- قادري أحمد حيدر
- الإهداء :إلى صديقي الجميل والنبيل الفقيد الشاعر / محمد حسين هيثم .
أرى أن الشعر ينطبق عليه ما قاله أدونيس في المقطع الأخير في قصيدته “مزمور” من ديوان أغاني مهيار الدمشقي التي لم تعدل .”أنه الريح لا ترجع القهقرى والماء لا يعود إلى منبعه يخلق نوعه بدءاً من نفسه لا أسلاف له وفي خطواته جذوره يمشي في الهاوية وله قامة الريح”1″ أن في ذلك القول الشعري لأدونيس أصدق تعبير عن ماهية الشعر والكلمة ، وفي البدء كان النص الأول ، كان الشعر ، في البدء كانت الكلمة الأولى المتولدة عن الفعل الخالق لها ولا معنى بعد ذلك لما يسميه البعض “الصياغة النهائية” ، لصورة في مقطع شعري أو قصيدة سبق لهما أن اكتملتا قبل سنوات -إن لم نقل عقود- داخل الذات الشاعرة ما دامت علاقة الشاعر أو المبدع بالكلمة أو النص الشعري هي حالة سيرورة إلى مالا نهاية له في الزمان .
ومسألة علاقة المبدع بنصه بعد سنوات من نشره في مجلة أو ديوان ، وهل يجوز له أن يعدل أو يغير فيه وما مدى هذه الحدود وما معنى الصياغة النهائية لما سبق أن نشر ؟ ، أسئلة هي من أحد جوانبها ليست مسألة جديدة أو معاصرة فقد سبق أن تجلت هذه الظاهرة في بعض حالاتها الفردية في القرون الماضية ولكن ليس بالصورة التي نتحدث عنها فيما يسميه البعض “الصياغة النهائية” ، لنصوص قديمة ، وفي تقديري أن علاقة المبدع بنصه في مراحله الأولى وقبل أن يكتمل النص في ذات الشاعر فإنني أرى أنه من حقه أن يمارس مع نصه ما يراه ضروريا وموجبا للتدخل فنياً ومضمونياً بالتعديل والإضافة وحتى التغيير الجوهري في بنية النص كله حتى يصل الشاعر إلى قراره النهائي باكتمال النص ، وأن ليس هناك ما يستوجب عدم نشر نصه بعد أن تجلى وتحلى النص بكل زينته ، أو بعد أن لبست القصيدة حلة عيدها وتوجت نفسها على عرش جمال ونفس وعقل الشاعر وروحه ، أي بعد أن استكمل النص زمنه الشعري الإبداعي ، واحب هنا التأكيد على أن مناقشتي تنحصر على النص الشعري وعلى المبدع الشاعر دون سواه.
ذلك أن للقص أو الروية تحديداً عالمهما الخاص ، فالرواية تخضع في الغالب لأعمال تخطيطية وقوالب فنية تدريبية وأشكال كتابية مدروسة بعناية ، وإلى عملية تجميع للمفردات والخطوط المشكلة للعملية السردية الروائية ، يدخل في بعضها التوثيق التاريخي ، والتقارير ، والبيانات الصحفية ،والاستدعاءات التراثية الواعية والحكاية .. وإلى غيرها من العناصر التي تفصلها وتميزها عن سياق إنتاج النص الشعري ، مع أن الشعر اليوم يتماهى بشكل أكبر داخل بنية العمل الروائي والقصة القصيرة بشكل أوضح وأكبر. ولذلك سأكتفي بالدخول إلى قراءة علاقة الشاعر المبدع بنصه الشعري.
إن التدخل أو التعديل الذي قد يؤدي إلى التغيير في النص بعد زمن طويل من ولادته واكتماله في روح الشعر ، والشاعر وعقله الابداعي هو بمثابة كتابة نص جديد ، وليس كتابة على الكتابة ، لأنه نص يقوم على إلغاء نص سابق ، كان يمكن الإبقاء عليه كما هو وكتابة نص جديد بمعزل عن مفهوم أو ظاهرة “الصياغة النهائية” لنص قديم ، خاصة وأن النص القديم قد تم نشره وظهر في ديوان وفي أعمال كاملة قبل سنوات طويلة من الصياغة النهائية المزعومة .
