.
شخصياً، عرفت أباه في أواخر أيامه حينما كنت طفلاً، وعرفت أخاه الأكبر سلطان حين كان يقوم بوظيفة أبيه كطَبَل وكانت له من مهابة أبيه الكثير، وعرفت أخاه علي نجاراً، الذي لم يزل مسكننا في القرية يحتوي سريراً خشبياً من صنع يديه الماهرتين، حين كانت منجرته بـ”وادي المدام” في تعز قبل أربعين عاماً.
سمعت عنه عشرات القصص الجديرة بالحفظ والتدوين … التي صنعت من الإبن الفقير الذي هاجر أواخر الأربعينات شاباً صغيراً إلى الحبشة وعمل في مطعم تابع لأحد المهاجرين المرموقين من قريته، ليصبح في ما بعد اسماَ وازناً في عالم صناعة السياحة والسفر والبريد السريع والفندقة وخدمات الحراسة الأمنية وتأجير السيارات ومؤسساً للمؤسسات اجتماعية رائدة في مجال التنمية المجتمعية، مع اهتمام خاص بالجانب التعليمي والتأهيلي لشباب وشابات بلادنا البكر.
سمعت عنه، ولم ألتق به وجهاً لوجه إلاّ حين عاد إلى البلد وحيداً بدون رفيقة كفاحه التي فقدها في واحدة من سنوات الحرب 2018م هناك في بلدها البعيد إسبانيا… لم ألتق به عن طريق أحد أقاربي أو معارفي القرويين، بل التقيت به، وبالصدفة، عن طريق أصدقاء كبار لهم مكانتهم الثقافية والاجتماعية والسياسية في البلاد وليس بينهم أحد من أبناء قريتي… هم أصدقاؤه أيضاً، ويعرفون تفاصيل حياته كأنه ولد وعاش معهم.
التقيت به مرتين وخلال فترات مُتقاربة في شهر مارس 2019م … لم تجرده السنوات وأحزان الفقد من حيويته وحضوره الذهني اللافت الذي يتصف به على الدوام، رغم بلوغه منتصف العقد الثامن، أطال الله عمره.
وصار اللقاءان لقاءات متصلة وتواصلات مستمرة لم تنقطع منذ أعوام ثلاثة توِّجت بمشاريع كتابة متعددة، ابتدأت مع سيرته الشخصية ( الحياة كما عشتها) ثم الكتاب التذكاري لمؤسسة الخير في عشريتها الأولى، قبل أن نعمل سوية في مشروع عمره الكبير (دراسة الآثار المتبادلة للهجرة اليمنية) ضمن فريق مكون من عشرين باحثاً متخصصاً في قضايا التاريخ والاقتصاد والاجتماع والفلسفة والسياسة والإعلام والأدب والإحصاء من الجامعات اليمنية ومراكز الأبحاث في الداخل والخارج.
المشروع الذي أشرف على تفاصيله منذ الكلمة الأولى حتى نهايته، غير أن القدر لم يتح له رؤيته مطبوعاً بأجزائه التسعة، فقد رحل وهو في طور الطباعة، مثله مثل كتاب (الأصدقاء)، لكنه كان قد أكمل تشطيبات كتاب السيرة وتمت طباعته خارج اليمن، وسيكون متاحاً مع بقية الكتب في وقت قريب.
لروحه السلام ، ولذكراه الخلود.