وفي تقديري أنه في مثل هذا العمل تنطوي ظاهرة تحطيم للبنية الداخلية لنسيج التجربة الشعرية للشاعر التي من خلالها نقرأ مراحل تكون وتطور الذات الشاعرة للمبدع في هذه القصيدة أو تلك ، وفي هذا الديوان أو الآخر حيث نرى أنه مع ذلك التعديل أو التغيير إنما تتم ممارسة قطع ، وفصل ، مع إمكانية متابعة روح تجربة الشاعر في خيوط تجلياتها الشعرية الإبداعية المتصلة والمتواصلة ضمن نسق فني / حياتي ، تطوري مترابط متغاير ومتحد ، منقطع ، ومتصل ، وظاهرة “الصياغة النهائية” ، تجعل إمكانية قراءة ومتابعة سيرة النص الشعري في توقها المتواصل في غاية الصعوبة .. ومن الأفضل بالنسبة لمثل هذا الشاعر أن يحتفظ بروحية نصه كما هي لأنها جزء من بنية ذاته الشاعرة ، لأن بإمكان هذا الشاعر أن يعيد مثل تلك الصياغات اللا نهائية – وليس النهائية كما يذهبون إلى ذلك – في داخله ما دامت قلعة روحه معتمرة وعامرة بالحب والجمال والشعر، لأن زمنه الشعري والجمالي لا يمكن أن ينضب ما دامت علاقته بالشعر والكلمة والإبداع في حالة تجاوز ونفي ابداعي خلاق .. هي سيرورة تعيش حالة ترق وتماه مع صورة مثال الشعر والجمال في صورته المستقبلية واللا متناهية ، وليس في صورة “الصياغة النهائية” ، لأنني أعتقد أن مفهوم أو ظاهرة الصياغة النهائية ، لنص شعري قديم وبعد سنوات من اكتماله هو بمثابة إلغاء لأوراق شعرية ثبوتية ، في بطاقة رحلة الشاعر مع الشعر ، والشعرية . هي سفر رحلته مع الشعر ، ومع نفسه ومع الثقافة والواقع والتاريخ سنجد أنفسنا معها كقراء أو نقاد للنص الشعري نقف أمام نصين متداخلين ، ومفترقين وغير متألفين في الآن نفسه ، بل إن البعض قد يجد في النصين عبارة عن نص واحد في صياغات متعددة ، ثم ما الحكمة الفنية والجمالية والحياتية والشعرية والثقافية والشخصية من ذلك؟! وهل هو خوف الشاعر من أن يحاسب النص نقدياً عليه بعد أن وجد نفسه بعد زمن متجاوزاً له فنياً وابداعياً؟ مع أن ذلك النص قد أصبح في ذمة الحكم النقدي في زمنه الشعري ، وأتصور أن في محاولة البعض تأسيس مثل هذا النهج من إعادة الصياغة لنصوصهم الشعرية القديمة المضمومة في ديوان بعد سنة أو عشر سنوات أو أكثر ، وكأنهم يهفون إلى ممارسة عملية قطع إبداعية مع مراحل هامة أو غير هامة فنياً من تاريخ تطور ذائقتهم وثقافتهم الشعرية والابداعية وهم بذلك ينسفون أو يلغون أو يسقطون لحظات شعرية من حلقات سلسلة تشكل تاريخية وجدانهم الفني وخيالهم الشعري الابداعي ، وكأنه ليس هناك علاقة وصل واتصال وتفاعل وترابط بين نقطة البدء التأسيسية الواعية للحظة الأولى بالشعر ، وبين مراحل ونقاط التحول والوصول التالية . وإذا كان مثل هذا الفصل أو ذلك المنطق من التفكير القطعي والعدمي مرفوض وغير مقبول على مستوى الفكر والثقافة والذاكرة التاريخية ، فإنه بالقطع غير محمود ولا مبرر له ..خاصة عندما يتعلق الأمر بمحاولة تفكيك وتقطيع مراحل نشوء وتكون لحظات تجليات الروح الشعرية- علماً أن الصياغة النهائية لا يمكنها أن تلغى ذلك- فالزمن الشعري الابداعي هو زمن متصل ومنفصل بالدلالة الشعرية الابداعية ، هو زمن يتحرك داخل بنية التجربة الشعرية المتكاملة للشاعر لأن وحدة التجربة الشعرية في سياقها العام إنما تكون من خلال ذلك ، اللحظات المتصلة والمنفصلة ، والمتوحدة في سيرورة لا نهائية ، وليس في صياغة نهائية.
ولا يمكن لقارئ النص أو ناقده الأدبي إلاَّ ان يرى في ذلك ، تدمير بنية النسق الشعري وسياقات تفاعلاته وامتداداه في الزمن وتكامله في سيرة رحلة الشاعر مع نفسه ، ومع الشعرية ، ومع الواقع من حوله مما قد يتعسف القراءة النقدية الأدبية للنص ويحملها ما لا تحتمل ، فبأي شروط نقدية يقدم الناقد قراءته للنص ، وفي ضوء أي سياقات نقدية أدبية يتعاطى مع النص في صيغته النهائية حسب تعبير البعض؟ ثم ما هي الضرورة الفنية والشعرية لنص الصياغة النهائية ؟ وكيف سيكون حقيقة علاقته بالنص القديم أو النص الأول والأصلي الذي تأسس عليه وارتكزت رؤيته على مقومات هيكله البنائي والتعبيري في مثاله الأول ، وهل هو تنويع بسيط على الأصل أم هو بناء ومعنى مغاير ومفارق ؟ أن نص الصياغة النهائية لا يفتح أمام الناقد الدخول إلى عوالم الزمن الشعري للذات الشاعرة في مراحل تحولاتها المختلفة وبالتالي الدخول بسهولة ويسر إلى نسيج الروحية الشعرية العامة للشاعر ، لأن الذات الشاعرة ليست حالة نهائية أو حالة ثابتة أو كيان مستقر ،بل هي حركة متصلة في الزمن الشعري والثقافي الإبداعي هي ديمومة تحول أبداً في السيرة الذاتية لعمليات تحول الشاعر في الذات وفي الآخر ، في الزمان وفي الثقافة ، في أواخر العام 1973م قدمت إلى الصديق الشاعر الكبير عبدالودود سيف أطلب منه كتاباً نقدياً للشاعر والناقد العربي الكبير علي أحمد سعيد “أدونيس” ، فأختار لي كتابه “زمن الشعر”ولن أقول أكثر من ذلك في هذا السياق . ومن هنا رحلة الشاعر ، هي ذلك الاتصال ، والانفصال ، التقاطع ، والتوحد ، مع زمن الشعر ، في ذاته ، ومع الآخر ومع مفردات الواقع والفن للارتفاع بالذات إلى مصاف الشعرية المثال عبر الوعي الجمالي والتجربة الفنية ، والخبرة الثقافية الحياتية ، وليس عبر القطع والفصل في صورة “الصياغة النهائية” ، فالنص يحمل روح اللحظة الشعرية وتكوناتها وتفاعلاتها وانفعالاتها ، واللحظة الشعرية تفرض لغتها الخاصة ، بناءها المستقل ، تراكيبها ، محمولاتها النفسية والانفعالية والوجدانية ، وهي بهذا المعنى لحظة لا يمكن ان تستعاد في ذاتها ، ولذاتها ، ومن هناك فالكلام عن “الصياغة النهائية” لدواوين شعرية قديمة أو حذف لديوان من جملة الأعمال الكاملة ، أمر لا أستطيع أن أفهمه كقارئ عادي ، وكما قال هراقليطس “إنك لا تنزل النهر مرتين” فإن الشعر قطعاً لا يستطيع العودة إلى نهر زمن اللحظة الشعري مرتين ، إلا ناقداً لها من خلال تجاوزها الشعري في نصوص لاحقه . فكما لا يمكن أن تخلق حالة تماثل أو تمثل أو تشابه أو تطابق بين لحظات الزمن الإبداعية ، فإنه لا يمكن أن تستعاد اللحظة الشعرية بنفس تمثلها أو تماثلها مع لحظة إبداعها الأولى ، التي غدت جزءاً من القيمة النقدية التاريخية ،وجزءاً من القيمة النقدية الشعرية العامة لتجربة الشاعر في سياق رحلته مع الشعر .لذلك أنا لا أذهب مع من يقول بــِ “الصياغة النهائية” ، لأعمال تم تخليقها وتوليدها قبل سنوات عديدة ، وبعد أن تم نشرها باسم هذا الشاعر في ديوان أو أعمال كاملة ، ومن هنا عدم تحبيذ بالإضافة والتعديل ، والتغيير ، في نصوص غدت جزءاً مكوناً من بنية ذات الشاعر تحت أي مسمى كان ، أيديولوجي أو لغوي أو جمالي..ألخ فحين يكتب النص ذاته في وعي الشاعر وبشروط لحظة زمنه الشعري الإبداعي التي شكلته فإنه بذلك يكون قد حدد المعنى النهائي لبنائه الشعري ولاسمه ولعنوانه وهويته ، وهو ما لا يمنع الشاعر ذاته من أن يخلق بعد يوم أو أسبوع أو سنة ما يتجاوز ذلك النص بزمن شعري نوعي وإبداعي يقفز بتجربته الشعرية التي مصاف شعرية أرقى وأجمل ، تلك هي الحياة في سيرورة تشكلها الإبداعي ، فلماذا أو ما هي مبرر ظاهرة “الصياغة النهائية”، عدا أنها محاولة للي عنق اللحظة الشعرية مع ما يستجيب وتحولات كينونة الشاعر أو المبدع ، في زمن مغايير ومتجاوز موضوعيا ، وفنيا وتاريخيا لزمن إبداع النص الأول ، الذي أكتمل وفق شروطه الذاتية الخاصة.